الجمعة، 26 مايو 2017

• الشنب

الممتزج بأخلاقنا وتقاليدنا ورجولتنا وقدرتنا الفائقة على الصمود... المتناغم مع دفء الفم وارتياح العيون. إذا كانت الحواجب هي أول ما يثيرك ويجذبك في وجه المرأة، حيث درجة تقوسها وغلظتها وكثافتها ورُفعها ودقتها، قبل الفم والخدود ولون العين، فإن الشنب هو أول ما يثيرك أو يضايقك في وجه أي رجل، حيث يظل الشنب عنوانا أو يافطة على وجه الرجل، وعن طريقه تستطيع أن تستنتج شخصية من تشاهده أو تتحدث معه، حيث يظل الشنب قادرا على إظهار شخصية هذا الرجل: خشن أو هادئ الطباع، حاد أو ماكر أو خبيث أو حتى أبله، كل ذلك تستنتجه فور رؤيتك لشاربه، وبالطبع كل ذلك سوف لا تعلمه إذا كان الوجه الذي تنظر إليه من دون شنب.

لذا ظل شنب (محمد أبو سويلم) والذي قام بدوره الفنان الكبير شرير الشاشة العربية محمود المليجي في فيلم الأرض عن رواية عبدالرحمن الشرقاوي، مهيمنا على عقلي وفكري منذ سنوات الطفولة حتى الآن، كان هذا الرجل عائدًا مع رجال القرية من المركز - مكسور الروح - وهو يضع على وجهه (التلفيحة) كي تخفي ما أصابه بيده وكي يداري وجهه بعد أن تم حلق شنبه في المركز، وهي أكبر إهانة لأي رجل، ومع أن محمد أبو سويلم كان معه الكثيرون من أهل القرية والذين نالوا الضرب والصفع وشرب ماء البول، فإنه هو الوحيد الذي كان مكسور الروح والجسد، ملابسه ممزقة وصديريه مثقوبا، وكأنه مطعون من الداخل والخارج، ليظل هذا المشهد يفح بالألم والانكسار والخنوع والذل وكسر رجولة وروح أي رجل، وفي المقابل كان (شنب عتريس) كبير الدهاشنة والذي قام به الفنان محمود مرسي في فيلم (شيء من الخوف)، شنبا تقف عليه الصقور، شنبا عريضا، حادا، بارزا، يدل على الطغيان والجبروت والقوة والقسوة، شنبا قادرا على إرباك أقوى وأعتى الرجال، شنبا يثير في النفوس الرعب والخوف، فيرضخون له وينفذون أوامره.

وبين حلق شنب محمد أبو سويلم في المركز وجبروت شنب عتريس كبير الدهاشنة، يتأرجح الشنب المصري، سواء في الصعيد أو بحري أو الصحاري، وإذا كان ما يميز رجال الصعيد هو شنبهم، والذي يجب أن نوضح هنا أن الصحيح كلمة (الشارب): حيث إن الشارب فاعل من شرب، والجمع شُرَّابُ، وهو ما ينبت على الشفّة العليا من الشَّعْرِ، وطرفاه: شاربان، والجمع شَوارِبُ، ولكننا استسهالاً وفي لغتنا الدارجة تأثرنا بكلمة الشَّنَبُ: وهو جمال الثغر (الفم) وصفاء الأسنان، يقول ذو الرَّمة.. وفي اللثات وفي أنيابها شنب، والمحدثون استعاروا الشنب للشارب واستعملوه حتى تناسوا الأصل. وامتدادًا للنسيان الذي يحيط بالكثير من حياتنا، فإننا أصبحنا لا نميز بين الرجل وجبروته وقوته من خلال الشارب، حيث تراجع الشنب للخلف وأصبحت علامات أخرى تدل على الرجولة والقوة والجبروت والطغيان أولها بالطبع المال.

لكننا نظل جميعنا - وأقصد الرجال - خلال انتقالنا من مرحلة الطفولة للمراهقة: نحلم بظهور الشنب في وجوهنا، وكأننا ننتظر ظهوره أو ننتظر مجرد أن ينبت فوق الشفاه، حتى ولو كان ما يظهر مجرد (زغب خفيف) حيث يقوم القلم بعد ذلك بدوره في تثقيل وتوضيح تلك الشعرات القليلة، فظهور الشنب في تلك الفترة من عمرنا دليل على انتقالنا لمرحلة أكثر خطورة وبهاء وقوة في عمرنا، بل إن الشنب يجعلنا نشعر برجولتنا ونحن نقابل حبيباتنا، حيث يجب أن تلمح - الحبيبة - الشنب الذي ينبت ومدى كثافته وعرضه وتناسقه مع ملامح الوجه، مع قول بعض العبارات التي تناسب هذا الشنب.

وتربية الشنب أي الاحتفاظ به أو حلقه في مجتمعنا سواء كان (صعايدة أو فلاحين أو أبناء مدن) يختلف طبقًا لتأثير المهنة، سواء كانت غريبة أو عالية المقام أو وضيعة، فلا أحد يستطيع أن ينسي شنب (عشماوي) في كل الأفلام المصرية، ذلك الشنب الحاد المعقوف والذي تشعر أنه يمتد ويطول إلى أن يشترك مع الحبل الذي سوف يلتف حول رقبة المشنوق، إن منظر عشماوي في أي فيلم رأيناه يثير الرجفة والفزع والخوف، مع أنه في الحقيقة إنسان بسيط جدًا، ليس جبارًا أو خشنًا أو مفزعًا، لكن مهنته فرضت عليه الكثير من الملامح أولها هذا الشنب الحاد الذي يلتف حول رقاب المشنوقين، أي تلتف عنيفة قاسية حول رقاب المتهمين، يساعده في ذلك حاجبان غليظان بالطبع، وهو بالطبع يختلف عن الشنب الرفيع والذي يكون محاذيًا للشفاه وبينه وبين الأنف مسافة محلوقة، لقد تميزت به طبقة الموظفين في بعض الأحقاب، وهو شنب تشعر بأن شعراته قد وضعت بالعدد، تتناسب مع الموظف ومكانته الإدارية في الديوان الحكومي.

لقد كان الشنب إشارة واضحة لتحديد الوضع الاجتماعي: وأقصد بذلك أن زعيم القبيلة أو القرية القديمة له شنب ضخم، حاد، مقوس أحيانًا، وقد يختفي فمه أسفله من ضخامته وكثافته وعرضه، وهو ربط للمكانة الذي يتميز بها الكبير في القرية أو القبيلة، ولكن الاثنين الآن تلاشيا الكبير وكذلك الشنب.

والتعامل مع الشنب له دراية خاصة، حيث إن العناية به تحتاج إلى كثير من الصبر، كي يظل محافظًا على رونقه، لذا فالكثير يقومون بصبغه سواء صبغة سوداء، أو بالحناء، والكثير من الرجال يقف أمام المرآة لضبطه وتهذيبه، أنظر للقرية كلها وقد جلس كبيرها على دكته أو مقعده الأثير في استقبال أحد الزوار، أن أول ما يستقبله ليس كف يده بل شنبه، وبالطبع فإنه أثناء الحديث يجب أن يمر بأصابعه على شنبه، تأكيدًا لمكانته وقوته أو لإصداره أمرًا بالغ الأهمية، أو شاهده وهو يفكر لحظات ثم يعبث بأصابعه في شنبه، وكأنه سوف يساعد الكبير في اختيار القرار الصائب.

وكل ذلك يدل على دور الشنب وأهميته في وضع الرجل اجتماعيًا، لذلك انتشر خلال المعارك - خاصة في الأماكن الشعبية في العاصمة - عبارة قوية وهي: «أكبر شنب فيكو يوريني نفسه»، وهي عبارة صريحة ومباشرة في التهديد والوعيد، حيث يقولها المتعارك منتظرًا أن ينازله أكبر شنب، أي أقوى رجل في الحارة أو الشارع، وبعد تلك العبارة كان يهبط الفتوة والذي كان شنبه بالطبع أكبر شنب لتبدأ المعركة، ولأن الشارع أو الحارة المصرية قد خلت من الفتوات فلم يعد أحد يستخدم هذا التهديد الشهير، بل إنه لن يهبط أحد من أي بيت كي يصارع هذا الرجل.

كما أن المرأة المصرية كانت تحب وتعجب بالرجل الذي يربي شاربه، بل ويزداد حبها له نظرًا لتناسق شنبه وضخامته مع ملامح وجهه.

شنب بريمة

فرضت السينما المصرية نظرة خاصة للشنب، ونحن نتذكر هنا عبارة في أوبريت (الليلة الكبيرة) للشاعر الكبير صلاح جاهين والتي يزعق بها أحد رجال المولد ويقول: «أنا شجيع السيما.. أبو شنب بريمة.. أول ما قول هيلا هب واصرخلي صرخة.. السبع يتكهرب ويبقى فرخة»، ليظل في العقلية المصرية أن الرجل صاحب الشنب هو بالطبع قوي ويستطيع تحطيم أشد الرجال ليس بيده بل بشنبه.

لقد كان الشنب وسيلة للتحكم والقيادة والدفاع والحماية وإصدار القرارات الخطيرة للقبيلة، لكن الأمر تطور وهذا ما فعلته الدراما - فلم نعد نستطيع أن نفرق بين شنب الكبير ولص مطارد في الجبال، أو تاجر آثار وسلاح ومخدرات وبين رجل ريفي عادي، لم يعد الشنب من مميزات الرجل سواء في الصعيد أو الوجه البحري، ليكون المكيدة والفخ التاريخي للرجل العربي تنازله عن شنبه بكل بساطة، سواء كانت شعراته ناعمة رقيقة مثل ملمس الانثى أو كانت خشنة و(منكوشة) وغير مهذبة كملمس المعاهدات والاتفاقيات الناجمة عن الحروب، والتي يفرز منها أن الكبير لم يعد كبيرا، كما لم يعد له شارب مميز له ولمكانته.

لكن الغريب أن الدراما السورية - وهذا ما لاحظناه خلال السنوات القليلة الماضية - ترد على ذلك، فقد انتشر الشنب في الكثير من المسلسلات السورية، جميعها أسود وغارق في اللمعان، ومعقوف، حاد بقوة، وكأنه من العيب أن يظهر الممثل من دون شنب، وقد وضح هذا أكثر في مسلسل «باب الحارة» السوري، لكن الدراما المصرية وضعت الشنب في مركز مختلط، وخاصة في المسلسلات التي تدور في الصعيد، فلم يعد الشنب يميز بين كبار القوم ورجال الليل، أو بين مطاريد الجبل واللصوص وبين البهوات والبشوات، لقد ساعدت الدراما المصرية على تدمير النظرة إلى الشنب، بل جعلته مجالا للسخرية الآن، لأن الكثير من المخرجين لا يدركون قوة وتأثير الشنب في عقلية المتلقي - المشاهد - كما أن الكثيرين من الممثلين لا يعرفون الفرق بين شنب أحد مطاريد الجبل وأحد كبار القوم، فسوف ترى شنب الاثنين منظمين وغارقين في السواد ولامعين، فلا أحد يفكر كيف يكون رجل مطارد ومختبئ في الجبال أن يضبط شنبه ويشذبه بتلك الطريقة التي نراه بها، لذا لم نعد نتذكر الدور الذي يلعبه أي ممثل لاختلاط الأمر وتشابههم جميعًا.

لقد ارتبط الشنب بالكثير من الممثلين المصريين وأصبح أهم ما يميزهم، بدءًا من أنور وجدي وعماد حمدي وكمال الشناوي وفريد شوقي والمليجي ورشدي أباظة وعبدالفتاح القصري، حتى الخواجة بيجو في برنامج ساعة لقلبك والذي أصبح من العلامات المميزة له، وشنب الممثل زكي رستم، والذي جعله يلعب الكثير من أدوار البشوات والفتوات وأصحاب النفوذ والجبروت، ذلك الشنب الذي كان دائمًا يتحسسه في معظم مشاهد الفيلم كي يزيد تأثيره الدرامي وهو يتحدث، لكن شنب زكي رستم تم حلقه على يد فتاة صغيرة وهي (فيروز)، وذلك في فيلم (ياسمين)، عندما قامت الطفلة (فيروز) بحلق شنب جدها (زكي رستم) كي تستطيع أن تقبله، وعندما استيقظ زكي رستم وبدأ يتحسس شنبه فلم يجده، فلم يثر ثورة عارمة أمام ابتسامة حفيدته وإجابتها البسيطة: «كنت عايزة أبوسك وكان بيشوكني»، لذا تغاضى زكي رستم عما فعلته حفيدته، وأعتقد لو كان فعل ذلك به أي شخص آخر لكان قتله، ويعتبر آخر ممثل مصري كان الشنب من أحد مميزات شخصيته هو الممثل أحمد زكي في دور (منتصر) في فيلم الهروب للمخرج عاطف الطيب، لقد كان شنب منتصر من مكملات الشخصية، ليس دخيلاً عليها، وليس كبيرًا بشكل لافت، بل كان متناسقًا مع وجهه ودوره كإنسان مظلوم مطارد، لكن تظل شنبات معظم أبطال فيلم (النوم في العسل) وقد تم تدميرها أو سقوطها بعد أن كانت منتصبة وعالية وشامخة، دليلاً على انكسار الرجل وعدم قدرته، وفي مشهد يظل غاليًا على السينما المصرية عندما ينظر الفنان عادل أمام لشنب الساعي وهو يقدم له القهوة ويقول، دون أن يخبره أحد: حلوان انضربت، نتيجة هبوط شنبه وانكساره.

لقد تراجع وانزاح الشنب للخلف من وجه الرجل، ولم يعد أحد يهتم بالشنب اليوم، لذلك نادرًا الآن أن يثيرك الرجل ويجعلك تهتم به من شنبه، لكن يظل شنب وكيل النيابة الذي كان يحقق معي خلال فترة الجامعة نتيجة ضرب طالب تحرش بالفتاة التي أجلس معها، شنبًا مقلقًا حقا، لقد كان متناسقًا مع وجهه وملابسه، بالإضافة إلى مهنته، شعرت حينها إنني سوف أعدم على تلك الحادثة، خاصة أنه كان ينظر إلي على إنني فتوة وجبار وقد ضربت هذا الطالب ظلمًا، بينما يظل شنب صديقي العزيز (عز العقدة) هكذا اسمه وهو محام، الوحيد من الأصدقاء الذي يحتفظ بشنب فوق أنفه، يذكرني بصورة من الماضي وهو يعتني به دائمًا ويبرمه لأعلى ويقوم بصبغه بالحناء، لذلك تراه دائما أحمر اللون مائلاً للصفرة، وعندما سألته ذات مرة: أن أحدا لم يعد يهتم بالشنب، كما أنه لم يعد من مميزات الرجولة أو تحديد الوضع الاجتماعي، كانت إجابته الرافضة والقاطعة، فقد أكد لي: أن الشنب له دور كبير في نفوس من يشاهده حتى الآن، وهو يهتم به لآن هذا الشنب يجعل القاضي في المحكمة أو الضابط في القسم، يشعر بثقل وهيبة المحامي الذي يقف أمامه، وهو شيء يجب أن يوضع في الاعتبار عند النظر في القضية أو المتهم الذي يدافع عنه صديقي: عز العقدة.

أخطر أشكال الشوارب

يظل الشنب - بالرغم من تراجع قوة تأثيره ومكانة من يربيه الاجتماعية، عنوان الرجولة، وهو أول ما يثيرك في أي رجل تقابله في الشارع أو في مؤتمر أو تراه على شاشة التلفزيون، وحركة أصابعه وهي تفتل الشنب، أي تنظمه وتهذبه وتجعله ثابتا، لذا ظللنا نرسم أبو زيد الهلالي الشجاع الباسل على واجهات البيوت وهو على فرسه ويمسك بيده السيف المعقوف، وشنبه المشرع مثل السيف، وكأن الشنب هنا امتداد لقوة هذا السيف وهو يشج رأس دياب بن غانم أو الزناتي خليفة، وبالطبع لا أحد ينسى شنب - سلفادور دالي- الرسام العالمي، صاحب العيون النافذة والشارب المسنن كالسيوف المشرعة، فقد كان شنبه هو السبب في جعل وجهه لوحة غريبة أخرى من لوحاته، أي إنه جزء من لوحة قائمة في السلوك والشكل والأفكار والخيالات والألوان، وعندما يصبح الشنب مثل قرون البقر والجاموس وهو شنب كان منتشرًا قبل الثورة، وأشهرها شنب الملك فؤاد وابنه الملك فاروق في بداية حكمه، قبل أن يترهل جسده وشنبه تمهيدًا لحلقه أو خلعه وطرده من البلاد على يد الضباط الأحرار، ثم يليهم شنب الممثل - شارلي شابلن المكتنز القصير والذي يكون صغير الحجم بشكل لافت وأسفل الأنف مباشرة، أي من دون أطراف، وهو شنب يثير السخرية بالإضافة إلى قبعته وعصاه وبذلته البالية وحذائه المتنافر الفردتين كل فردة في اتجاه معاكس للأخرى، واعتقد أن هتلر قد أخذ هذا الشارب من شابلن، والذي ظل فترة من العمر من مميزات الرجولة، أو موضة للرجولة، صحيح أنه لم يكن شنبًا ضخمًا أو عريضًا، لكنه شنب لرجل ماكر قوي قلب العالم ودمره بشنبه.

وفي النهاية - إن الشنب المصري أو العربي مصاب الآن بالإرهاق والأنيميا إذا ما قورن بالشنب في أحقاب التاريخ الكبرى، وهو ما يجعلني لا أستطيع أن أنسي وجه محمد أبو سويلم أينما ذهبت، ومع ذلك - يظل الشنب فكرة إذكاء الرجولة المبكرة، حتى ولو نسيناه وتراجع أمام طرق أخرى لإثبات الرجولة.
محمد مستجاب





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق