الأربعاء، 21 يونيو 2017

• في حضرة نجيب محفوظ

بعد رحلة سريعة للقاهرة، عاد سعيد الكفراوي إلى بلدتنا الصغيرة منتصرًا: لقد اكتشفت المكان الذي يجلس فيه نجيب محفوظ. كان هذا الأمر بالنسبة لنا أهم بكثير من إعلان كولمبس اكتشافه للقارة الجديدة، لحظتها كان الكفراوي شديد الحماس، ومازال كذاك بالرغم من أن الشيب لم يبق في رأسه شعرة سوداء، وكان هو الذي قادنا إلى مجاهل القاهرة وخباياها الأدبية...

نحن أبناء الأقاليم السذج الذين كنا نخط الكلمات الأولى في صفحة الكتابة التي لاحدود لها، في ذلك اليوم ركبنا القطار المزدحم إلى القاهرة، كان لايزال آمنًا، وتقدم الكفراوي في طليعتنا يقودنا جميعا إلى مقهى "ريش" في وسط المدينة، حيث يجلس نجيب محفوظ لمدة ثلاث ساعات في كل يوم جمعة، من السادسة للتاسعة لاتزيد دقيقة ولا تنقص دقيقة، منذ اللحظة الأولى أدركت كم كان هذا الرجل بسيطًا وآسرًا! يصافح الجميع، ويستمع لهم، ويؤخر رأيه حتى النهاية، ويبتسم ابتسامة غير متكلفة. ويطلق ضحكة رنانة، ويغض البصر عن رجال الأمن وهم لا يكفون عن إحصاء أنفاسه وكتابة التقارير عنه، كان يبدو مثل راهب مصري قديم حليق الرأس، منحوت على وجهه خطوط من التجاعيد، رقيقة ومرهفة، كان يؤمن أن مصر لم تبق ولم تستمر إلا بفضل هؤلاء الصنف من الرهبان الذين يعملون في صمت دون انتظار لمديح أو ثناء، وكان هو واحدًا منهم، يملك المثل الأعظم في البساطة والزهد والعمل الدءوب، كأنه يؤدي صلاة حارة ومستمرة.
من هذه اللحظة وقد عشقت حضرة نجيب محفوظ، عشقت تواضعه العظيم وهو يعتبر أن كل من في الجلسة أنداد له، ويتعامل معهم على هذا الأساس، ولكني لم أتصور أن يواتيني الحظ، وأحضر واحدة من أكثر جلساته خصوصية وسط «شلة الحرافيش»، كنت قد سمعت كثيرًا عن هذه الشلة الخاصة، التي يحرص محفوظ على الالتقاء بها كل يوم خميس، وكان اللقاء هذه المرة في منزل الممثل المعروف أحمد مظهر في شارع البطل أحمد عبد العزيز بالدقي، وكان الحضور يضم نخبة من أقدم أصدقائه مثل المخرج توفيق صالح، والكاتب الساخر محمد عفيفي، وكان هناك أيضا الفنان الرائع بهجت عثمان، والناقد المعروف رجاء النقاش الذي بدا من خلال الجلسة أن نجيب محفوظ يحترمه ويكن له مودة خاصة، وكنت أعلم أن هذه هي مرتي الأولى والأخيرة، لأنني كنت أستعد للسفر خارج مصر، وهي رحلة طالت بأكثر مما كنت أتصور، وكان الحوار يدور ليلتها حول الممثل أحمد مظهر، وكيف يمكن أن يعود إلى السينما عودة قوية، بعد أن تضاءل حضوره على الشاشة...
ووجدت الجرأة في نفسي أن أقترح أن يقوم مظهر ببطولة فيلم مأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ تدعى «ضوء القمر»، وهي تدور عن شخص محترم جدًا يدخل ملهى يحمل الاسم نفسه، فيقع في غرام الراقصة هناك، وتقوده هذه العلاقة إلى الدخول في عالم المدينة السفلي، ويعاشر اللصوص والسفلة، ولم ألحظ الامتعاض الذي بدا واضحًا على وجه أحمد مظهر، وأخذت أدافع عن فكرتي بحماقة، وفي النهاية أمسك نجيب محفوظ بذراعي وقال لي هامسًا: هذا الدور لن يعجب أحمد بك، لا تنس أنه «برنس» ضل طريقه إلى عالم السينما، وسوف يظل ذلك البرنس، كانت هذه هي آخر مرة رأيت فيها نجيب محفوظ، وجلست إليه، لقد غاب عنا حقًا، ولكني أشعر أننا مازلنا جميعًا في حضرته.

محمد المنسي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق