الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

• بين التلفزيون والسينما والإنترنت

          شاهد أكثر من 39 مليون أمريكي حفل توزيع جوائز الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية على شاشة التلفزيون أخيراً، حيث هيمن الحنين إلى الماضي على لجنة التحكيم، وهي تمنح جوائز الأوسكار لمجموعة كبيرة من الأفلام التي احتفت بعصر ذهبي كان الناس فيه يتوافدون على دور السينما ويشغلون المقاعد. فقد انخفض عدد التذاكر السينمائية التي اشتراها الأمريكيون العام الماضي بمقدار 40 مليون تذكرة عن العام الذي سبقه، ما يعدّ ارتياد السينما في الولايات المتحدة الآن عند أدنى مستوياته منذ عام  1996
 
         ويلقي تنفيذيو صناعة السينما باللوم في هذا الاتجاه النزولي في عدد من يرتادون دور السينما على كل شيء، بداية من الاقتصاد الضعيف وانتهاء بألعاب الكمبيوتر. ويتشبث هؤلاء المسؤولون بالأمل في أن تجتذب كل طائفة جديدة من الأجزاء التكميلية للأفلام، وعروض حقوق الامتياز، والأفلام المقتبسة من الأعمال الأدبية، جماهير أكبر من سابقتها، لكنهم يوهمون أنفسهم بالطبع. فالواقع أن هناك تغيرًا أساسيًّا طرأ على العادات الاستهلاكية ويقوض صناعة السينما، حيث تتيح التكنولوجيا للناس -كما حدث في مجالات أخرى- أن يكونوا انتقائيين أكثر من أي وقت مضى فيما يتعلق بكيفية استهلاكهم مخرجات صناعة السينما ومتى وأين يستهلكونها، كما أنهم ينأون بأنفسهم عن السينما على نحو متزايد.
         ولتنظر مثلاً إلى المقياس المعروف بـ«المضاعَف» الذي تستخدمه الاستوديوهات لقياس نجاح الأفلام، وهو عبارة عن إجمالي إيرادات شباك التذاكر التي حققها عمل معين مقسومًا على مبيعات التذاكر خلال أسبوعه الافتتاحي. فمنذ عقد مضى من الزمن، كان متوسط المضاعَف في صناعة السينما يزيد عن أربعة، أما اليوم فهو يقل عن ثلاثة، بل إن بعض الأفلام الحديثة التي كان يُتوقع لها تحقيق نجاح هائل انتهى بها الحال إلى أن حققت مضاعَفات تزيد قليلاً عن اثنين.
         هناك أسباب وجيهة تجعل المزيد والمزيد من الأفلام تشهد في بداية عرضها إقبالاً شديدًا على شباك التذاكر، ليشهد هذا الإقبال تراجعًا سريعًا بعد ذلك. فإذا حسبنا متوسط مبيعات التذاكر خلال العطلات الأسبوعية الافتتاحية (مع تعديلها لأخذ التضخم في الحسبان)، نجد أنه لم يكد يتغير على مر السنوات. فمَن يذهبون إلى دور السينما لمشاهدة الأفلام بمجرد عرضها هم في المقام الأول عشاق السينما الذين يتعرفون على هذه الأفلام الجديدة من خلال المشاهد الدعائية والمجلات المتخصصة وأحاديث المتحدثين والدعاية التسويقية السينمائية، وقد كان هذا حالهم دائمًا، وسيظل هكذا دائمًا، لكن هؤلاء أقلية.
         الفرق في يومنا هذا هو أن عامة رواد السينما (وأقصد مَن يتريثون لسماع ما يقوله الأصدقاء والنقّاد عن العمل الجديد) لديهم خيارات أكثر بكثير تحت تصرفهم. وإذا لم تكن الضجة المحيطة بالفيلم مغرية بدرجة كافية، فإن الكثيرين سيفضلون على الأرجح عدم التوجه إلى دور السينما والانتظار حتى يُطرح الفيلم على أسطوانة دي في دي أو بلو-راي، أو يقومون بمشاهدته على أحد مواقع الفيديو حسب الطلب على الويب مثل Netflix وAmazon وVUDU، وهذا الأخير هو الاحتمال الأكبر. ويصدق هذا بوجه خاص على من هم في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم.
         إذن هنا يكمن مأزق هوليوود، فعلى مدى العقد الماضي، تحولت أجهزة التلفزيون من مجرد صناديق ضخمة الحجم بمستوى ضعيف من الدقة إلى شاشات مسطحة كبيرة تعرض صورًا نقية، فضلاً عن إمكانات الاتصال بالإنترنت عن طريقة الأدوات البرمجية والمتصفحات لتنزيل الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية والألعاب وغير ذلك من الأعمال المصورة. وفي جو الراحة الذي توفره غرفة المعيشة، يمكن لتلفزيون بشاشة مسطحة 50 بوصة متصل بمسجل دي في دي ومشغل بلو-راي أن يوفر بيئة انغماسية كالسينما تمامًا. وهناك بيتان من كل ثلاثة بيوت أمريكية لديها جهاز كبير واحد على الأقل من أجهزة التلفزيون عالية الدقة، ونحو نصف البيوت الأمريكية تمتلك أيضًا مشغل دي في دي، وثلاثة من كل أربعة بيوت لديها وصلات إنترنت سريعة عريضة النطاق.
من التلفزيونات الغبية إلى المنصات التفاعلية
         تسحب هذه الأعداد الكثيرة من أجهزة التلفزيون المتصلة بالإنترنت الموجودة في البيوت البساط من تحت قدمي دور السينما متعددة الشاشات الموجودة في مراكز التسوق، كما تسحب في الوقت نفسه البساط من تحت قدمي مزودي خدمات التلفزيون الكابلي والقنوات الفضائية. بعبارة أخرى نقول إن أجهزة التلفزيون المتصلة بالإنترنت توفر للمستهلكين طريقة سهلة لشراء البرامج التي يريدونها فحسب، بدلاً من المئات من القنوات التي يضطرون لدفع رسومها لكنهم لا يريدونها في الأغلب.
         برز هذا الاتجاه واضحًا بشكل خاص في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية الذي أقيم أخيراً في مدينة لاس فيجاس الأمريكية، فعلى الرغم من أن التلفزيونات المتصلة بالإنترنت ليست تطورًا جديدًا (فهي في جيلها الرابع الآن)، فإن الطفرة في الاستثمارات والدعاية توحي بأن شركات الإلكترونيات الاستهلاكية أدركت أخيرًا أن عليها أن تفعل ما هو أكثر من مجرد إضافة إمكانية الاتصال بالإنترنت إلى منتجاتها، إذْ يعتمد مستقبلها على تحويل التلفزيونات الغبية إلى منصات تفاعلية ذكية تحتوي منظومتها الخاصة من التطبيقات والخدمات، جنبًا إلى جنب مع أجهزة الكمبيوتر المكتبية واللوحية وأجهزة الألعاب الإلكترونية والهواتف الذكية.
         ستكون السمة المميزة للتلفزيون الذكي هي قدرته على إضفاء طابع شخصي على المحتوى، بحيث يتسنى للناس الحصول على ما يريدون عندما يريدونه وأينما وُجدوا. فباستخدام التفاصيل المستمدة من الخرائط الاجتماعية للأشخاص على مواقع فيسبوك وتويتر وأمثالهما، سوف يتعرف التلفزيون الذكي على الطبائع الفردية لهؤلاء الأشخاص وعلى الطريقة التي يُمضون بها أوقاتهم، وعندئذ يقدم توصيات مفيدة حول نوع المحتوى الذي ربما يستمتع به كل شخص. وبالإضافة إلى إضفاء الطابع الشخصي على المحتوى، فسوف تتمكن شركات الإنتاج الإعلامي من تكييف إعلاناتها لتتواءم مع حاجات الفرد وأذواقه.
         يعني ذلك تحويل التلفزيون الغبي إلى منصة اجتماعية، كذلك إعطاء المشاهدين الأدوات اللازمة للتفاعل مع المشاهدين الآخرين، وهو ما يحدث بالفعل وإن بشكل جزئي، فبدلاً من استخدام تطبيق جوال مثل Foursquare كي يتبادل به الأشخاص موقعهم الجغرافي مع أصدقائهم، تتيح التطبيقات التلفزيونية مثل yap.TV وIntoNow من شركة ياهو وMiso من شركة Bazaar Labs للمشاهدين التسجيل في مشاهدة برنامج أو فيلم والانخراط مع مشاهديه الآخرين.
التلفزيون الاجتماعي
         يقول المشاهدون إنهم يجدون في تبادل التعليقات في الزمن الحقيقي حول المحتوى الذي يشاهدونه والتصويت لأفضل الأعمال المعروضة ومجرد قضاء وقت ممتع مع الآخرين ممن لديهم اهتمامات مماثلة ارتقاءً مستمرًا بتجربة المشاهدة. خلاصة القول، يُعنى التلفزيون الاجتماعي بإيجاد مكان يجتمع فيه الناس ويتبادلون حوارات مختصرة تضفي البهجة على يومهم. ولا تستخف بأهمية هذا المكان؛ فهو الوصفة السرية التي جعلت الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وبنترست Pinterest تحقق مثل هذه النجاحات الباهرة.
         ولا ريب في أن تحويل التلفزيون إلى منصة للتواصل الاجتماعي سوف يكون له تأثيره على طريقة استهلاك هذه الوسيلة من الوسائل الإعلامية، فبدلاً من تصفح القنوات على شاشة التلفزيون بحثًا عن شيء مثير للاهتمام، سوف يستخدم المشاهدون تطبيقًا لاكتشاف العنوان الإنترنتي URL للعمل الذي يريد مشاهدته (فيلم أو برنامج معين أو حلقة معينة) أو الذي رشحه له التطبيق، سواء أكان هذا العمل على YouTube أو Hulu أو VUDU أو أي موقع آخر للبث الحيّ.
         في هذه الأثناء، سوف يخوض العالم التقليدي المتمثل في تلفزيون الشبكة الإذاعية، بقنواته ذات التكلفة المتنافسة والتي لكل منها توليفتها الخاصة من البرامج والأخبار والرياضة والأفلام القديمة، منافسة بلا هوادة ضد المعين الهائل من المحتوى المستقل الذي يوفره العالم الإنترنتي. وربما تتباهى مؤسسة تايم وارنر بتقديمها 900 قناة تلفزيونية، لكن «يوتيوب» لديه بالمعنى الدقيق للكلمة عشرات الملايين من «القنوات» الفردية التي تلبي كل ذوق يخطر ببال.
         كذلك، فعلى خلاف نهج البث الذي يتبعه التلفزيون، يمكن لإحدى قنوات البث المحدود على «يوتيوب» أن تجلب أرباحًا بالقليل من البرامج. فهناك واحد من أكثر البرامج ربحًا (وهو برنامج كوميدي من تقديم وإنتاج وليم جونسون) لا يضيف إلا 12 دقيقة من المحتوى الجديد كل أسبوع، لكنه يحصل على ما يزيد على 4 ملايين مرة مشاهدة لكل واحدة من حلقاته التي تُنتج مرتين أسبوعيًا، وهي أعداد سيستميت تلفزيون الشبكة الإذاعية في سبيل الحصول عليها.
         وهكذا فإذا كانت القناة الإنترنتية تكاد تكون عديمة التكلفة الإنتاجية، ويمكن أن تتمحور حول برنامج واحد مدته ست دقائق، فكيف سيتسنى للتلفزيون التقليدي بتكاليفه الإنتاجية ونفقاته الإضافية الضخمة أن يستمر في الوجود؟ ربما سيكون على شركات التلفزيون أن تنشئ بالمثل «قنوات» تتمحور حول برامج منفردة على أن تعزز الفقرات التي تعرضها بالمشاهد المصوّرة التي لم تُذَع والمسابقات التلفزيونية واستطلاعات الرأس والتعليقات التفاعلية.
         أما هناك في هوليوود، فرؤساء الاستوديوهات ينظرون إلى كل هذا الثوران الذي يشهده عالم الفيديو بمزيج من التوجس والمقت. وأخوَف ما يخافون –وقد بدأ التلفزيون الاجتماعي يلوح في الأفق- أن يكون الكابوس الذي انتابهم منذ ستين سنة حول سرقة التلفزيون لجمهورهم قد بدأ يتحقق أخيرًا. وقد أقدمت بعض الاستوديوهات المستقلة والمنتجين المستقلين على طرق باب الإنترنت لما أدركوا أنهم ليس لديهم ما يخسرونه، بل ومضى هؤلاء إلى ما هو أبعد من ذلك ليطرحوا أفلامًا للمشاهدة من خلال خدمة الفيديو حسب الطلب، وهي ما زالت قيد العرض على الشاشة الكبيرة. وسوف تضطر الاستوديوهات الكبيرة إلى فعل الشيء نفسه في نهاية المطاف.
         لا يبدو الأمر وكأن الفيلم في سبيله إلى الزوال. فدور السينما قد تتراجع وتنهار في نهاية المطاف، لكن سيكون هناك دائما جمهور للأفلام التي تستند إلى قصة رائعة وتشتمل على تمثيل راقٍ (بالإضافة إلى مطاردات السيارات المذهلة أو الانفجارات المدوية). وكل ما هنالك أنه سيتم استهلاك هذه الأفلام بطريقة مختلفة تمامًا. وتتمثل وظيفة صناعة السينما في التوصل إلى سبيل لكسب العيش في وقت تتم فيه مشاهدة معظم أشكال الترفيه المصور، السينمائية منها والتلفزيونية، بشكل حصري على الإنترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق