شهد القرن الحالي اهتمامًا
كبيرًا بالتنويم المغناطيسي من قبل الباحثين، وبالذات علماء النفس، الذين وجهوا
اهتمامًا خاصًا لاستكشاف حقيقة ما يحدث أثناء التنويم؛ إذ لا شك في أنه أمر مثير
أن يتمكن المنوِم المغناطيسي من علاج أمراض لا يستطيع الطب الحديث علاجها. والأكثر
غرابة أن هذا العلاج لا يتطلب سوى الإيحاء للمريض بعبارات معينة حين يكون تحت
تأثير التنويم.
رغم أن الباحثين طرحوا
العديد من النظريات لتفسير ظاهرة التنويم، يتفق العلماء بقدر كبير على أن حقيقة
ظاهرة التنويم هذه لاتزال غامضة. و تجدر الإشارة هنا إلى أن النظرة إلى التنويم
تطورت لاحقًا، حيث أصبح يُعتقد بأنه من الممكن للشخص أن يكون واعيًا بما يحدث له،
لكنه في الحقيقة تحت تأثير إيحاءات تنويمية تجعله يتصرف بنوع من الآلية.
لذا فإن الشخص الواقع تحت
تأثير تلك الإيحاءات لا يكون بالضرورة - كما يعتقد عامة الناس - نائمًا على كرسي،
مغلق العينين، وغير قادر على الحركة. وهذا التطور في تصور الحالة التنويمية جعل
تعريفها أمرًا أكثر صعوبة مما كانت عليه حين كانت تُعد نوعًا خاصًا من الحالات
الشبيهة بالنوم.
على الرغم من تأكيد ممارس
التنويم الحديث عدم خطورة هذه الوسيلة العلاجية، فإن هذا لا يعني سلامة استخدامها
بصورة مطلقة؛ لأن العلاج النفسي بجميع صوره يعتمد أساسًا على قوة التأثير وفنونه
المختلفة. يرى الطبيب النفسي ليون شرتون أن التنويم يتعلق مباشرة باللاشعور، فعلى
الرغم من جميع النظريات النفسية إلا أننا لم نتوصل بعد إلى كيفية تأثير العالم
الخارجي في الفرد، فقوة التأثير الخارجية لها أسرارها الدفينة، ولهذا من الخطأ
اعتبار التنويم حالة مشابهة للأحلام أو النوم العميق، ذلك أن التنويم المغناطيسي
من عمل الإنسان وتم ابتكاره وتطويره منذ أن كان يسمى بالصدمة المغناطيسية في عهد
العالم ميسمير حتى وصلنا اليوم إلى التنويم الحديث. على أن جميع التجارب لم تنجح
في التوصل إلى حقيقة وجوهر الظاهرة النفسية التي تقع في اللاشعور وتقاوم أي محاولة
للاقتراب منها والكشف عن أسرارها.
لقد كان سيجموند فرويد على
دراية كاملة بالاستخدامات المتعددة للتنويم، وكان يستخدمه أحيانًا من أجل إحياء
بعض الذكريات المؤلمة التي قد تكون من مسببات المرض النفسي الذي يعاني منه المريض.
ولذا كان التنويم عند فرويد في خدمة الحقيقة المكبوتة التي ينبغي البحث عنها في
اللاشعور من أجل شفاء المريض، إلا أن فرويد لم يتسمر طويلاً في استخدام هذه الوسيلة
العلاجية حيث أصيب بخيبة أمل؛ فعلى عكس ما يقال كان فرويد يعتقد أن التنويم لا
يعطي سلطة كافية للمعالج. لقد اصطدم بمقاومة كثير من المرضى الذين لم يتجابوا مع
التنويم.
خضوع الجميع
للتنويم المغناطيسي
إضافة إلى ذلك، اكتشف في
عام 1897 أنه لا يمكنه الاعتقاد وتصديق نظرية التأثير، حيث إن مرضاه كانوا يروون
له ذكريات خيالية وغير واقعية، ولذا كان الشفاء من المرض لا يعتمد على تذكر
الحقيقة المكبوتة، بل إنه صراع داخلي ويتحتم على المريض حتى يشفى أن يتغلب أولاً
على الأسباب التي تمنعه من التحدث والكشف عن الذكريات المؤلمة.
لكن، هل جميع الأشخاص
قابلون للتنويم؟ يقول علماء الطب النفسي المتخصصون في التنويم إنه من الممكن خضوع
جميع الأشخاص للتنويم حتى أولئك الذين يظهر عندهم نوع من المقاومة، فالمسألة مسألة
وقت فقط، إضافة إلى أن التنويم ظاهرة مكتسبة، أي أن الشخص الذي اعتاد على الخضوع
للتنويم يكون التأثير فيه أسهل من الآخرين.
ويرى العالم شاركو أن أكثر
الأشخاص المهيئين للتنويم المغناطيسي هم الذين يعانون اضطرابات نفسية، لكن
الدراسات والتجارب لم تثبت حتى الآن وجود علاقة وطيدة بين الاضطرابات النفسية
وسرعة التأثير في الأشخاص، ومن المؤكد أن علاج بعض الاضطرابات العصبية لا ينجح إلا
باستخدام التنويم.
كما يرى بعض المتخصصين
اليوم أن الشخص المهيأ للتنويم ليس بالضرورة ضعيف الشخصية، فقد يكون ذا شخصية
قوية، قادرًا على الاستغراق العميق أثناء القراءة، ومتمتعًا بخيال واسع؛ بل يرى
البعض أنه من غير الطبيعي أن يكون الشخص مهيأ للتنويم، لأن ذلك يعني انعزال الفرد
عن العالم ورفضه اللاشعوري لاستقبال أي معلومات جديدة.
تكمن القضية الرئيسية التي
تشغل العلماء والباحثين بالولايات المتحدة الأمريكية في مشكلة ازدواج الشخصية التي
تنتج عن ممارسة التنويم مع شخص ما. وهذا يعني أن المعالج يتعامل مع عدة شخصيات في
آن، كل شخصية تتسم بصفات خاصة وذاكرة جميعها تسكن في جسد واحد. وهذه الحالة لا
تظهر على المريض الذي يُعالج بالتنويم إلا بعد مرور عدة أعوام من العلاج. فهل
العلاج بالتنويم المغناطيسي يؤدي إلى ظهور هذا المرض النفسي، أم أن حالة ازدواج الشخصية
كانت بالفعل مكبوتة داخل اللاشعور والعلاج بالتنويم أدى إلى ظهورها وكشفها حتى
يسهل علاجها بعد ذلك؟
يقول عالم النفس الأمريكي
رائد التنويم التجريبي بالولايات المتحدة البروفيسور مارتن أورن: «إن التنويم الذي
يهدف - إراديًّا أو غير إرادي - إلى كشف الشخصيات المتعددة المكبوتة داخل لاشعور
المريض، وإيقاظ الشعور لإدراك الجرح النفسي الحقيقي الذي أصاب المريض أثناء
الطفولة، يعتبر من المسببات الرئيسية لوجود ظاهرة ازدواج الشخصية؛ فالمعالج
والمريض ينسجان بأيديهما الحقيقة التي يبحثان عنها. بيد أن التنويم قد يصبح أداة تلاعب
خطيرة عندما يصدق المريض كل الذكريات التي تخطر على باله، وقد يكون بعضها ناتجًا
عن تأثير قوي من جانب المنوِم نفسه الذي يساعد المريض على الاقتناع بحقيقة ما، قد
لا يكون لها أي أساس من الصحة».
هكذا تتفاوت الآراء حول هذه
الظاهرة. فالبعض يرى أنها ظاهرة سلبية، والبعض الآخر يرى أنها ظاهرة إيجابية. لكن
الجميع متفقون على رأي واحد، وهو أن الغموض ما زال يحيط من كل جانب بالتنويم، حيث
إنه يقع في بؤرة اللاشعور الذي يقاوم سيطرة المريض والطبيب المعالج على حد سواء.
إن النظرية التي اجتمع
حولها أكبر عدد من الأنصار حاليًا تعتبر التنويم ظاهرة «اجتماعية-نفسية»، يعتمد
نجاحها على رغبة المريض نفسه في الاستجابة إيجابيًّا لرغبة المنوم أو الطبيب.
وبدأت هذه النظرة بالتطور في بداية السبعينيات على يد أحد أشهر باحثي التنويم فى
أواخر القرن العشرين، هو عالم النفس سبانوس Spanos من جامعة كارليتون الكندية.
ولكن تقف على الجانب الآخر من معسكر نظريات التنويم، نظرية لعالم نفس آخر من جامعة
ستانفورد الأمريكية يُعد من أشهر من درس ظاهرة التنويم في العصر الحديث، هو إيرنست
هيلجاردErnst Hilgard.
فخلافًا للتفسير الاجتماعي-النفسي للتنويم، تطرح نظرية هيلجارد المعروفة بنظرية
«الانفصالية الجديدة» أن الشخص المنوم خلال التنويم المغناطيسي يكون في حالة عقلية
خاصة بهذه الظاهرة، منفصلة عن باقي الحالات العقلية، وتكون استجابته لإيحاءات
المنوم مرتبطة بوقوعه تحت هذه الحالة العقلية الخاصة وليس بسبب رغبته الواعية
للاستجابة بشكل إيجابي لإيحاءات المنوم.
وجه شرير ومخاطر
قانونية
يتمثل أحد الانتقادات التي
توجه لنظرية الانفصالية الجديدة في عدم وجود دليل على أن المريض أو الشخص المنوَّم
يكون في حالة عقلية خاصة سوى ما يقوله هو نفسه. فعلى سبيل المثال، لا يتميز جسم
هذا الشخص بأي تغيرات فسيولوجية خاصة بالتنويم، ومن الناحية الأخرى فإن النظرية
الاجتماعية-النفسية تعنى بأن هذا الشخص لا يكون أثناء التنويم تحت سيطرة المنوم،
إلا أن هنالك الكثير من الحوادث التي توحي بأن المنوَّم يفقد السيطرة أحيانًا على
إراداته ويصبح آلة لتنفيذ ما يريده منه المنوِم.
من الدراسات الشهيرة حول
تأثير الطبيب المنوِم، تلك التجارب التي قام بها الباحث لويد رولاندLoyd
Rowland، الذي نوم أشخاصًا وأعطاهم
إيحاءات خاصة لإقناعهم بأن يمسكوا حية ضخمة قاتلة من نوع ذات الجرس Rattlesnake، وكان رولاند قد وضع الأفعى وراء عازل زجاجي شفاف لضمان سلامة
الأشخاص المنومين، لكن العازل كان غير مرئي ولم يعرف المنومون أنهم في مأمن من خطر
الأفعى، وفعلاً حاول أولئك الأشخاص مسك الأفعى التي كانوا على علم تام بخطرها.
في تجربة ثانية استطاع
رولاند أن يقنع شخصين بعد أن نومهما بأن يلقيا على وجهه حامض الكبريتيك الحارق،
رغم أنه أطلعهما على الآثار الخطرة التي يمكن أن يؤدي إليها سقوط حامض الكبريتيك
على الوجه ومنها العمى والتشوه الحرقي. وكان رولاند في حقيقة الأمر واقفًا وراء
حاجز زجاجي غير مرئي لاتقاء خطر الحامض في حال إلقائهما الحامض عليه، وهو ما قاما
به فعلاً. مثل هذه التجارب تبرهن أن المنوِم يستطيع في حالات معينة أن يجبر الشخص
المنوَّم على القيام بأفعال ما كان ليفعلها الأخير فيما لو كان واعيًا.
إن تحديد ما إذا كان
التنويم يمكن أن يسلب الشخص المنوَّم إرادته، ويجعله أداة غير واعية بيد المنوِم،
هي مسألة مهمة لا تمس حقيقة ظاهرة التنويم فحسب. إذ إن هذه النظرة، إذا كانت
صحيحة، فإن هنالك نتائج قانونية خطيرة يمكن أن تترتب عليها. وعلى سبيل المثال: هل
يمكن أن يقوم شخص بتنويم آخر والسيطرة عليه تمامًا إلى حد دفعه إلى ارتكاب جريمة؟
لقد لاحظنا مثلاً في تجربة
رولاند أن الأشخاص المنومين في التجربة الأولى حاولوا أن يرتكبوا عملاً شديد
الخطورة عليهم بمحاولتهم مسك الأفعى السامة القاتلة، وفي التجربة الثانية حاولوا
الإقدام على عمل خطر يعاقب عليه القانون وهو حرق شخص باستخدام حامض الكبريتيك
الحارق. وإذا كان من الممكن لمنوِم ذي هدف شرير أن يدفع شخصًا ينومه إلى ارتكاب
جريمة ما، فما موقف القانون من الشخص الذي ارتكب الجريمة؟ هل يحاسب على جريمته
كشخص واعٍ، أم يُعد غير مسؤول عما حدث على يديه، أم يتحمل مسئولية قانونية جزئية
عن الحادث؟ وقبل ذلك، كيف سيمكن معرفة ما إذا كان مرتكب جريمة معينة واقعًا تحت
تأثير تنويمي حين ارتكابها أم أنه ارتكبها بكامل وعيه؟
إضافة إلى هذا، من المعروف
أن المنوِم يمكنه جعل الشخص المنوَّم ينسى الإيحاءات التي كان تحت تأثيرها حين
يستيقظ، فهل يمكن للمنوِم أن يجعل المنوَّم ينسى أنه الذي دفعه إلى ارتكاب
الجريمة؟ إن مثل هذه الأسئلة مجرد نماذج بسيطة لأسئلة أعقد يمكن أن تفرزها حالات
قانونية شديدة التعقيد إذا ما تبين فعلاً أن الشخص المنوَّم يمكن أن يفقد إرادته
تمامًا ويقع تحت سيطرة الشخص المنوِم. وفي تاريخ التنويم، حالات أشخاص ارتكبوا
جرائم معينة تبين أن من قاموا بها كانوا منومين.
من الأمور الغريبة التي
لوحظ حدوثها خلال جلسات التنويم هي القدرات غير الطبيعية التي تظهر على بعض
الأشخاص المنوَّمين، كاستجابة المنوَّم لما يريده منه المنوِم دون أن يصرح الأخير
بما يضمره. وهنالك تقارير أيضاً عن قدرة الأشخاص الذين يصبحون تحت تأثير التنويم
على رؤية ما بداخل أجسامهم، كرؤية أعضائهم الداخلية مما يساعد الطبيب في تشخيص
الأمراض التي يصابون بها، كما يصبح بعضهم قادرًا على تحديد مكان وجود أشخاص
مفقودين حين يسألهم المنوِم عنهم. هذه القابليات ليست إلا بعض ما جاء في التقارير
الكثيرة عن قدرات غير طبيعية لوحظ ظهورها على بعض الأشخاص حين يتم تنويمهم.
تنويم الحيوانات
مغناطيسيًا
بقيت الإشارة سريعًا إلى
ظاهرة أخرى لاحظها بعض ممارسي التنويم، وهي إمكان تنويم الحيوانات. فقد أشار عدد
من المنومين إلى نجاحهم في تنويم بعض الحيوانات مثل: الدجاج، والأفاعي، وسرطانات
البحر، والضفادع، والتماسيح الصغيرة، بحيث تفقد الحيوانات القدرة على الحركة إلى
أن يرفع المنوِم تأثير التنويم عنها! والواقع أن تنويم الحيوانات بالذات، إذا كان
من نفس صنف تنويم الإنسان، يجعل من تفسير ظاهرة التنويم أمرًا معقدًا للغاية.
إن الاستنتاج الذي يمكن التوصل إليه، من متابعة تطور
البحث والمتابعة العلمية لظاهرة التنويم، هو أن تفسير هذه الظاهرة اليوم لايزال
بعيدًا عن إدراك العلم بقدر لا يقل عما كان عليه قبل أكثر من قرنين يوم أعلن
فرانتس ميسمير اكتشافه للظاهرة التي أسماها عندئذٍ «المغناطيسية الحيوانية».
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع
تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات
معبرة وقصص للأطفال
للمزيد
أيضًا وأيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق