ملف غسان كنفاني: «القنديل الصغير»
وحكايةُ إدخالِ الشَّمس إلى القَصر
ولد الكاتب الفلسطيني
غسان كنفاني في مدينة عكا سنة 1936، وتلقى تعليمه الابتدائي في إحدى مدارسها،
وتابع ذلك في إحدى مدارس مدينة يافا حيث كان والده يعمل. لجأ مع عائلته وأغلبية من
الشعب الفلسطيني إلى البلدان العربية المجاورة لفلسطين، بعد أن طردتهم القوات
الصهيونية وقتلت وجرحت المئات من بينهم، فأقام مع أهله فترة قصيرة من الزمن بالقرب
من بلدة الغازية الواقعة إلى الجنوب من مدينة صيدا اللبنانية، ثم انتقلوا للعيش في
سورية.
وهناك أكمل غسان تعليمه
الثانوي فيها، وبعد نيله شهادتها عمل في التدريس فترة، ثم سافر في سنة 1955 إلى
الكويت وتابع فيها التدريس – مادة الرسم – وكتب أيضا في صحافتها، والتحق بجامعة
دمشق منتسبا؛ لكن مشاغله الوطنية لم تتح له الوقت الكافي كي يحصل على شهادتها.
انتقل إلى مدينة بيروت في سنة 1960 وعمل
في صحافتها ورأس تحرير غير صحيفة ومجلة، وتابع نضاله من أجل قضيته الفلسطينية
وشعبه المشرد. اغتالته الأيادي الإسرائيلية في 8 يوليو من سنة 1972 بعد أن فخخت
سيارته وفجرتها.
على الرغم من العمر القصير الذي عاشه
الكاتب (36 سنة) فإنه كان غزير الإنتاج في شتى مجالات الإبداع: رسما وقصة ورواية
ومسرحية ونقدا وكتابة سياسية. من كتبه التي أخذت بالصدور اعتبارا من بداية ستينيات
القرن الماضي: «موت سرير رقم 12»، و«أرض البرتقال الحزين»، و«عالم ليس لنا»، و«عن
الرجال والبنادق» (قصص) و«رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم»، و«أم سعد»، و«عائد إلى
حيفا»، و«العاشق»، و«الأعمى والأطرش»، و«برقوق نيسان»، و«الشيء الآخر»، و«اللوتس
الأحمر الميت» (روايات) و«الباب» و«القبعة والنبي» و«جسر إلى الأبد» (مسرحيات).
وصدرت له الكتب التالية أيضا: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، وفي الأدب الصهيوني،
والأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، والمقاومة ومعضلاتها، وثورة 36 – 39 في
فلسطين. وله قصة القنديل الصغير التي صدرت في كتاب منذ ستينيات القرن الماضي. نـال
جوائز عدة عن رواياته وقصصه، وترجمت أعماله إلى لغات عالمية عدة، وصدرت عن أدبه
دراسات ورسائل جامعية كذلك.
«القنديل الصغير»
لغسان كنفاني كتابات في أدب الأطفال كذلك،
ومنها قصة «القنديل الصغير» التي كتبها سنة 1963، وأهداها إلى لميس ابنة شقيقته في
عيد ميلادها الثامن وهي التي استشهدت معه في تفجير سيارته، تحولت القصة إلى مسرحية
للأطفال وعرضتها إحدى الفرق المسرحية في فلسطين المحتلة. صدرت القصة في طبعات عدة
بعد صدورها الأول، ومن بينها طبعة باللغة الإنجليزية، وهي - أي القصة - قلما
تناولتها أقلام الكتاب، فماذا جاء فيها؟
لم يكن لملك إحدى البلدان التي حكمها
بالعدل، وأحبه ناسها والذي توفي أخيرا، إلا ابنة صغيرة واحدة، وكتب في وصيته لها:
إنها لن تستطيع أن تحكم وتصبح ملكة للبلاد؛ إلا إذا حملت الشمس إلى القصر الملكي.
وإن عجزت عن ذلك، فإنها ستقضي حياتها في صندوق مغلق.. عقابا لها عن عدم قيامها
بواجبها.
فكرت الفتاة بالأمر، فوجدت أن المهمة صعبة
عليها، وهي لم تزل في عمر صغير، فاستدعت حكيم القصر العجوز وأخبرته بأنها لا تريد
أن تكون ملكة. إلاّ أن الحكيم أوضح لها أنها لا تستطيع ذلك، لأن قوانين المملكة
تحتم عليها ألا تهرب من تنفيذ واجبها، وأن عليها أن تنفذ المهمة وحدها.
لجأت الفتاة إلى التفكير والتدبير من
جديد، فهداها تفكيرها إلى تسلق الجبل العالي، علها تستطيع إحضار الشمس التي تشرق
من خلفه، وفعلا فإنها نفذت الفكرة وصادفتها صعوبات وعقبات كثيرة، وهي تتسلق الجبل
العالي، وكادت تسقط وتتدحرج عن بعض صخوره المسننة، إلا أنها أصيبت بخيبة أمل بعد
أن وصلت إلى قمة الجبل، لأنهـا اكتـشفت أن الشمس بعيدة، وتوصلت في تفكيرها إلى أنه
لا يمكن لإنسان أن يمسك الشمس بيديه.
عادت حزينة ومحبطة إلى القصر، وأغلقت
غرفتها على نفسها وأخذت تبكي وتتأوه، لكنها لم تنس المهمة الصعبة التي تنتظرها..
واستمرت بالتفكير في إيجاد حل لها.. وبعد يومين من اعتكافها شاهدت في غرفتها ورقة
صغيرة تحت بابها، تناولتها بلهفة، ووجدت كلاما قليلا كتب عليها: لا يمكنك أن تجدي
الشمس في غرفة مغلقة. ازدادت حيرتها وارتباكها، لكنها قررت مع ذلك المضي قدما في
البحث عما يمكنه مساعدتها في إتمام واجبها وإنجاز مهمتها. فبادرت إلى تعليق بيان
على جدران القصر الخارجية، تعلن فيه أنها ستمنح مكافأة من الجواهر لكل إنسان
يساعدها في مهمة حمل الشمس إلى القصر.
استغرب الناس الذين قرأوا البيان، وعلق
بعضهم: إن الأميرة الصغيرة غير عاقلة، لأنها تسعى إلى تحقيق أمر مستحيل. بينما علق
آخرون: إن الأميرة يمكن أن يكون لديها حكمة ما في السعي إلى تنفيذ الأمر المستحيل.
مع ذلك فإن أحدا لم يستطع مساعدتها. وفي صباح اليوم التالي جاءها الحكيم العجوز
وأخبرها بأن الوقت الذي أعطي لها لإنجاز مهمتها يوشك أن ينتهي، وأن عليها أن تسرع
في ذلك، وإلا فإنها ستنال العقاب المنصوص عليه في الوصية.
ازداد حزن الأميرة الصغيرة، وازداد
اضطرابها وقلقها. وفيما هي كذلك، إذ بها تسمع جلبة وصياحا، فنظرت من نافذتها لترى
رجلا عجوزا يحاول الدخول من بوابة القصر، إلا أن الحراس كانوا يمنعونه ويتولون
طرده. كرر الرجل محاولاته مرات عدة وفي أيام متتالية. وعندما فشل في إقناع الحراس
بالسماح له بالدخول، صاح بأعلى صوته: إذا لم يكن بوسع إنسان عجوز الدخول إلى
قصرها، فكيف تريد إدخال الشمس إليه؟
سمعت الأميرة الصغيرة كلامه، فبادرت إلى
الخروج من غرفتها، وأخذت تسعى للحاق به، بعد أن اختفى بين أزقة البيوت القريبة،
إلا أنها فشلت في العثور عليه، وفشل الحراس كذلك بعد أن كلفتهم بمهمة البحث عنه
وإحضاره.
ازداد حزن الأميرة، لكنها أخذت تفكر في ما
قاله العجوز. استدعت قائد حرس القصر وسألته عما يعرفه عن الرجل العجوز؟ فذكر لها
أنه كان يجيء في مساءات أيام عدة يحمل قنديلا صغيرا ويطلب من الحراس إدخاله إلى
القصر، إلا أنهم كانوا يمنعونه دائما، معتقدين أنه لا يتمتع بقوى عقلية سليمة.
طلبت الأميرة من قائد الحرس إدخال الرجل
إلى القصر في أي ساعة يأتي، إلا أن الرجل لم يعد يظهر ثانية، مما ضاعف من أحزان
الأميرة وقلقها، وخصوصا أنها وجدت قصاصة ورق ثانية تحت باب غرفتها كتب عليها:
الوقت ضيق جدا، والحزن والبكاء لا يحلان المشكلات.
بادرت الصغيرة مباشرة إلى استدعاء قائد
الحرس، وطلبت منه إحضار أي رجل في المملكة يحمل قنديلا صغيرا. استغرب القائد ذلك،
إلا أنه في النهاية نفذ أوامر الأميرة. وفي مساء ذلك اليوم وبينما كانت الأميرة
تطل من نافذتها، إذ بأنوار آلاف القناديل بأيدي رجال كثر تحيل ظلمة المكان إلى
نور، وحين تقدم الرجال من البوابات التي كانت مغلقة ولم يستطيعوا الدخول، ازداد
عددهم وازداد ارتطامهم بالبوابات المغلقة. انتبهت الأميرة للأمر، وفكرت ودبرت؛ ثم
أصدرت أوامرها بهدم بوابات وأسوار القصر، مما أتاح للجميع الدخول إلى الباحات
والساحات الواسعة المحيطة بالقصر. طلبت الأميرة من قائد الحرس أن يدلها على الرجل
الذي جاء قبل ذلك؛ إلا أن أنوار القناديل الصغيرة التي كانت تتوهج كأنها الشمس،
إضافة إلى كثرة الوجوه المتشابهة، جعلت من مهمته عسيرة وغير ذات جدوى.
سأل حكيم القصر العجوز: هل تستطيعين حمل
كل هذه القناديل التي ترينها أمامك دفعة واحدة؟ أجابت الأميرة مفكرة متلعثمة: طبعا
كلا. حينها علق الحكيم قائلا.. هازا برأسه: كذلك هي الشمس.. إنها أكبر ونورها أكثر
حرارة بملايين المرات من أنوار القناديل، ولا يمكن لرجل أو امرأة أن الإمساك بها
أو حتى الاقتراب منها. اندفعت الأميرة الصغيرة نحو الحكيم العجوز، وقبلته شاكرة.
وعلقت: لقد فهمت الآن ما كان بقصده والدي بالشمس. إن القناديل الصغيرة مجتمعة هي
الشمس التي قصدها والدي، أليس كذلك؟ هز الرجل الحكيم رأسه وقال نعم هو ذلك ما كان
يقصده والدك الملك. ثم أشار بيده إلى القصر وقال: انظري إلى هناك.
نظرت ونظر الجميع: كانت الشمس قد بدأت
بالشروق، وكانت أشعتها تدخل بكل وضوح إلى القصر وباحاته وغرفه. صاحت الأميرة: هذا
شيء عجيب.. إنه يحدث لأول مرة.
علق الحكيم: نعم إن ما تقولينه صحـيح، ذلك
لأنك هدمت الأسوار والحواجز والأبواب التي كانت تمنع الشمس والناس من دخول القصر.
هلل الناس وكبروا. وبادر الرجل الحكيم
العجوز إلى إلباس الأميرة تاج الحكم قائلا: تستحقين أن تكوني ملكة الآن.. ذلك أنك
نفذت وصية والدك، وأدخلت الشمس إلى القصر، وأزلت الحواجز والأسوار بينك وبين
الناس.
سليمان الشيخ
مجلة العربي مايو 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق