النار ذات الجذوة المشتعلة في الأجساد
والأمنيات والموتورات والقنابل وتحت أسياخ الكباب
النار من أخطر ما اكتشف
الإنسان منذ بواكير وجوده، إن لم تكن الأخطر على الإطلاق، ولا يزال خيالنا،
وجوانحنا، تتحسس هذا الرعب الفظيع المبكر الذي ارتبطنا به مع النار: حريق الرغبة،
والغابات، والحب، والمروج، والغيرة، والصواعق، والحقد، والانتقام، والفشل، ثم هناك
النيران السرية التي تشوينا ونحن نحلم ونكتب ونبحث عن السلوان، أو تلك التي
نستخدمها في الحفر المناسبة لدفن أمنياتنا القديمة وآمالنا الخائبة.
ولذا فقد قدس الإنسان
النار قبل أن يستوعب معناها، ثم ازداد تقديسه لها بعد اكتشافها وحل ألغاز
اشتعالها، وجعلها عنصرا أصليا في تصوره لأسس قيام العالم: النار والماء والتراب
والهواء، ثم تراجع عن تقديسها بعد انبثاق الديانات السماوية ونمو العلوم. وأجمل
النار ما يعد لتدفئة أول ماء لاستقبال الجسد تطهيرا لأولى ليالي الهناء والسعادة،
ولاستقبال أول مولود، ونار إشاعة الدفء في جسد وحيد بارد مقرور، ونار التخلص من
وعثاء السفر، ونار الضيافة تحت ظل أسياخ الكباب، ويمكن إضافة الطيور إلى بعض
الأسياخ، ونار النجاح التي من قوتها يمكن أن تدفعني إلى أعلى لأصطدم- بقوة-
بالسحاب، ونار الحرية الجاذبة خارج الجدران والمعتقلات، وطاقة النار التي تحرك كل
موتورات العالم.
والضوء ابن النار، نراه ونحس به في نور
الشمس، وتألق رقبة المحبوب، وانعكاسه على صفحة الخير والقمر والنهر وخدود الصبايا،
وفي عيون الأطفال والقادة المنتصرين، وفي الإحساس بالأيام الكريمة المفترجة، وفي
تسلل شعاع من عيون تود الانغلاق اعتزازا قبل أن تفترقا، وفي شطرة بيت تشدو به أم
كلثوم "أسهر على ضي ميعادك"، وفي البرق تنبيها من الطبيعة، وفي الإبراق
تنبيها للوصول والتواصل، وفي تلمس اليد الخاشعة المؤمنة ستائر الكعبة.
وألعن ما في النار: الأوار، هذا الاشتعال
الذي تطقطق فيه العظام الجبارة الرافضة لقوانين الكون والامتثال للرب، جهنم تفتح
اتساعها المرعب، عيون الأم المظلومة من ولائدها وبنيها، فحيح الأفعى لحظة
الانقضاض، انطلاق الرصاصة وانفجار القنبلة، اندفاع الكلمة الغبية الفظة الجارحة،
انشقاق الجمجمة كي تكشف عن المخ، حنك الأسد المفتوح ناهشا رقة الغزال المضطرب،
المقولة الفاسدة الشائكة الصادرة من منصب مؤثر لتمزق الأمة، قطة تشتعل في جسدها
نيران خصوم وسط حقول القمح، أوار حرائق الخماسين في القرى والبيوت الكامنة تحت
البوص والقش، وإشعاعها المدمر في الانفجارات الذرية ومكائد الخبثاء وفخاخ
العابثين.
والنار- بعد ذلك- هي عنصر فاعل في النضج،
التهابا، كانت، أو حرارة، وفي التطور، وفي تشغيل الحواس وتوصيل المدركات، وفي قيام
الفنون، والآداب، والظنون، والطبيخ، والانفعال، وسريان الحب، وإبراز الجمال
"وكم هو مشهد محبط غلالة هفهافة فوق جسد ساكن بارد وفاقد لحرارته"، لأن
الحرارة هي إشعاع الحياة، ورائحتها، وابتسامتها، وحيويتها، فإن زادت الحرارة أصبحت
أوارا، فتتحول كل المسائل الجميلة إلى كوارث محترقة، وإذا انخفضت أكثر مما يجب بدت
المساكن: قبورا، ومقدم الصدقة: صرافا، والحبيبة: زوجة، والعشق: تعاطفا، والفنان:
صانعا، والأديب: كاتبا، والناصح: متطفلا، والقائد: موظفا، والتلفزيون: صندوقا،
والماء: ثلجا، والحياة: مأزقا. وفي الماضي السحيق خسرنا دفء الفردوس وحرارة الجنة،
وها نحن نحاول أن نوقف دفء وحرارة حياتنا في الحدود المحتملة كي لا تصبح جحيما- أي
جهنم، نوع من التأجيل فيما أظن.
محمد مستجاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق