الأربعاء، 22 مايو 2019

• البقرة رمز التفاؤل والانقياد للمآسي


يـرى البسطـاء من النحاة والضالعين في اللغة أن البقرة جاءت من بقر البطن، اختصارا لما يعتقدون أنه عمل البقرة الأصلي، في حين يرى العارفون بأمور البقر ومنهم المؤرخـون والفـلاحـون (المصريون بـالذات) وجماعـات أصدقـاء الحيوان، أن البقرة طاقـة خير، ومنبع إدرار، ومبعث تفاؤل، وشارة خصب، وموطن صداقة...

وفي دخولها بيتـه أول مرة يضمخ الفلاح رأسها بالدقيق طلبا لنزول البركة في صحبتها، ولعل ذلك- في معنى آخر- آخر بقايا علاقته بحـاتحور ربـة الخصب المصرية في الأحقاب القديمة، لكنها أيضا ستظل علامة السنوات المقبلة في الحلم الشهير لسيدنا يوسف (عليه السلام) جـدبا أو ثـراء، وهذه الصفات الميمونة في البقرة جعلتها موضـع تقديس- لا تزال- عنـد كثير من طـوائف الهند، والبقرة- بعـد هـذا- ستكـون الحيـوان العصري الوحيد الذي تظل الفائدة منه قـائمة في كل أجزائه وثناياه من اللحم واللبن والزبـد والأحـذيـة والحقـائب الجلـد إلى الغـراء والكيماويات الـوسيطة (القرون والأظلاف)، حتى عظـام البقر تدخل وسائط في الأسمدة وبعض الصناعات الغذائية والدوائية.
وجسم البقرة تشكيـل هندسي بالـغ التوازن، ولها إيقاع خاص في مشيتها، وعيناها مـن أجمل ما رأى الوجود من عيون، سواء كـانت عيون المها- بصفتها الصنف الأكثر شاعرية وأندر وجودا- أو في عيون البقر البلدي أو الأهلي- كـما يطلق عليه في كتب التراث، لكن ذلك ما لا يراه المربون في الحظائر الضخمة المقـامة في المراعـي الشاسعـة في هولندا وفرنسا وأمريكا، إذ فقدت أبقارهم صفاتها المتألقة تحت روح التجارة والتعليب والتصدير، انظر إلى طبق البلوبيف أمامك فلن تحس بما يعتمل داخلك من شـاعريـة دمـوية مثلما يحدث لك عندمـا تغـوص أصابعـك في كتل اللحم البلـدي في الثريد الوطني، الـذي يصل إلى ذروته لو كـان المنفرش في طبقك مخا بقريـا مسلوقـا تجاوره شريحتان من اللسـان مع قليل من السـلاطـة الخضراء ذات الفلفل الحارق والطحينة البيضاء.
وللبقـرة غضبهـا الخاص- والمزمجر- إذا ما حاق بها أو بوليدها الأذى، وهي قـادرة على النطح بأقسى مما تراه في حلبة صراع الذكر منها في إسبانيا والبرتغال، لكنها في غير ذلك حيـوان ودود شـديـد الارتياح لمرأى أصحابها، وتشارك حيـوانات الحقـول الأخـرى في سهولة قيادتها، لكنها تختص دونها بما يطلقه العوام على المنقادين بأنهم بقـرة، أمـا ذوو الفهم العسـير فيطلقون عليهم: حمار، وليس لهذا أي علاقة بتلك الجماعات المعاصرة المنقادة بسهولة إلى حتفها الظاهر.
ويرى علماء الأجناس أن البقر زامل الإنسان منذ فجر التاريخ، وأصبح سلـوك أي منهم مفسرا وشارحا لسلوك الآخـر، حتى قـرون البقـر لم تنـج من التفسير الإنساني الذي رمز به إلى الجاهل بما يحدث في حياته الخاصة مـن أمور، وأنت لا تستطيع أن تمنع إحساسـا بقـريا يـداهمك عند خـروجك المزدحم من السينما أو دار الأوبرا أو السـوق أو المدرسـة أو محطـة القطارات والمطارات أو التجمعات الحزبيـة، ولا تستطيـع البقـرة أن تحول بينها وبين الإحساس الإنساني عند مثولها مع أقرانها وولائدها للغـذاء، أو الاجترار أو الـذبح، ولهذا تجد اللوردات والنبلاء وعتاة صيادي الحيوانات يفخـرون بأن يفترشوا في مداخل قصورهم جلود السباع، ويخفون عـن عمد جلود البقر، مع أن البقر نقطة ارتكـاز أساسية في حياتهم: صيدا أو بقاء أو حسن تقدير للأمور، وإلا فلماذا وضع المهاجمون من التتار والقوقاز رءوس البقـر ذات القرون فـوق هاماتهم؟ كما وضع المهاجمون من غير التتار والقوقاز رءوس البقر ذات القرون داخل قلوبهم؟
الإجـابـة لا تحتـاج إلى بحث آخر.
محمد مستجاب مجلة العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق