الثلاثاء، 16 يوليو 2019

• البؤس الجميل إحساس لا يترك أحداً


البؤس حالة من الشقاء تصيب مخلوقا ، بصفة مؤقتة أو دائمة، تجعل من حياته تجربة للجحيم، ولا يعترف علماء النفس اعترافا واضحا بحالات البؤس، ولكنك في مؤلفاتهم تواجه ألفاظا ومصطلحات مثل عدم التوافق، الإحباط، عدم التحقق، الآخرين، الاكتئاب، إثبات الذات، الفشل، الإفلاس النفسي أو الخواء، عدم الثقة، الجبن، التعسف، الإحساس بالظلم، حمى الانتقام، الإسراف، الفقر، والخوف من العناصر السابقة أيضا يدفع للبؤس المبكر...

ويقف الآخرون على الطرف المواجه لمعادلة الأنا أو الذات ليقيموا لنا معسكرا من البؤس. وأي شيء في العالم يمكنه أن يصنع بؤسا حتى لو كان تحقيقا للأمنية الغالية، وكثيرون يخلطون بين الكتابة وكاتبها، الكتابة يمكنها أن تكون تشكيلا متألقا وضاء مع أنها تتعرض للبؤس، وكاتبها بائس أيضا، رأيت البناء الذي نفذ مقبرة آغاخان على تلال أسوان أوائل الستينيات، يداه، وأنامله، تتحكم بإتقان معجز في تشكيل الرخام، عيناه تتلمسان السطوح الوضاءة باحثتين عما لن أراه - أنا وأنت - من عيوب، ومع ذلك ظل الرجل ضيق الصدر يدعو على الخلق بالخراب الواضح، وأثار هذا الأمر فينا اضطرابا صغيرا خشية أن يكون الرجل غير قادر على العمل تحت عيون الآخرين، لكن المهندس المختص أشار بألا نهتم، وأنه شخصيا يسمعه من بعيد خلال عمله منفردا. وكثيرون من كتاب التهكم والسخرية يعانون من البؤس، وقد رأيت المرحوم محمد عفيفي - صاحب التفاحة والجمجمة - وهو يتشاجر مع بقال وترك النقود وما اشتراه مزمجرا، والبائع ظل مذهولا يقول للواقفين: أنا لم أفعل شيئا 0 ومحمد عفيفي هذا هو أشهر صاحب أسلوب ساخر في الأمة العربية الحديثة ولا يخلو عالم البؤس من ملوك : هنري الثامن - ملك إنجلترا - الذي داهمته رغبة بائسة في المتعة حتى قتل صديقه الأثير في صحن الكنيسة، الملك الضليل ويقال إنه الشاعر امرؤ القيس، والملك أوديب الذي أصبحت علاقته مع أمه عملا مسرحيا باهرا عن حالة بؤس مروعة، وهناك من كتب عنه ما يثبت أنه كان الملك المصري القديم أمونحتب الرابع - أخناتون - تأسيسا على ظهور أمه معه في لوحات المعابد - وهي الملكة (تي) جنبا إلى جنب مع زوجته الشهيرة (نفرتيتي).
ويصف الصوفيون أنفسهم بالبؤس في بدايات بحثهم عن الحقيقة المطلقة ثم لا يلبثون أن يركنوا إلى ما أراح وجدانهم ليستريحوا، وفي المقابل قامت المذاهب والمدارس الوجودية الفلسفية بإضفاء البؤس على من لا يدرك حدود وجوده وقيام كيانه، وبدا جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار سعيدين - مع أن البؤس كان يعشش في غضونهما السعيدة، وأشهر شاعر بائس في العصر الحديث هو محمود الديب وأشهر مضحك بائس هو الممثل عمر الجيزاوي، وأشهر ممثل عبر عن البؤس المنير نجيب الريحاني، وكانت فاتن حمامة الشهيرة قد وقعت فترة في دائرة أفلام البؤس الطاحن مع حسن الإمام ، وأكثر النهايات المعروفة بؤسا: شاه إيران الأخير وهو يبحث عن ملجأ ينهي فيه حياته، وتعد الفترة من 1967 إلى 1970 ذات بؤس مركز على الزعيم جمال عبدالناصر، وأقسى نهاية سريعة للبؤس: الطريقة التي قتل بها الشاعر أبو الطيب المتنبي، ولم تكن الخنساء - شاعرتنا القديمة - بائسة مع أنها قدمت للاستشهاد ولدين في الجاهلية وولدين في موقعة القادسية، وكانت فرحة بذلك (هل هو قمة البؤس)، ولم تستطع كل الوسائل إنقاذ جان دارك من نهايتها البائسة احتراقا على كومة حطب متهمة بالإلحاد - مع أهمية قيادة فرنسا المهزومة إلى شاطئ النصر، وكانت (تاييس) غانية بائسة في عصر الإسكندر بالإسكندرية، ثم وقع في هواها راهب سلمها إلى نعمة التوبة وسلمته إلى سعير البؤس تسولا في الشوارع، ورحلت الجميلة الفاتنة مارلين مونرو انتحارا بأقراص مهدئة لتلقي بظلال البؤس على حياتها - كان من عشاقها الرئيس كنيدي الذي أودى به الحظ البائس للقتل في ولاية تكساس، وهو الحظ البائس الذي أنهى حياة الرئيس أنور السادات مع أنه كان محبا للحياة المتألقة المتفائلة السعيدة. أما أكثر المشاهد بؤسا في الوجود اختناق القمر في ليالي الشتاء الباردة، وآخر بيان يلقيه حاكم مخلوع، ثم ناهيك أن يداهمك بؤس وأنت غير مستعد له.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق