الجمعة، 19 يوليو 2019

• منازل ضد الزلازل


كانت المناظر رهيبة وغريبة كأنها مشهد من العالم الآخر. ففي الثلاثين من سبتمبر 1993 بعد سويعات قليلة من انتهاء احتفال دام عشرة أيام تكريما لإله الحظ السعيد الهندوسي مادت الأرض تحت ولاية ماها راشترا بفعل زلزال ضرب هذه المنطقة في جنوب غرب الهند. وهذا الزلزال، الذي بلغت شدته 6.4 درجات بحسب مقياس الزلازل المسمى ريختر، جعل البيوت تنهار في أكثر من 50 قرية وبلدة وحصد أكثر من 30 ألف ضحية، مما يجعله أسوأ زلزال ضرب شبه القارة الهندية في 58 سنة.

ولم تنسب ضريبة الموت الثقيلة إلى قوة الزلزال، بل إلى التشييد البدائي لمعظم البيوت، المصنوعة من الآجر الطيني، التي انهارت ودفنت سكانها. وبعد الكارثة اعترف شري كنشنا سينغ، عالم زلازل هندي، أنه "لو وقع في مكان آخر حيث المنازل مبنية بطريقة جيدة، لما كانت المأساة فظيعة إلى هذا الحد".
ومن طرف آخر، ضرب زلزال بلغت شدته 6.9 درجات حسب ريخت مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1989 مع ذلك لم يخبر إلا عن موت 67 شخصا. فما سبب هذا الفرق؟ يكمن أحد الأجوبة في أساليب البناء المستخدمة. فلنلق معا نظرة على أحدث ما توصل إليه المهندسون من تقنيات إنشائية مقاومة للزلازل.
مأساة المدن الساحلية
عندما ضربت الزلازل بعض المدن الساحلية تعلم المهندسون المراقبون درسا مروعا. فقد انهارت الأبنية هناك لا نتيجة لتصدعها، بل بفعل انهيار التربة تحتها. فقد بنيت هذه المدن على تربة غرينية رخوة - المادة الناعمة التي رسبتها الأمواج - بدلا من الصخور. وهذا أنشأ مشكلتين، أولا يرفع الضغط الذي تطبقه الزلازل الماء داخل الرواسب الرخوة إلى السطح، مسببا ظاهرة التميع Liquefaction. ثانيا، تهبط التربة الرخوة، كما تهبط الحبوب في صندوق هزاز، خلال الاهتزاز الذي يولده الزلزال. وهكذا فإن أي شيء متوضع عليها سيهبط بعنف أيضا.
يقول المهندس المدني فيليب كولد، من جامعة واشنطن، "إن آثار الهزة الأرضية تتضاعف على الترب الرخوة والردميات". فالزلزال الذي ضرب مدينة كوبي اليابانية الساحلية ولد ثقوبا ضخمة في التربة وأنتج حمات من الرمل والماء بعمق مترين. حتى أن جزيرة روكو الاصطناعية غارت حوالي 30سم في الأرض. وفي زلزال سان فرانسيسكو مزق الماء الصاعد شبكات المياه والغاز.
للحماية من هذه الأضرار، يقوم المهندسون بحفر ثقوب في الترب الرخوة ومناطق الردميات لتخدم كمنافذ لتحرير الضغط عندما يضرب الزلزال. والأسلوب الآخر هو حقن ملاط بيتوني للتربة الرخوة. فإجراءات من هذا النوع أنقذت معظم الفنادق الرئيسية والمراكز التجارية في جزر كوبي. ولكن المشكلة هي أن العديد من هذه الأساليب المعدة لحماية المنشآت الساحلية مكلفة جدا. الملاط المحقون، على سبيل المثال، يمكن أن يكلف المتر المكعب منه 500 دولار - بحيث إن المتعهدين يستغنون عنها لمصلحة الاشتراك في التأمين ضد الزلازل. ولكن الحوادث الأخيرة ستدفعهم إلى إعادة حساباتهم.
أسرار الصمود
أما بالنسبة لمقاومة الزلزال من ناحية البناء ذاته، فنبدأ مع التقنية التي تأخذ الأساس بعين الاعتبار. إنها تدعى العزل الزلزالي Seismic Isolation. وفيها يتوضع البناء فوق وسادات من الفولاذ والمطاط لها مخمدات لزجة فهي تعمل على امتصاص قسم كبير من الصدمات التي يولدها الزلزال مخفضة بالتالي كمية الحركة التي تنقلها الأرض إلى البناء. وهكذا تسمح للأساس والمنشأ أن يتحركا معا عندما يضرب الزلزال. وفي الواقع تقلل هذه الماصات التأثيرات الزلزالية نحو 60% في الجزء الأعلى من البناء. وفي الزلزال الذي ضرب نورثريدج، كاليفورنيا، 1994 صمد أحد المشافي المعزول زلزاليا وكأنه لم يخدش. ولكن البناء العادي الذي يليه أصيب بأضرار تقدر ب 389 مليون دولار. كما أن بناءين معزولين زلزاليا قرب مدينة كوبي لم يصابا بأذى. وفي بعض الحالات يجب إدخال الركائز في طبقة التربة التحتية الأقوى. وحتى الطابق السفلي يمكن أن يوفر ما يكفي من الاستقرار للحئول دون ميلان البناء.
وقد كشفت الدراسات أن السر في مقاومة المنازل للزلازل يكمن في ليونتها لا في صلابتها. فعندما يكون المنزل مرنا يميد تحت وطأة هزة الزلزال دون أن ينهار. وتستخدم هذه الفكرة في الأبنية العصرية. ففي الأبنية الشاهقة يحدد الاستعمال الفعال للفولاذ هل سيقاوم البناء الزلزال أم لا. ولا تستخدم فقط عوارض وعتبات فولاذية بل تثبت قضبان تسليح فولاذية في الأعمدة الأسمنتية، والأرضيات والجدران لجعل الإنشاء قويا آمنا ذا ليونة. فالفولاذ يوفر الليونة التي تساعد على بقاء البناء متماسكا عندما يضرب زلزال.
كما صار ممكنا بواسطة الأبحاث الجديدة أن يعرف كيف يحرك الزلزال البناء. وأدى ذلك إلى أخذ أمر مهم جدا بعين الاعتبار عند تصميم بناء مقاوم للزلازل: معدل ارتجاجه. فللبناء الصغير أو المبنى الصلب معدل ارتجاج أعلى، وبالتالي مدمر أكثر، من معدل ارتجاج البناء الأعلى أو الأكثر ليونة. وبالإضافة إلى ذلك، من المهم أن يصمم البناء ليرتج بمعدل يختلف عن معدل ارتجاج الأرض القائم عليها. فذلك يخفض تأثير الطنين الذي يضخم قوة الهزة.
والاكتشاف الجديد الآخر في مجال تقنيات مقاومة الزلازل يعبر عنه الدكتور ميشيل اشلر أستاذ في العمارة: "ربما علينا أن نغير الطريقة التي ننفذ بها عادة وصلات الأبنية ذات الهيكل الفولاذي، أي الطريقة التي نربط بها جائر مع عمود" وتتضمن الإجراءات الجديدة التشديد على تثبيت الوصلات، وتقويتها، وإبقاء الإجهاد فيها أقل مما اعتقدنا في الماضي باستعمال صفائح فولاذية إضافية. أما بالنسبة للتفاصيل الإضافية للبناء فيلزم أن تكون النوافذ صغيرة بالنسبة لواجهة البناء وموزعة بانتظام عليها. ويشدد على كون الأرضيات ذات ارتفاع وقوة ثابتين. أما الجدران فثخينة لتأمين مقدار أكبر من الثبات.
متين ورخيص
في بقاع كثيرة لا يزال السكان يبنون بيوتهم من الطوب اللبن أو الطين. وحتى ولو كان الوضع كذلك، هنالك إجراءات مختبرة يمكن تطبيقها كما يقول الخبراء. وهذه يجب معرفتها لأن التعلم كما يشدد الخبير في مجال الكوارث، البيرتو غيزيكي "هو أحد الإجراءات الرئيسية القليلة الكلفة التي تخفف وطأة الكارثة". ويوضح الكتيب (تخفيف وطأة الكوارث الطبيعية) الذي أعدته الأمم المتحدة ما يمكن فعله لبناء بيوت أفضل من الطوب اللبن أو الطين.
ففي المناطق الجبلية ينصح بالحفر في الأرض لتشكيل مصطبة للبيت. ومن اللازم معرفته أن البيوت المربعة هي الأقوى. إذا تطلبت أحوال معينة أن تكون المنازل مستطيلة الشكل، فليكن جدار الطول أطول من جدار العرض بمرتين ونصف المرة. كما يجب أن تكون الأساسات صخرية أو أسمنتية لتخفيف القوى الزلزالية، أما الجدران فلتكن رقيقة (10 - 15 سم) وقليلة الارتفاع. إن البيوت المبنية بهذه الطريقة معرضة للضرر أقل من البيوت الطينية المعهودة عند وقوع الزلازل. فهذا النوع من الإنشاءات يمكن البيوت من الاهتزاز خلال وقوع الزلزال، وعندما تتوقف الهزة الأرضية تعود الأبنية إلى وضعها الأصلي من جديد. فعندما ضرب زلزال أحد الأماكن في سنة 1991 ، بقيت كل البيوت المبنية بهذه الطريقة قائمة في حين سقط عشرة آلاف منزل آخر برغم أن ثخانة جدرانها كانت تبلغ مترا مما أودى بحياة 35 شخصا. ووفقا للمهندس المعماري جون بينون، من اليونسكو "ليست الزلازل هي ما يقتل الناس بل الأبنية المنهارة".
في الواقع لا يوجد مكان على الأرض يمكن أن يكون آمنا تماما من إمكان إصابته بأضرار الزلازل، فكل سنة تهتز الأرض أكثر من مائة ألف مرة حول العالم. وبعد كل زلزال ينقح المهندسون قوانينهم للبناء. وبرغم أن بعض المتشككين يتساءلون ما إذا كانت أنظمة البناء بإمكانها أن تجعل عبارة "مقاوم للزلازل" ذات معنى أكثر من "مقاوم للماء" في الساعات الرخيصة، فإنه لا داعي للشعور بالعجز. حقا لا يمكن لأية أساليب في التصميم أو لأية احتياطات أخرى أن تضمن أن البناء سيبقى سليما عند وقوع زلازل. فقد يكون الزلزال شديدا بحيث لا تصمد في وجهه أفضل الأبنية تصميما. ولكن جهود المختصين لتخفيف الآثار التدميرية للزلازل هي فعلا جديرة بالاهتمام، والإحصاءات التي أشرنا إليها في هذا المقال تظهر أنه إذا اتخذ الأفراد والمجتمعات والحكومات الإجراءات المناسبة، فعندئذ يصير ممكنا إنقاذ حياة الكثيرين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق