الأربعاء، 3 يوليو 2019

• تغيرات جوية تسترعي الانتباه


لقد أصبح واضحاً للجميع مدى ما يمكن أن تفعله بنا التغيرات الجوية، فكيف ضربت الثلوج القاسية الأردن وجبال لبنان بصورة غير مسبوقة منذ أربعين عاماً طبقاً لتقارير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. وكيف ثارت العواصف العاتية عام 1992 فبلغت سرعة الرياح حدوداً لم تبلغها من قبل في دولة البحرين؟ وكيف أتت كل تلك الأمطار التي صارت سيولاً هادرة على صعيد مصر مرتين في أقل من عام؟

إذ بلغت كمية المياه نحو ثلاثمائة مليون طن خلال سيول أكتوبر 1994 بينما وصلت إلى قرابة خمسين مليون طن في سيول مارس 1995. إن خسائر التغيرات الجوية فادحة بكل المقاييس فماذا أعددنا لمواجهتها؟
في تقرير البروفيسور أوباسي السكرتير العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (wmo) نجد أن أكثر من 60% من إجمالي الكوارث الطبيعية في العالم إنما يرجع للتغيرات الجوية سواء كانت الأعاصير والسيول والفيضانات أو الجفاف والتصحر وغير ذلك ، ولقد بلغت خسائر التغيرات الجوية 2052 قتيلا، 634 ألف لاجئ دون مأوى و13 بليون دولار، خلال المدة من 1982 1983.
أسئلة حائرة
مبلغ علمنا الآن أننا نتأرجح بين نقيضين، ففي البداية كان الجفاف والتصحر اللذان اجتاحا أماكن عديدة من العالم وخصوصا الساحل الإفريقي والصومال والسودان والحبشة وكادت طلائعهما تصل إلى مصر إذ قارب مخزون بحيرة السد العالي على النفاد حينذاك لولا أن تداركت الناس عناية الله بالأمطار التي سقطت على الحبشة وسرت في شرايين النيل. ومما لا شك فيه أن هناك العديد من النتائج المتدافعة والآثار التي يمكن أن تخلفها نوبات التغيرات الجوية المفاجئة. فهل من وسيلة نتقي بها هذه المخاطر؟ وهل يمكن للبشرية أن تطمع في إمكان تعديل الظروف الجوية القاسية حتى تصبح أكثر ملاءمة للنشاطات الإنسانية وللزراعة والصناعة وإقامة المدن وغير ذلك..؟ إن الإجابة عن هذه الأمثلة تتطلب منا قطع طريق الألف ميل وعلينا بادئ ذي بدء أن نخطو الخطوة الأولى بأن نضع على بساط البحث تفصيلا مبسطاً لبعض ديناميكيات الغلاف الجوي للأرض باعتباره الوسط الذي تتفاعل فيه شتى عوامل الطقس وتتصارع في جنباته أنواع التغيرات الجوية.
إن أهم القوى الفعالة في تحرك أجزاء الغلاف الجوي هي قوة تدرج الضغط التي تستتبع تدرج شدة الأشعة الشمسية الساقطة على سطح الأرض فإجمالي الحرارة المكتسبة عند السطح يختلف من يوم لآخر تبعاً لموقع الأرض بالنسبة للشمس خلال الحركة المدارية. ولما كانت المناطق الاستوائية معرضة لأشعة قريبة من التعامد في معظم الأحوال حيث يتراوح ارتفاع الشمس عند الظهر بين 60 إلى 90 درجة بينما تتعرض المناطق القطبية لأشعة مائلة خلال ستة شهور كل عام هي شهور الصيف القطبي التي يتراوح ارتفاع الشمس فيها عند الظهر بين المستوى الأفقي وبين ارتفاع نحو 40 درجة فقط، ويستتبع تدرج شدة الأشعة الشمسية تناقصاً في درجة الحرارة مقداره المتوسط ست درجات مئوية لكل ألف كيلو متر كلما ابتعدنا عن خط الاستواء في اتجاه أحد القطبين، بينما يبلغ معدل التناقص في درجة الحرارة من 6. 5 درجة إلى 10 درجات مئوية لكل كيلو متر في الاتجاه الرأسي نظراً لأن سطح الأرض هو مصدر التسخين المباشر للجو وليست أشعة الشمس المباشرة، ولهذا يسخن الهواء القريب من سطح الأرض الساخن فيتحرك إلى أعلى. وفي المناطق الاستوائية ذات الأسطح المائية تتدافع الأهوية الساخنة الرطبة مبتعدة عن السطح فتتناقص حرارتها ويتكاثف بخارها فتسقط الأمطار الغزيرة ، ويستمر صعود الهواء إلى أن تتساوى قوة الطفو مع قوة الجاذبية الأرضية، وعند ذلك تتفرق الأهوية العلوية في كل اتجاه فتكمل مركباتها التي تنساب صوب القطبين تحركاتها لتهبط إلى سطح الأرض ثانية بعد أن تكتسب حرارة شديدة، خلال هبوطها قرب المدارين إذ تزداد درجة حرارتها بمعدل قدره 10 درجات لكل كيلو متر بالإضافة إلى جفاف شديد نظراً لسابق فقدانها للمكونات المائية عند المناطق الاستوائية، وهكذا تنشأ الصحارى الحارة الكبرى من جراء هبوط هذه الأهوية.
من ناحية أخرى تتدافع الأهوية هابطة عند القطبين تحت تأثير التبريد المتتالي للهواء السطحي هناك، فإذا تراكمت الأهوية اندفعت تجاه خط الاستواء لتصطدم مع الأهوية القادمة عن قرب المدارين. ويؤدي هذا الاصطدام إلى اندفاع الهواء لأعلى مرة أخرى عند خطوط عرض نحو 60 شمالا وجنوباً، وينشأ من جراء ذلك أن تكتمل ست خلايا فوق سطح الكرة الأرضية يتحرك فيها الهواء مائلاً على خطوط الطول في غير مواضع الصعود والهبوط. وهي خلايا هادلي الشهيرة، ويرجع السبب في انحراف حركة الهواء عن اتجاه خطوط الطول إلى قوة تنشأ بسبب دوران الأرض حول محورها وتعمل على توجيه الهواء المتحرك دائماً إلى يمين اتجاه حركته الأساسية وذلك في نصف الكرة الشمالي، بينما تعمل القوة على إحداث انحراف في حركة الأهوية إلى ناحية اليسار من الاتجاه الأصلي للحركة وذلك في نصف الكرة الجنوبي وتسمى هذه القوة باسم مكتشفها كوريولس. وهناك نوع آخر من الخلايا الجوية الشديدة الأهمية وهي خلايا تحيط بحزام الأرض عند المنطقة الاستوائية وتتحرك فيها الأهوية موازية لخطوط العرض لا غير مواضع الهبوط والصعود يطلق عليها اسم خلايا ووكر ويبلغ عددها ست خلايا في الأحوال العادية، تتكون أولاها بصعود الهواء الساخن الرطب فوق المناطق الاستوائية الممتدة من خط طول 140 حتى 160 شرقاً بسبب تكون منخفض سطحي بين أستراليا وإندونيسيا، يصاحب الهواء المندفع لأعلى في هذه المناطق سقوط أمطار غزيرة إذ تحمل الأهوية كميات هائلة من البخار المتصاعد من سطح المحيط الدافئ، ويتجه بعض الهواء العلوي هناك شرقا وغربا ليهبط عند خطي عرض 110 غربا و 70 شرقا بينما يبدأ انسياب الهواء السطحي الهابط فوق المساحات الشاسعة من بحر العرب فيحمل كميات متزايدة من بخار الماء كلما اندفع غربا، ويعمل اندفاع الأهوية غرباً على تسلقها هضبة الحبشة مما يؤدي لحدوث تبريد متتال بمعدل 6. 5 درجة مئوية لكل كيلو متر، فيتكاثف ما تحمله من بخار الماء مخلفاً الأمطار الغزيرة التي تسبب فيضان النيل.
أسرار التغيرات الجوية
يؤدي التداخل بين خلايا هادلي وخلايا ووكر إلى حدوث تغيرات هائلة في الأحوال الجوية وتدل النتائج التي أمكننا التوصل إليها بجامعة القاهرة (6. 5) على أن الهواء يتحرك في النوعين المشار إليهما من الخلايا كأنة مجموعة من التروس الهوائية الجبارة المتعامدة بحيث يمكن للهواء الصاعد عند المناطق الاستوائية أن ينساب شمالاً أو جنوباً تجاه القطبين إذا كانت خلايا هادلي أكثر نشاطاً وأكبر قوة من خلايا ووكر، بينما يتحرك الهواء شرقاً وغرباً موازياً لخطوط العرض إذا كانت خلايا ووكر أشد قوة من خلايا هادلي. ولما كانت حرارة السطح السفلي هي المحرك الرئيسي لتوزيع الضغوط الجوية وتحريك الآهوية فإن سطح المحيط الهادي في المنطقة الاستوائية يمثل القوة الدافعة الرئيسية للآلة الجوية الجبارة ، بحيث تؤدي التغيرات الطفيفة في توزيعات حرارة سطع المحيط إلى تغيرات هائلة في أطوال التروس الجوية المكونة لخلايا ووكر وهذا مفتاح السر في التغيرات العظمى التي تجتاح الطقس وتجعله يتأرجح بين الجفاف الشديد في أماكن معينة والأمطار المنهمرة في أماكن أخرى ، أو بين البرودة القاسية والثلوج المتراكمة في منطقة؟ بينما تكتوي مناطق أخرى بموجات الحرارة الشديدة. إن ميكانيكية هذه التغيرات يمكن إدراكها بسهولة إذا علمنا أنه في الأحوال العادية تهب الرياح التجارية من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي في نصف الكرة الجنوبي وتعمل على أن تدفع في طريقها كميات من المياه الدافئة المكونة للطبقة السطحية عن المحيط الباسفيكي لتتحرك من المناطق الدافئة قرب شواطئ بيرو و إكوادور إلى المناطق الأقل دفئاً بالقرب من جزر أندونيسيا، وعندما تقل شدة الرياح التجارية (وهذا ما يحدث خلال شهري وسط الصيف الجنوبي (ديسمبر ويناير) ويرجع لأسباب متعددة بعضها غير واضح تماماً حتى الآن) ينقص تبعاً لذلك مقدار إزاحة المياه السطحية الدافئة من شاطئ إكوادور وبيرو مما يسبب زيادة في سمك الطبقة الدافئة من سطح المحيط هناك، ويؤدي ذلك بدوره إلى ارتفاع في درجة حرارة سطح الماء يصل إلى 4 درجات مئوية مقارنة بالقيمة المتوسطة المألوفة قرب أعياد الميلاد، وتعرف هذه الظاهرة باسم ظاهرة النينو (el nino) التي طبقت شهرتها الآفاق لما أكدته البحوث والدراسات الجوية عن علاقتها الوطيدة بالجفاف الذي ضرب إفريقيا ومناطق أخرى عديدة من العالم لسنوات متتالية. فما زلنا نذكر بكثير من الارتياع حوادث (النينو) خلال 1982 1983 ثم خلال 19861988 فالأولى هي أشد حوادث (النينو) قوة خلال القرن الحالي والثانية أطولها في الامتداد الزمني. كما أكدت الأبحاث العلمية الارتباط بين ظاهرة النينو من ناحية والضغط الجوي الواقع على سطح المحيط عند منطقتين إحداهما بالقرب من إندونيسيا والأخرى عند جنوب شرق المحيط إذ وجد أن ارتفاع الضغط فوق إحدى المنطقتين يواكبه انخفاض في الضغط عند المنطقة الأخرى حتى وكأنهما كفتا ميزان يؤدي ارتفاع إحداهما إلى انخفاض الأخرى وتعرف هذه الظاهرة باسم الذبذبة الجنوبية Southern Oscilla tion وقد قام العلماء بضمها في مصطلح واحد مع ظاهرة (النينو) نظراً لارتباط كل منهما بالآخر، وتعبيرا عن الفعل المشترك لهما، فسميتا الإنسو (Enso) ومن المعروف أن الضغوط السطحية المنخفضة تعمل على دفع الأهوية إلى أعلى بعد أن تجتذبها لتدور حول مركز المنخفض في اتجاه يماثل اتجاه عقارب الساعة بالنسبة لنصف الكرة الشمالي.
وفي جميع الأحوال تتدافع الأهوية إلى أعلى مبتعدة عن السطح. ويؤدي تغير موقع المساحة الدافئة من سطح المحيط في حالة (النينو) إلى تغير في بدايات خلايا ووكر بحيث يتم سحب تروسها الجوية شرقاً مما يسبب تعديلاً جوهريا في مواقع صعود الأهوية وما يصاحبها من أمطار غزيرة، كما يؤدي ذلك إلى تعديل في عدد الخلايا نفسها وإقامة نظام مختلف في أرجائها بحيث ينقص عددها إلى ثلاث خلايا فقط تلف الكرة الأرضية في حزامها الاستوائي بدلاً من ست خلايا في الأحوال العادية بالإضافة إلى إزاحة بداية الخلية الأولى قرابة ستين درجة ناحية الشرق بالنسبة لموقعها في الأحوال العادية فتبدأ حينذاك عند منطقة تمتد بين خطي طول 140، 160 غرباً، وتكون نهايتها عند خط طول 40 شرقاً مما يعرض مناطق شرق إفريقيا لتيارات من الهواء الهابط الجاف الساخن في معظمه بدلاً من التيارات الصاعدة الممطرة في غير سنوات (النينو) وهي السنوات التي يطلق عليها اسم لانينا (La Nina)
إن المتأمل فيما يحدث من إزاحات في هذه الخلايا يمكنه أن يلاحظ التغيرات الهائلة لمواقع أحزمة المطر خلال سنوات (النينو) حيث تسقط الأمطار بغزارة على منتصف المحيط الباسفيكي بدلاً من سقوطها عادة على أندونيسيا وما يجاورها، كما تهطل الأمطار على الشواطئ الغربية لأمريكا خلال سنوات (النينو) بدلا من السقوط على شرق إفريقيا والحبشة وشرق أمريكا في السنوات العادية. ولا يتوقف التأثير عند حدود إزاحات أحزمة الأمطار ولكن يواكبها العديد من الأحوال الجوية غير المألوفة إذ تشتد الأعاصير وتتغير مواقع مراكز البرودة والتسخين، كما تتغير قيم كل منها بشكل واضح تبعاً لشدة النشاط الجوي في المنطقة الاستوائية وتبعاً لاتجاه انتقاله بين الخلايا المختلفة.
ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث العلمية التي أجريت بالمركز الوطني لأبحاث الجو بكلورادو في الولايات المتحدة الأمريكية قد أثبتت عمق العلاقة بين زيادة تكرار حوادث النينو خلاص العقود الخمسة الماضية وبين ارتفاع تركيز غازات الصوبة التي أدت إلى الاحتباس الحراري في جو الأرض
استقراء وتوقع
لعلنا نتساءل الآن عن إمكان استقراء الظروف المواتية لنشوء (النينو) حتى نتمكن من الاستعداد لآثاره المدمرة ولتدارك الأخطار التي يمكن أن تنجم عنه، وفي الواقع فإن العلماء قد استرعى انتباهم توالي حدوث ظواهر (النينو) عقب الثورات البركانية العنيفة في المناطق القريبة من خط الاستواء. كما أمكن إجراء توقع ناجح للنينو بتطبيق نماذج رياضية عالية الكفاءة مع استخدام أجهزة وحاسبات عملاقة وذلك بمركز التحليلات المناخية بميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن النموذج المعتمد للحسابات لم يختبر بشكل كاف، ولم يتم الكشف عنه حتى الآن. وعسى أن تتضافر جهود العلماء العرب في عمل برنامج قومي لدراسة التغيرات المناخية وآثارها على الوطن العربي. هذه الآثار التي تتراوح بين النقص الرهيب في مصادر المياه مع الجفاف والتصحر من ناحية، وبين الأعاصير والأمطار الغزيرة والسيول الجارفة من ناحية أخرى. وهذا أمل ليس صعب المنال وليس مستحيل البلوغ. فإذا ما تم لنا ذلك فإن أملنا في تعديل الظروف الجوية القاسية في منطقتنا وجعلها أكثر ملاءمة لنا سوف يصبح حينذاك أملاً منظوراً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق