الأحد، 13 أكتوبر 2019

• حضارة بلاد ما بين النهرين قبل 4500 عام



لا يمكن وصف الحياة اليومية لأهل بلاد ما بين النهرين القديمة بنفس الطريقة التي يمكن بها وصف الحياة في روما القديمة أو اليونان من بضعة آلاف من السنين، إذ لم تكن بلاد ما بين النهرين حضارة واحدة موحدة، ولا حتى تحت حكم إمبراطورية شاملة، لكن بشكل عام ومنذ ازدهار المدن الحقيقية في المنطقة حوالي 4500 ق م إلى سقوط سومر في 1750 ق م، فقد عاش سكان مناطق بلاد ما بين النهرين حياتهم بطرق مماثلة لبعضهم البعض رغم الاختلافات السياسية والمكانية.

لقد أولت حضارات بلاد ما بين النهرين قيمة كبيرة للكلمة المكتوبة، فبمجرد اختراع الكتابة، 3500-3000 ق م، بدا أن الكتّاب صاروا مهووسين تقريبًا بتسجيل كل جانب من جوانب الحياة في مدنهم، ولهذا السبب فإن الأثريين والعلماء في الوقت الحاضر لديهم فهم واضح إلى حد ما لكيفية حياة الناس وعملهم في ذلك الوقت والمكان، إذ أن كل مُعلم كان كاتبًا، و احد من أهم التخصصات التي تم تدريسها في كل مدرسة من مدارس بلاد ما بين النهرين كانت الكتابة والتدوين، وفيما يلي استعراض لما ورد من معارف سجلها أهل المنطقة ووصل إلينا بعد وقتٍ طويل:
السكان والفئات الاجتماعية
تباين عدد سكان مدن بلاد ما بين النهرين القديمة بشكل كبير، ففي حوالي 2300 ق م كان عدد سكان (أوروك) –مدينة سومرية وبابلية تقع على ضفاف نهر الفرات– 50000 نسمة، بينما كان تعداد سكان (مارى) في الشمال 10000 و(أكاد) 36000 نسمة. تم تقسيم سكان هذه المدن إلى طبقات اجتماعية هرمية، مثل المجتمعات في كل حضارة عبر التاريخ، وهذه الفئات هي: الملك والنبلاء، الكهنة والكاهنات، الطبقة العليا، الطبقة الدنيا، والعبيد.
كان يُعتقد أن ملك مدينة أو منطقة أو إمبراطورية له علاقة خاصة مع الآلهة وأنه الوسيط بين العالم السماوي والعالم الأرضي، عمق العلاقة بين الملك وآلهته ومدى سرورها بحكمه كان يُدل عليه بنجاح المنطقة التي حكمها، فالملك العظيم هو من يوسع مملكته ويجعل أراضيها مزدهرة ليظهر بذلك حجم تفضيل الآلهة له. وعلى الرغم من أن العديد من مناطق بلاد ما بين النهرين تمردت مرارًا وتكرارًا ضد حكم (سرجون أكاد) في (2334-2279 قبل الميلاد) والسلالة التي أسسها، إلا أنه لا يزال شخصية أسطورية بسبب غزواته العسكرية الناجحة وتوسيع إمبراطوريته. هذه الإنجازات تعني أن الآلهة التي خدمها كانت راضية حيال حكم سرجون (في حالته الإلهة عشتار).
ترأس الكهنة والقساوسة الجوانب المقدسة للحياة اليومية، حيث كانوا يمارسون الخدمة الدينية وقد عرفوا القراءة والكتابة واعتبروا بارعين في تفسير العلامات والرؤى، كما كانوا يُعتبرون بمثابة المعالجين. أوائل الأطباء ومعالجي الأسنان في بلاد ما بين النهرين هن كاهنات عالجن الناس في المعابد، من بين الكاهنات الأكثر شهرة كانت (إنخيدوانا) (2285-2250 ق م) وهي ابنة سرجون الأكادي، التي خدمت في منصب الكاهنة الأعلى في مدينة (أور) (التي وقعت على مصب نهر الفرات قبل تغيره) وهي أيضًا أول مؤلفة في العالم معروفة بالاسم. لم تخدم (إنخيدوانا) كمعالجة بل كانت تعمل في إدارة المعبد والمجمع المحيط به، بالإضافة إلى تولي مهام القدّاس في الاحتفالات.
شملت الطبقة العليا التجار الذين يملكون شركاتهم الخاصة والكتّاب والمعلمين الخاصين ولاحقًا رجالاً عسكريين رفيعي المستوى، فكان التاجر الذي يمتلك شركته الخاصة وليس بحاجة للسفر لتسيير أموره رجلًا مرفهًا معززًا أكثر من غيره، يستمتع بتجرع أفضل أنواع بيرة في المدينة بصحبة أصدقائه وحضور العبيد من حوله، أما المهن الأخرى في الطبقة العليا فقد شملت المحاسبين والمهندسين المعماريين والمنجمين (الذين كانوا عادة كهنة)، وبناؤو السفن.
كان الكتّاب يحظون باحترام كبير ويخدمون في المحكمة وفي المعبد وفي المدارس. التحق الذكور فقط بالمدرسة، ورغم تمتع النساء بحقوق متساوية مع الرجال تقريبا، إلا أنهن ما كن يعتبرن صاحبات ذكاء كافٍ ليتمكنّ من إتقان التعلم والكتابة، بقي معمولا بهذا المفهوم حتى بعد تولي (إنخيدوانا) لأعلى سلطة دينية وأدبية في زمنها. كما حظي المعلمون الخاصون بتقدير كبير ونالوا رواتب مجزية من العائلات الثرية في المدن لمساعدة أبنائها على التفوق في المجال الدراسي.
كان المعلمون الخاصون الذين لا يعملون في مدرسة (والتي كانت تديرها المعابد في كثير من الأحيان) رجالًا يتمتعون بذكاء استثنائي وفضيلة وشخصية بارزة، وغالبًا ما كرسوا أنفسهم تمامًا للطالب أو الطلاب الذين تولوا وصايتهم، وإذا كان لديهم طالب من علية القوم، فقد عاشوا برفاهية كما فع
كانت الطبقة الدنيا مكونة من المهن الحيوية للمدينة أو المنطقة فعليًا كالمزارعين، والفنانين، والموسيقيين، وعمّال البناء، وبناة القنوات، والخبازين، وصانعي السلال، والجزارين، والصيادين، وصانعي الطوب، والجعة، وأصحاب الحانات، والبغايا، وخبراء المعادن، والنجارين، وصنّاع العطور، والخزافين، وصنّاع المجوهرات والمشغولات الذهبية، وسائقي العربات، والجنود، والبحارة، والتجار الذين عملوا لصالح شركة رجل آخر.
من بين المذكور أعلاه، يمكن اعتبار البغايا وصانعي العطور وصنّاع المجوهرات وصائغي الذهب من المهن العليا في ظل الظروف المناسبة (مثل امتلاك مهارة استثنائية أو الوقوع تحت رعاية شخص ثري أو الملك نفسه)، ومع ذلك يمكن لأي عضو في الطبقة الدنيا تسلق السلم الاجتماعي إذا ما استطاع لذلك سبيلًا.

يشير عالِم الآشوريين (جان بوتيرو) إلى أن ”مدينة (كيش) لم يحكمها ملك بل ملكة مفعمة بالحياة تدعى (كوبابا)، وهي مالكة خمّارة سابقًا، وعدا عن ذلك فنحن لا نعرف عنها شيئًا آخر“، بالنسبة للجزء الأكبر من الحالات اقتصر نصيب النساء على وظائف الطبقة الدنيا، لكن من الواضح أنه كان يمكن لهن أن يشغلن مناصب محترمة مثل الذكور، فالنساء أول من عمل في التخمير وكن مالكات الحانات وأيضًا أول معالجات وطبيبات أسنان في بلاد ما بين النهرين القديمة قبل أن تثبت تلك المهن أنها مربحة ليستولي عليها الرجال.
أدنى نظام اجتماعي تشكّل من العبيد، وكان يمكن للمرء أن يُمسي عبداً بعدة طرق: أسره في الحرب، بيع نفسه للعبودية لسداد دين أو يتم بيعه كعقوبة على جريمة، أو خطفه وبيعه كرق في منطقة أخرى، أو بيعه من قبل فرد من العائلة لسداد الديون، لكن لم يكن للعبيد أي إثنية موحدة ولا اقتصر عملهم فقط في المجال اليدوي. أُبقي العبيد في المنازل وأداروا أملاكًا كبيرة وعلّموا الأطفال الصغار ورعوا الخيول وعملوا كمحاسبين وصناع مجوهرات مهرة، وكان يمكن أن يعملوا في أية مهنة رأى سيدهم أن لهم موهبة فيها، والعبد الذي يعمل بجد عند سيده يمكنه في النهاية شراء حريته.
المنازل والمفروشات
عاش الملك وحشمه في القصر ومجمعه بالطبع، أما في المدن فبنيت المنازل حول وسط المستوطنة الذي كان عبارة عن معبد تحيط به الزقورات (هي عبارة عن معابد مدرجة كانت تبنى في سوريا والعراق). الأغنى والأعلى على السلم الاجتماعي كان منزله الأقرب إلى المركز.
تم بناء منازل الأثرياء من الطوب المجفف بينما بنيت منازل الأشخاص الأقل مرتبة من القصب، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذه المنازل كانت لا تزال تعتبر مباني وليست ”الأكواخ“ التي نتخيلها في كثير من الأحيان. يصف المؤرخ (ستيفان بيرتمان) بناء هذه المنازل كالتالي:
لبناء منزل متواضع يجري اقتلاع بعض نباتات المستنقعات الطويلة وتجمعها معًا وربطها في حزم محكمة. بعد حفر الثقوب في الأرض تُدرج حزم القصب بتعداد حزمة واحدة لكل حفرة، عند ملء الثقوب وتعبئتها بالكامل يتم ثني الحزم التي تواجه بعضها البعض وربطها معًا في الأعلى لتشكل قوسًا، وتضم الحزم المتبقية معًا بطريقة متشابهة ثم يُلف حصير من القصب في الأعلى لتغطية السقف أو تعليقه من فتحة في الجدار لإنشاء باب.
أما لبناء منزل من الطوب يواصل (بيرتمان):
يُخلط طين ضفاف النهر بالقش لتعزيزه ويعبأ في قوالب خشبية صغيرة على شكل قرميد، يُرفع بعد ذلك حتى يجف الطوب الطيني تحت أشعة الشمس الحارقة … كان الطوب المجفف بالشمس عرضة للتخريب بشكل خاص نتيجة هطول الأمطار السنوية. لكن البديل، وهو الطين المجفف بأفران الخبز، كان باهظ الثمن بسبب استهلاك الوقود ولزوم اليد العاملة الماهرة لتصنيعه، لذلك كان يجري استخدامه في دور الملوك والآلهة بدلاً من منازل الناس العاديين.
تم توفير الإضاءة في المنزل بواسطة مصابيح صغيرة يغذيها زيت بذور السمسم وأحيانًا بواسطة النوافذ في حال المنازل الأكثر تكلفة. صُنعت النوافذ من شبكة من القضبان الخشبية، وبما أن الخشب كان سلعة نادرة فإن المنازل ذات النوافذ لم تكن شائعة. كان يتم طلي الجزء الخارجي من المنازل المبنية من الآجر باللون الأبيض ”حيلة لتخفيف الحرارة العالية“ –كما يلاحظ بيرتمان– و”لم يكن هناك سوى باب خارجي واحد إطاره مطلي باللون الأحمر الفاقع لمنع الأرواح الشريرة“. تشير المؤرخة (كارين ريا نعمت نجات) إلى أن ”الغرض من المنزل في جنوب العراق هو توفير المأوى من اثني عشر ساعة من الحرارة المتواصلة من مايو إلى سبتمبر“. بعد شهر سبتمبر يأتي موسم الأمطار بالطقس البارد فيتم تدفئة المنازل بحرق سعف أو خشب النخيل.
كان للقصور والمعابد والمنازل من الطبقة العليا مواقد مزخرفة لتدفئة الغرف، في حين استخدمت الطبقات الدنيا حفرة صغيرة مبطنة بصلصال صلب. تم استخدام أنابيب الصرف الداخلية على نطاق واسع قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد مع وجود مراحيض في غرف منفصلة من منازل الدرجة الأولى والقصور والمعابد. نقلت مصارف البلاط، التي بنيت بشكل مائل، الفضلات من المبنى إلى بالوعة أو نظام الصرف الصحي بعيدًا بأنابيب من الطين تصل إلى النهر.
كانت جميع المنازل في منطقة سومر، سواء كانت غنية أم فقيرة، في حاجة إلى بركة الأخوة (كابتا ومشمدا) (آلهة أشرفت على الأسس والمباني والبناء والطوب). كما قُدمت القرابين بامتنان قبل أن يبدأ أي مشروع بناء وعند الانتهاء منه لإله البناء المكتمل (أرازو). كان لكل منطقة من بلاد ما بين النهرين شكل من أشكال هذه الآلهة نفسها لتضمن بركاتهم دائمًا امتلاك منزل آمن. تكتب (نعمت):
البيوت القديمة، خاصة تلك المصنوعة من الطوب المجفف بالشمس، غالبًا ما كانت تنهار. كرست قوانين حمورابي خمسة بنود لهذه المشكلة مشيرة على وجه الخصوص إلى مسؤولية الباني: ”إذا كان البنّاء يقوم ببناء منزل لرجل، لكنه لا يجعل عمله قويمًا، وانهار المنزل الذي يبنيه وسبب وفاة رب المنزل، حينها يجب أن يقتل هذا البنّاء، وإذا تسبب في وفاة ابن صاحب المنزل، فسيقتل ابن ذلك البنّاء“.
كان أثاث المنازل في ذلك الوقت نفسه اليوم تقريبًا، فترى الكراسي (ذات الأرجل والظهر عادةً والأذرع في منازل الأثرياء) والطاولات والأسرّة وأدوات المطبخ. كانت الأسّرة في المنازل الغنية مصنوعة من إطار خشبي مقطّع بحبل أو قصب ومغطاة بفراش محشو بالصوف أو شعر الماعز وعليها ملاءات من الكتّان. غالبًا ما كانت هذه الأسّرة منقوشة بشكل معقد، وبحلول الألفية الثالثة كانت ”مغطاة في بعض الأحيان بالذهب أو الفضة أو النحاس“ و”كان لها أرجل تنتهي في الغالب بقدم ثور أو مخلب“.
بطبيعة الحال، لم تستطع الطبقات الدنيا تحمل هذه الفخامة فنامت على حصير من القش المنسوج أو القصب على الأرض. تم صنع الطاولات بنفس الشكل التي لا تزال تُصنع بها اليوم (كانت المنازل الأكثر ثراء تحتوي على مفارش المائدة والمناديل المصنوعة من الكتان)، حيث تجتمع العائلات على الطاولة لتناول وجبة العشاء بالطريقة نفسها التي لا يزال كثير منّا يقوم بها حاليًا.
العائلة وأوقات الفراغ
تشكلت الأسرة، كما هي في العصر الحديث، من أم وأب وأطفال وعائلة كبيرة. عمل كل من الرجال والنساء بينما وُجهت حياة الأطفال حسب جنسهم وحالتهم الاجتماعية. أُرسل الأطفال الذكور من الطبقات العليا إلى المدرسة في حين بقيت الإناث في المنزل وتعلمن التدبير المنزلي والمشغولات اليدوية، بينما عمل أبناء الطبقات الدنيا كآبائهم في الحقول أو أي عمل شغلوه، في حين أن البنات، كما هو الحال في الطبقات العليا، حاكين دور والداتهن في عملهن المنزلي. كانت الألعاب التي لعبها هؤلاء الأطفال متشابهة، مثل العربات والدمى. كتب (بيرتمان):
كان للرضع والأطفال الصغار خشخيشات مصنوعة من الطين مليئة بالكريات ومقروصة عند الحواف مثل الفطيرة، مع وجود ثقب صغير تمر به سلسلة. بالنسبة للفتيان الذين كانوا يحلمون بالصيد أو بحياة الجيش، كان هناك مقلاع وأقواس صغيرة وسهام، وفي الوقت نفسه كانت السفن والمركبات المحمولة باليد وحيوانات الجر الصغيرة والعربات تسمح للشباب بالسفر في عالم خيالهم. بالنسبة للفتيات، على أمل تربية أطفالهن في يوم من الأيام، كانت هناك دمى وقطع أثاث مصغرة (طاولات ومقاعد وسرير) للعب في المنزل. لمزيد من التسلية كان هناك أيضًا كرات وأطواق وحبل القفز.
استمتعت العائلات أيضًا بألعاب الطاولة (الأكثر شهرة حينها كان لعبة شبيهة بلعبة الباتشيسي) وألعاب النرد. أظهرت الألواح كيف أن العائلات حينها كانت تقضي أوقات الفراغ بطريقة مشابهة جدًا ليومنا هذا. أما الرياضة فضمت الذكور في المقام الأول والأكثر شعبية بينها كان المصارعة والملاكمة بين الطبقات الدنيا والصيد بين طبقة النبلاء.
وجبة العائلة كانت مماثلة لتلك الموجودة الآن مع اختلاف كبير هو أشكال الترفيه أثناء وبعد العشاء، حيث كان سرد القصص جانبًا مهمًا من وجبة المساء وكذلك الموسيقى. كان أحد أفراد العائلة يعزف على آلة موسيقية أو يروي قصة بعد العشاء، فيما كان للأثرياء عبيد لهذا الغرض أو فنانون محترفون، وقد استخدم هؤلاء آلات مألوفة لأي شخص في العصر الحديث.
انتشر في بلاد ما بين النهرين المطربون وآلات الإيقاع كالطبول، والآلات الهوائية كالناي والمزامير، والآلات الوترية كالقيثارة. تدل الصور التي وصلتنا من جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين على حب الناس الكبير للموسيقى، يكتب (بيرتمان): ”كان حُب ملكة (أور) للموسيقى جمًا، فلم تستطع تحمل فكرة وجودها في العالم الآخر دونها، لذلك، وبمساعدة جرعة منومة، اصطحبت معها الموسيقيين الملكيين إلى الأبد“. تُصور النقوش والصور أيضًا كيف استمع الناس إلى الموسيقى أثناء شرب البيرة أو القراءة أو الاسترخاء في المنزل أو الحديقة. يشير (بيرتمان) إلى أن ”الموسيقى كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة بلاد ما بين النهرين القديمة، تعيدنا الصور على الألواح والأحجار المنحوتة والنقوش الجدارية إلى عالم مليء بالأصوات، سنشاهد مثلًا راعي غنم يعزف الناي وكلبه يجلس بجانبه يستمع باهتمام “. كانت الموسيقى أيضًا، على الأقل بالنسبة للمواطنين الأثرياء، جزءًا لا يتجزأ من الولائم وحتى الوجبات الخاصة.
الطعام والهندام
كان محصول الحبوب الرئيسي في بلاد ما بين النهرين هو الشعير، لذا فلا عجب أنهم كانوا أول من ابتكر الجعة. كانت إحدى ترانيم إلهة البيرة (نينكاسي) من حوالي 1800 سنة ق م أقدم وصفة لصنع البيرة في العالم، حيث يعتقد أن البيرة نشأت من خبز الشعير المخمر. تمتع سكان بلاد ما بين النهرين أيضًا بنظام غذائي احتوى على الفواكه والخضروات (التفاح، والكرز، والتين، والبطيخ، والمشمش، والكمثرى، والخوخ، والتمر بالإضافة إلى الخس، والخيار، والجزر، والفاصوليا، والبازلاء، والشمندر، والكرنب، واللفت)، وكذلك الأسماك من الجداول والأنهار والماشية من حظائرهم، معظمها من الماعز والخنازير والأغنام، حيث أن الأبقار كانت باهظة الثمن ولا يمكن ذبحها من أجل اللحوم.
أغنى الناس هذا النظام الغذائي بنتاج عمليات الصيد مثل الغزلان والظباء والطيور، كما دجّنوا أيضا الإوز والبط لأجل البيض. يشير المؤرخ (جان بوتيرو) إلى أن سكان بلاد ما بين النهرين كان لهم ”مخزون مثير للإعجاب من السلع“ الذي شكّل وجبات الطعام اليومية المتنوعة، ونكّهت أطعمتهم بالزيوت والمنتجات المعدنية (زيت السمسم والملح على سبيل المثال)، ويلاحظ كذلك أن ”جميع هذه المكونات كانت متنوعة ومتوفرة لدرجة أنه، حسب علمنا، لم يستورد سكان بلاد ما بين النهرين شيئا من الخارج على الرغم من قوة تجارتهم وسعة نطاقهم الجغرافي “. وإلى جانب البيرة (التي كانت ذات قيمة كبيرة واستخدمت لدفع أجور العمال) شرب الناس النبيذ أو الكحول، ومع ذلك كانت البيرة أكثر المشروبات شعبية في البلاد القديمة، وغالبًا ما شكّلت الجزء الأكبر من وجبة الغداء.
اعتاد أهل بلاد ما بين النهرين الاغتسال والتهندم لتناول وجبة المساء، لكن قبل تناول أي شيء كانت تتلى صلوات الامتنان للآلهة التي أنعمت عليهم بالطعام. كان الدين جزءًا لا يتجزأ من حياة جميع سكان بلاد ما بين النهرين، ولأنه كان مركزًا على عمل الكائن البشري مع الآلهة، فقد كانت آلهة بلاد ما بين النهرين جزءًا من الوجود اليومي لشعوبها، إذ قدمت الآلهة للناس كل احتياجاتهم وفي المقابل عمل الناس في خدمة الآلهة.
يكتب (بوتيرو): ”لم تكن هذه الآلهة منشئة الكون والناس فقط، لكنها ظلت تمثل أسيادهم الأسمى ووجهت طريقهم وتطورهم من يوم لآخر، ولهذا السبب تم اعتبارها المُسير والضامن لجميع الالتزامات –الإيجابية والسلبية– التي تحكم حياة الإنسان“. كانت جميع جوانب وجود بلاد ما بين النهرين موجهة بحسب الرغبة الإلهية واختيارها، حتى الملابس التي ارتدوها، مثلها مثل أي شيء آخر، كانت تمليها وتعكس المكانة الاجتماعية التي اختارتها الآلهة للشخص. يكتب (بيرتمان):
يؤكد علماء الآثار أن المنسوجات كانت من أوائل الاختراعات البشرية، فربما استخدمت الألياف النباتية لصناعة الملابس منذ العصر الحجري القديم، منذ حوالي 25000 عام مضى، ولكن يبدو أن الصوف كان أكثر أنواع القماش شيوعًا في بلاد ما بين النهرين، إلى جانب الكتان الذي خصص للملابس الأكثر تكلفة. لم يتم استعمال القطن حتى أيام الآشوريين الذين استوردوه من مصر والسودان حوالي عام 700 ق م، والحرير الذي ربما لم يستخدم حتى أيام الرومان، عندما استوردوه من الصين.
ارتدى الرجال رداءً طويلاً أو تنانير مطوية من جلد الماعز أو الغنم، أما النساء فارتدين لباسًا من قطعة واحدة من الصوف أو الكتان. تميّز الجنود دائمًا بقلنسوة فوق رؤوسهم وبارتداء زيهم الرسمي. دائمًا ما كان يُرى الرجال الأكبر سناً في ثياب من قطعة واحدة تصل إلى كاحلهم. صوَّرت النساء دائمًا بالأثواب الطويلة التي تنوعت في الألوان البرّاقة، وقد لوحظ العديد من الأنماط والتصميمات المختلفة في لباس نساء بلاد ما بين النهرين، في حين أن الرجال، باستثناء الملوك والجنود وأحيانًا الكتبة، تراهم عادة في ثياب متشابهة.
كما جرى استخدام الشالات وأغطية الرؤوس واللفائف في الأحوال الجوية السيئة، وغالبا ما كانت مطرزة ومزخرفة، وبشكل عام ارتدت الفتيات مثل الأمهات والأولاد مثل الآباء، والجميع لبس صنادل ذات تصاميم متنوعة ومختلفة، لكن كانت الصنادل النسائية على نحوٍ خاص أكثر عرضة للتزيين من صنادل الرجال.
وضع كل من الرجال والنساء مستحضرات التجميل، وكما كتب (بيرتمان) فإن: ”الرغبة في تعزيز الجمال الطبيعي للمرء وجاذبيته من خلال استخدام مستحضرات التجميل والعطور يشهد عليها الزمن السومري“. كان الرجال والنساء يخططون أعينهم بالكحل، مثلما فعل المصريون، ووضع كلا الجنسان العطور بعد الاستحمام. صُنعت العطور بـ”نقع النباتات العطرية في الماء ومزج خلاصتها بالزيت“، وأصبحت بعض هذه الوصفات شائعة للغاية لدرجة أنها وقعت تحت حراسة مشددة، حيث كان يمكن لصانع العطور أن يتحول من عامل من الطبقة الدنيا إلى مستوى النبلاء تقريبًا بواسطتها.
خلاصة
لم تكن الحياة اليومية لسكان بلاد ما بين النهرين مختلفة عن حياة أولئك الذين يعيشون في تلك المنطقة اليوم، ومثل سكان العالم الحديث أحب سكان المناطق القديمة في بلاد ما بين النهرين أسرهم وعملوا في وظائفهم بجد واستمتعوا بوقت فراغهم. يعطي التقدم في التكنولوجيا المرء انطباعًا بأننا أكثر حكمة وتقدماً اليوم عن أولئك الذين عاشوا قبل آلاف السنين، لكن السجلات الأثرية تحكي قصة مختلفة. لم يكن البشر حينها مختلفين كثيرا، من الناحيتين الإيجابية والسلبية، عما نحن عليه اليوم، سواء كان ذلك في احتياجاتنا أو رغباتنا أو عاداتنا التي تشكل حياتنا اليومية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق