الأحد، 9 فبراير 2020

• البصل رفيق الكل منذ الولادة


 (يا داخل بين البصلة وقشرتها) المثل عامي مصري وهو يوازي بالتأكيد أمثلة أخرى منتشرة في البيئات العربية المختلفة، ومعنى المثل واضح يُضْرب للذين يتطفلون على أمور لها نتائج غير مريحة، وبالتحديد الأكثر دقة: عن نوع من المحكمين بين المتنازعين الأقارب ذوي الأمزجة المتعادية...

لكن دور البصل في الحياة كلها أكبر بمراحل من مجرد ارتباطه بحالات الصلح التي قد تتمزق فيها ملابس المحكمين، وقد ظل جدي في حالة خصام مع عائلة في قرية مجاورة لأنهم قدموا إليه طبقا من البصل المقطع أرباعاً، وانتظروا أن يمد يده لكن الرجل رفض، لم يكن يعرف أن تقليدا خاصاً بهذه القرية يستوجب تقديم البصل للضيف قبل إقامة المائدة الوليمة، إثباتا لحسن نواياهم ونواياه، إذ من المعتقد أن البصل يطرد السموم، أو يكشفها، أو يعطلها، فيحمي المصاب بها إذا ما كان جوفه قد امتلأ بالبصل ذي المادة المطهرة ذات الرائحة النفاذة، لقد رفض جدي ذلك وغضب أن تبدأ الوليمة بالبصل، وخرج لاعناً.
أناس كثيرون لا يحبون البصل، ويتكارهون مع رائحته، على أساس أن (الصنان) الناجم منه يظل منتشرا في الفم والمجال الجوي للفم، والبصل أول ما يستقبل الوليد فور ولادته: يتم تهشيم البصلة ودعك أنف الوليد بجزيئاتها ليتسنى للرائحة النفاذة الطيارة أن تستثير الخياشيم فتبدأ العمل، ومشهد الوليد حين يعطس حينداك يجعلك تتشمم الحياة معه وكأنك تواجهها لأول مرة، سبحان الله، يتقلص وجهه ثم ينفرج ويعطس مرة أخرى فينطلق تيار من الحبور والانشراح في أعطافك، وهو ما أدى إلى احساس غامر بالتفاؤل حين تدخل العروس بيت العريس للمرة الأولى وهي تخطو على قشر البصل (لاحظ أن بعض الجماعات الشعبية تعتبر ذلك رمزاً للعداوة)، كما أن الأمر لا يخلو من بصل أخضر أو ناشف وعتيق يتم اخفاؤه تحت زوج الحمام أو الدواجن في صينية العشاء الأول لفرح الزفاف، (ولعل التخلص منه فور الادعاء باكتشافه المفاجئ يأتي في مجال تنقية الجو الخاص من أي مشاحنات، أو عداوة محتملة بين العروسين)، كما أن التفاؤل وطلب البركة واضح في تعمد إلقاء عروش البصل وبقاياه على أجران الحبوب قبل الكيل، وكان عمال معامل تفريخ الكتاكيت يلتهمون كميات غير معهودة من البصل خلال كمونهم أسابيع بجوار مواقع البيض المظلمة، لكن الأمر هذه المرة لا يرجع لطلب البركة واليمن والتفاؤل حماية للكتاكيت كما كنت أعتقد، بل لأن البصل صيدلية كاملة لعلاج الدم ودورته البابية في الكبد أو الوريدية، أو القلبية، وقدرته فائقة والثوم كذلك على إذابة الدهون (الجلطات) وتنشيط الأعصاب بما فيها أعصاب الحواس كالنظر والسمع والذوق والشم والتواصل بالطبع، وشعوبنا الشرقية العربية مغرمة بالبصل المخلل، المصاحب الدائم للوجبات الدسمة، والبصل المشوي كان مطلوبا عند الأجيال السابقة بإلحاح ولم يعد ذلك قائما الآن، ويعدد داود الانطاكي في تذكرته فوائد صحية وعلاجية للبصل تتجاوز المعهود: المعتق مع الفاكهة يشفي من الثأثأة واللجلجة في النطق، والمخمر مع لبن الزير (وهو معروف في صعيد مصر) يساعد على نمو الأطراف القصيرة، ويعيد البهجة للأزواج الذين تجاوزوا عمر البهجة، كما أن البصل بالب يض (مختلف عن العجة التي يكون الفول أهم عناصرها) يفيد في إذابة النقطة التي تعتور العين وتدمرها، ويزيد الناس من أهمية البصل فيحيلون إليه علاج أمراض النخاع الشوكي (آلام سلسلة الظهر)، وتنميل الركب والمفاصل (الروماتيزم)، وسقوط شعر الأهداب (أي الرموش)، وكان البصل عندنا غذاء اساسيا للفلايت (الذين يفلتون من كمائن الأعداء أو الذين يهربون من السجون)، وللذين يصيبهم القراع، كما أن قبائل البشارية والعبابدة في الصحراء المصرية الشرقية يحفظون التمائم والأحجبة فترة في ماء البصل كي تكتسب قدرة على البقاء في اشعاع دائم يحمي المتسلح به من مهاجمة الحيوانات والزواحف الصحراوية والأعداء أىضاً.
وبعيدا عما يكون معتقدا شعبياً أو حقائق طبية، فإن البصل يكاد يكون القاسم المشترك في كل موائدنا الدسمة أو الفقيرة، كما أنه يدخل في معظم تجهيزات المأكولات وأنواع الطبيخ، ولايزال تسبيك اللحوم فنا لذيذا خاصاً بشعوبنا، دون اهتمام بما يعنيه ذلك من تحفظ أهل النظم الصحية شديدة الحساسية للأكل، وكان المرحوم عبقري اللحن الشرقي زكريا أحمد يصدر أصواتا من غازات بلعومه خلال انتشائه بغناء ألحانه، وكان الشيخ سيد مكاوي يقول ضاحكا: إن الحنجرة الطيبة تنمو في (صنان) رائحة البصل، إلا أن نزوع الملحنين المعاصرين بعيدا عن الجلسات الشعبية الأثيرة فصل البصل بعيدا عن الموسيقى، وهو ما أدى لظهور هذا الضجيج الحداثي من الغناء الذي خلا من العنصرين: البصل والموسيقى، مع أن البصل معروف في العالم كله، وطعام العالم كله، وقد تكون هناك تحذيرات طبية بالتخفيف من تناول اللحوم، أو السكر، أو الزبد، أو القهوة، أو الملح، لكن نفس الطبيب قد ينصحك أو يأمرك بأن تسرف في تناول البصل.
أكثر الله من الأبصال في بيتك ومأكلك، وفي زهورك أيضا.


إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً


هناك تعليق واحد:

  1. According to Stanford Medical, It's indeed the SINGLE reason women in this country get to live 10 years longer and weigh on average 42 lbs lighter than we do.

    (By the way, it is not about genetics or some secret exercise and absolutely EVERYTHING around "HOW" they eat.)

    P.S, What I said is "HOW", not "what"...

    Click on this link to find out if this easy questionnaire can help you decipher your true weight loss possibilities

    ردحذف