الثلاثاء، 30 يونيو 2020

• الشعر وكراهية التعميم


التعميم أعدى أعداء الفن، خصوصا حين ندرك أن الفن تجسيم وتعيين، وأنه ينفذ من الخاص الذي هو مجاله النوعي إلى العام الذي هو مجال القيم الجمعية.
هذا المبدأ العام ينطبق على أنواع الفن وأجناسه، وعلى رأسها الشعر، فالشعر ينطوي على خاصية حسية بالضرورة ما ظلت مدركات الحس هي المادة الخام التي يبني بها الشاعر تجاربه مثل كل فنان. ولكن هذه الخاصية الحسية لا تعني المحاكاة الحرفية للإحساسات، فذلك مجرد نسخ يُفقد الشعر بل الفن طابعه التخيلي الذي هو إعادة تأليف للمدركات وإعادة تشكيل للعالم بقصد اكتشاف العلاقات التي ينطوي عليها.

والحرص على تأكيد الخاصية الحسية في الشعر يلزم عنه تأكيد الخاصية التخيلية للشعر تخصيصا، والفن كله تعميما، الأمر الذي يعني أن الشاعر لا يوصل القيم توصيلا مجردا، ولا ينقل الأشياء كما هي، وإنما يوصلها توصيلا خاصا ينطوي على إدراك ذاتي متميز، مثلما ينطوي على موقف من الأشياء والقيم. والنتيجة اللازمة لهذه العملية هي تحويل القيم والأشياء إلى صور شعرية ذات خصائص حسية، والانتقال من دائرة المحاكاة الحرفية للعالم إلى دائرة المحاكاة الرمزية له. وما دام التخييل لا ينفصل عن التخيل في الشعر، من حيث كون التخيل خاصا بعملية الإبداع والتخييل خاص بعملية التلقي، فإن فعل التخيل يتحقق بواسطة المدركات التي تعيد مخيلة الشاعر تشكيلها، وذلك لتسلمها إلى مخيلة القارىء التي يتحقق فيها وبها التخييل، خصوصا حين تثير صور الشعر مخيلة المتلقي، فينفعل لتخيلها انفعالا يقود إلى الأثر الجمالي الذي تقصد إليه القصيدة.
ولا تحقق صور الشعر هذا الأثر بالدلالة على ماهية الموضوع المخيل، أو حقيقته، فإنها لا تهتم بهذه الماهية أو تلك الحقيقة من حيث هما تجريد محض، وإنما تهتم بوقع الموضوع نفسه على المشاعر وصلته بالانفعالات، ومن ثم تهتم بأعراض الموضوع ولوازمه بلغة الفلسفة القديمة، أو بمجموعة الصفات الحسية الملازمة له من حيث صلتها بالانفعالات الإنسانية.
ومادامت ماهية الموضوع وحقيقته تجريدا محضا يتسم بالحياد، فلا يثير انفعالات ولا يرتبط بجوانب ذاتية، فمن المنطقي أن تترك صور الشاعر هذا الجانب إلى لوازمه الحسية التي تدخل في إطار الإدراك الذاتي، وتكون بالمثل باعثا على إثارة انفعالاتنا إزاء الأشياء والأحداث.
وكراهة التعميم في الفن بوجه عام، والشعر بوجه خاص، نتيجة من نتائج هذا الفهم للخاصية الحسية في علاقتها بالخيال الذي يجعل من الشعر شعرا، ويضعه في مقابل العلم الذي يعتمد على التجريد، أو الفلسفة التي لا تخلو أحكامها من معنى التعميم، خصوصا في القضايا التي تعتمد على استقصاء المقدمات المفضية إلى النتائج. وخطورة التعميم في الشعر أنه ينفي طابعه التخيلي الذي يقترن بالتخصيص والتجسيم والتعيين، وينقض خاصيته الحسية التي تحيل التخصيص والتجسيم والتعيين إلى مدركات يعيد الشاعر تشكيلها من منظور الموقف الشعري وبفاعليته في الوقت نفسه.
علامات التعميم
وتظهر أولى علامات التعميم حين يتداعى الفارق بين الشاعر والخطيب، أو يستبدل الشاعر بمخيلته عقلية المعلم الذي يستبدل العام بالخاص، وأوضح ما يكون ذلك في الجانب التقليدي من شعر شعراء الإحياء الذين جعلوا من القصيدة مجالا للخطابة والتعليم في حالات كثيرة، نتيجة فهمهم الخاص للوظيفة الاجتماعية للشعر، فانتهي بهم الحال إلى التعميم الذي أفسد الكثير من مجالي القصيدة الإحيائية، وجعلها نموذجا سلبيا يمكن الاستفادة منه لتأكيد أهمية الخاصية الحسية لعمل المخيلة الشعرية في كل أحوالها.
وتظهر دلائل التعميم في الجانب التقليدي من الشعر الإحيائي عندما يتوقف الشاعر الإحيائي عن التعبير عن شعوره الخاص، ويستبدل به الشعور العام. خذ، مثلا، قصائد الرثاء التي اشتهر بها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، تجد أن كلا الشاعرين لا يدخلنا إلى أعماقه الذاتية لنعرف منه خصوصية حزنه الخاص على من فقد، بل يؤثر تعميم الحزن وفرضه على كل شيء من حوله، خالطا التعميم بالمبالغة، كما لو كان لابد أن تدك الأرض دكا وتلطخ الدماء أوجه السماوات والأرض، وتغرق الدموع كل شيء على ظهر البسيطة، فتحمل النعش حملا إلى مثواه الأخير. ولا غرابة، والأمر كذلك، لو اكتمل المشهد بشيء كثير من الرعد واضطراب البرق وقيام القبر نفسه جاثيا ليقابل الفقيد.
ولا طائل من بحث المرء في مثل هذه المشاهد عن ملامح خاصة للمرثي، أو عن تفرد المشاعر الخاصة التي تفجرت في نفس الشاعر لحظة الرثاء، فما يغمر قصائد الرثاء هو الركام المتدافع من مبالغات التعميم والصور النمطية التي يصح أن يُرثى بها أي شخص في الوجود.
ولعل هذا يوضح لنا أن خاصية التعميم في الخيال التقليدي للشاعر الإحيائي قرينة النمطية، ولا تفترق عنها. وهي خاصية يمكن أن نضيفها إلى المبالغة ونرجعها إلى الأسباب نفسها التي أنتجت المبالغة. ويمكن للقارىء أن يتوقف معي عند مرثية محمود سامي البارودي لصديقه عبدالله فكري على سبيل المثال، خصوصا حين نقرأ:
لا بأبي من كان نورا مجسدا يفيض علينا بالنعيم رواؤه
ثوى برهة في الأرض حتى إذا قضى لبانته منها دعته سماؤه
وما كان إلا كوكبا حل بالثرى لوقت، فلما تم شال ضياؤه
نضا عنه أثواب الفناء، ورفرفرت إلى الفلك الأعلى به مضواؤه
فأصبح في لج من النور سابحا سواحله مجهولة وفضاؤه
تجرد من غمد الحوادث ناصعا وما السيف إلا أثره ومضاؤه
فإن يك ولى فهو باقٍ بأفقه كنجم يشوق الناظرين بهاؤه
ولولا اعتقادي أنه في حظيرة من القدس لاستولى على الجفن ماؤه
عليك سلام من فؤاد نزا به إليك نزاع أعجز الطب داؤه
تجد أن صور هذه القصيدة، وقد نقلتها كاملة عن ديوان البارودي، مثل كثير غيرها من صور الرثاء التقليدي في الشعر الإحيائي. أعني أنها لا تقدم المرثي بوصفه ذاتا متفردة لها خصوصيتها وملامحها التي تميزها عن آلاف الذوات الأخرى، بل تقدم مجموعة من الصفات المطلقة العامة التي يمكن أن تنطبق على أي كائن آخر في الوجود. وتلك هي النمطية في معنى التعميم، أو التعميم الذي يتحول إلى نمط عام ينطبق على كل أحد لأنه لا ينطبق على تفرد أي أحد أو خصوصيته. ولم يكن من قبيل المصادفة  والأمر كذلك  أن البارودي كان قد كتب هذه القصيدة أصلا في رثاء جمال الدين الأفغاني ثم حولها عنه إلى رثاء صديقه عبدالله فكري. ولا فارق بين الاثنين من منظور التعميم الذي يصاغ به النمط الذي يقبل أي اسم، أو يغدو علامة على كل شخص.
صور نمطية
ولا يتميز الرثاء وحده بهذه الصور النمطية المطلقة الصفات فحسب، فالواقع أن أمثال هذه الصور خاصية عامة في جميع المجالات التقليدية في الشعر الإحيائي وأغراضه. فمن العسير أن يعثر القارىء في الأبعاد التقليدية من مدائح الشعراء الإحيائيين وغزلهم وهجائهم على أي صفات فردية خاصة تميز الممدوح أو المهجو أو المرأة التي يعشقها الشاعر، بل  على العكس من ذلك  يكتشف أن الصور التي يرسمها الشاعر الإحيائي لهؤلاء جميعا إنما هي صور نمطية عامة، لا تتجاوز الحدود القديمة لقوالب التشبيهات والاستعارات الجاهزة في الشعر العربي القديم، خذ مثلا مدائح البارودي  رغم ما يقال عن أنه لم يمدح طلبا للعطاء  تجده يمدح توفيق على النحو التالي:
ملك نمته أرومة علوية ملكت بسؤددها عنان الفرقد
يقظ البصيرة لو سرت في عينه سنة الرقاد فقلبه لن يرقد
بدهاته قيد الصواب وعزمه شرك الفوارس في العجاج الأوبد
فإذا تنمر فهو زيد في الوغى وإذا تكلم فهو قيس في الندى
متقسم ما بين حنكة أشيب صدقت مخيلته وحلية أمرد
فنهاره غيث اللهيف وليله في طاعة الرحمن ليل العبد
إقليد معضلة ومعقل عائد وسماء منتجع وقبلة مهتد
حسنت به الأيام حتى أسفرت عن وجه معشوق لشمائل أغيد
ثم يمدح عباس على النحو التالي:
فيا ملكا عمت أياديه والتقت به فرق الآمال وهي جوافل
بك اخضرت الآمال بعد ذبولها وحقت وعود الظن وهي مخائل
بسطت يدا بالخير فينا كريمة هي الغيث أو في الغيث منها شمائل
وأيقظت ألباب الرجال فسارعوا إلى الجد حتى ليس في الناس خامل
وما مصر إلا جنة بك أصبحت منورة أفنانها والخمائل
طلعت عليها طلعة البدر أشرقت بلألائة الآفاق والليل لائل
وأجريت ماء العدل فيها فأصبحت وساحاتها للواردين مناهل
فيا أيها الصادي إلى العدل والندى هلم فذا بحر له البحر ساحل
مليك أقر الأمن والخوف شامل وأحيا رميم العدل والجور قاتل
ثم يمدح في قصيدة ثالثة ممدوحا وهميا على عادته في رياضة القول:
هو المليك الذي لولا مآثره ما كان في الدهر يسر بعد معسور
فل النوائب فانصاحت دياجرها بمرهف من سيوف الرأي مأثور
وأصلحت عنت الأيام حكمته من بعد ما كان صدعا غير مجبور
مسدد الرأي موفور الظنون على رعى السياسة في ثبت وتحوير
لا يغمد السيف إلا بعد ملحمة ولا يعاقب إلا بعد تحذير
صفات مطلقة
وعندما يتأمل القارىء المعاصر هذه النماذج الثلاثة يكتشف أنه لا فارق بين عباس أو توفيق أو ذلك الممدوح الوهمي، بل على العكس من ذلك يلحظ أن الصور التي يوصف بها الثلاثة معا هي صور واحدة، تلح على تقديم الحاكم بوصفه نمطا عاما مطلق الصفات دون أن تؤكد على خصائصه الفردية التي تميزه عن غيره. وترتد هذه النمطية في الصور إلى سبب بسيط جدا وهو أن الشاعر عندما قدم هذه الصور لم يكن يشعر بانفعالات أو مشاعر خاصة إزاء من يتحدث عنهم، ومن ثم لم تأت الصور حاجة ملحة للتعبير عن مشاعر داخلية خاصة.
ولعل البارودي كان يستخف  في أعماقه  بكل من توفيق وعباس ويرى نفسه أحق بالملك منهما، ولكن الظروف الاجتماعية للشاعر الإحيائي بوصفه واحدا من رعايا حاكم مطلق ينبغي أن يمدحه الشعراء، جعلت البارودي مضطرا إلى أن يكتب مدائحه دون شعور أو اقتناع داخليين بمن يكتب عنهم. ولما كان البارودي مستغرقا في الموروث، مشبع الذاكرة بمواده القديمة، تدفقت على ذهنه الصور القديمة للحاكم، وهي في أغلبها صور نمطية أنتجتها الظروف نفسها التي أنتجتها مدائح البارودي أو غيره من شعراء الإحياء في أحوال تقليدهم. فعندما يصبح الحاكم ظل الله في الأرض الذي يحق له أن يلهو بمصائر البشر، ويرى نفسه من طينة أنفس وأعظم من طينتهم، فإنه لن يطلب من الشاعر أن يصوره بوصفه إنسانا عاديا له ما لكل رعيته من محاسن ومساوىء بل بوصفه نموذجا مثاليا للحاكم الذي يجمع كل فضائل الكون داخل عباءته. ولما كان الشاعر حريصا على نفع مادي أو معنوي أو على سلامته فليس أمامه مفر من أن يصعد بهذا الحاكم إلى مرتبة المثال أو النموذج، بغض النظر عن اقتناعه الشخصي أو نظرته الذاتية إلى هذا الحاكم، وبغض النظر أيضا عن واقع الأمر. ومن هنا لم يعرف الشعر العربي، لا عند القدماء ولا عند الإحيائيين، الصورة الإنسانية الواقعية للحاكم بقدر ما عرف الصورة النمطية العامة التي ينبغي أن تجمع بين خيوطها الزائفة الأربعة التي أحصاها قدامة بن جعفر  في كتابه (نقد الشعر)  وهي العقل والشجاعة والعدل والعفة. وليس أدل على ذلك ما كتبه شوقي عن نجاة السلطان العثماني من قذيفة أطلقت عليه سنة 1950م:
بأي فؤاد تلتقي الهول ثابتا وما لقلوب العالمين ثبات؟
إذا زلزلت من حولك الأرض رادها وقارك حتى تسكن الجنبات
وإن خرجت نار فكانت جهنما تغذي بأجساد الورى وتقات
وترتج منها لجة ومدينة وتصلى نواح حرها وجهات
تمشيت في برد الخليل فخضتها سلاما وبردا حولك الغمرات
وسرت وملء الأرض حولك أدرع ودرعك قلب خاشع وصلاة
ضحوكا وأصناف المنايا عوابس وقورا وأنواع الحتوف ضغاة
يحوطك أن خان الحماة انتباههم ملائك من عند الإله حماة
تشير بوجه أحمدي منور عيون البرايا فيه منحسرات
يحيي الرعايا والقضاء مهلل يحييه والأقدار معتذرات
أدوات متشابهة
فالنمطية التي كانت عند البارودي تتكرر عند تلميذه شوقي الذي يشاركه في التقاليد نفسها، والنتيجة هي الصور النمطية للخليفة التي تغدو تكراراً لصور الشعر القديم. ولذلك نجد في أبيات شوقي الشجاعة المطلقة بمعناها التقليدي، فالخليفة مهيب يواجه المآسي بكبرياء ملكي لا يبالي معه لو اهتز الكون كله من حوله، بل إن وقاره ليرود الأرض لو زلزلت، فلا عجب أن سار بين مكامن الموت والكوارث في ثقة النبي إبراهيم وأمنه تحوطه الملائكة عن يمين وشمال، ويأتيه القضاء محييا والقدر معتذرا. ولا فارق هنا في نمطية الصور وتعميمها وزيغها وبين ما قاله المتنبي مثلا عن سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
فشوقي مثل المتنبي الذي تأثر به، كلاهما حريص على أن يصف شجاعة ممدوحه وصفا مطلقا عاما دونما صدق أو واقعية، وكلاهما يجعل من هذا الممدوح نمطا لا يفترق عن غيره من الأنماط التي تنافس الشعراء التقليديون في رسمها وصوغها على شاكلة رغبات الحاكم الذي فرض عليهم رسم هذه الصور إعلاء لشأنه وتأكيدا لمهابته في نفوس رعيته. ولست في حاجة بعد ذلك إلى العديد من الأمثلة، سواء في المديح أو في غيره، فالحق أن ما يقال عن صور المديح يقال عن صور الهجاء والطبيعة والمرأة في الجوانب التقليدية من شعر الإحياء، فالقارىء لهذه الجوانب لن يجد أي فارق أساسي بين صور حافظ أو البارودي، أو شوقي. وإذا كانت نمطية المديح والرثاء والهجاء ترجع إلى طبيعة العلاقة الاجتماعية التي ربطت بين الشاعر التقليدي ومن توجه إليهم بشعره، ساعيا إلى إرضائهم طامعا في عطائهم، فإن نمطية الغزل ووصف الطبيعة ترجع إلى استغراق الشاعر في الموروث التقليدي نفسه، وحرصه على منافسة شعرائه ومحاكاتهم.
المصدر: 1
إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق