الصورة الماديّة في الشّعر العربي
يخطر على بال قارئ الشعر العربي القديم السؤال التالي: لماذا سيطرت الصورة المادية على الشعر العربي القديم؟ ولا بدّ - مسبقًا - من تأكيد أنّ هذه المادية ليست عيبًا في الشعر العربي القديم، وإنما هي استجابة صادقة لبصرِ الشاعر العربي وبصيرته، وبخاصة في العصر الجاهلي، وفي العصرين الإسلامي الراشدي والأموي، وفي كثير من المراحل اللاحقة زمنيًا، وبشكلٍ أكثر ضمورًا وانفتاحًا على التأثيرات الوافدة من خارج الجغرافية العربية.
واضحٌ أن مادية الصورة الشعرية ورمزيّتها في الشعر العربي القديم مرتبطتان وناتجتان عن الجغرافية الطبيعية ومكوّناتها، فالصحراء الممتدة بمساحاتها الشاسعة المتكررة بالوجه الجغرافي نفسه، الخالي من الجبال الشاهقة والمثيرة كجبال الأولمب في اليونان، انعكست على العقل العربي فراح يراقب ويصف ما يراه متكررًا باستمرار، الجبال الشاهقة في اليونان ألهبت الخيال الشعري في هوميروس وغيره من شعراء اليونان، وراح يستعين بإلهة الشعر الساكنة في جبال الأولمب لتُملي عليه إلياذته الخالدة.
لقد جعل الفكر اليوناني هذه الجبال مقرًا للآلهة وللأساطير التي تفرّعت عنها، والبحر نفسه كان مغريًا لخيال الشاعر اليوناني القديم أيضًا، أما الشاعر العربي فقد ألهمته الصحراء بمساحاتها المترامية والخالية من الغرائب عن تصوّر عوالم نائية، وأجبرته على أن يكون أسير ما تعكسه من معطيات، ما عدا بعض الإشارات إلى وادي عبقر، وقول امرئ القيس: «تلقّنني الجنّ أشعارَها»، وهي قليلة الورود في الشعر العربي.
الصحراء لم تترك للشاعر العربي القديم مثيرات سوى صورها المادية، وكما أسلفنا، فقد امتزج الشاعر العربي بهذه الماديات الصحراوية، وحوّلها إلى شعر جميل، وذلك بسبب انعكاس مخلوقات هذه الصحراء على وجدانه، وكأن الخيال الشعري عند الشاعر العربي انعكاس لمرئياته، وسنحاول باختصار سرد بعضها، وقد لخّصها الشاعر العربي ماديًا بقوله «وما راءٍ كمن سمعا».
1) الأطلال
كانت ظاهرة الأطلال على الرغم من مادّيتها وخوائها وخلوّها من الحياة سَفَرًا وجدانيًا عميقًا في وجدان الشاعر الجاهلي لارتباطها بظعن مَن يحب، وانعكاسها على عالمه الجوّاني، وبالحبيبة التي ظعنت عن هذه الأطلال، لقد كانت القبائل مضطرة لترك مكان الإقامة واستبداله بآخر تتبعًا لمنابت الكلأ ووجود الماء، وكان الشاعر يمرّ على الأطلال التي «أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأمدِ» ليعيد عقارب الزمن الذي كانت فيه حبيبته تقيم فيه بهذا المكان البالي، لقد تحوّل الطلل إلى ذاكرة حزينة، وغدتْ جزئيات الطلل مادة مثيرة لوجدان الشاعر «النؤي، الأثافي، الدمنة، الأواري، الحوض، بعر الآرام في عرَصاتها، الرسوم، المِرجل»، كثيرة هي المفردات الطلليّة، ورغم ماديتها وخلوها من الحياة، فإنها كانت حياة داخلية للشاعر، وكان يحييها ويسلِّم عليها ولو «بعد عشرين حجة»:
وقفتُ بها من بعد عشرين حجةً فلأيًا عرفت الدار بعد توهُّمِ
فلمّا عرفتُ الدارَ قلتُ لربعها: ألا عِمْ صباحًا أيها الرَّبعُ واسلمِ
ويقول امرؤ القيس:
ألا عِمْ صبًا أيها الطللُ البالي
وهل يَعِمَنْ مَن كان في العصر الخالي؟
ويقول عنترة بن شداد:
يا دارَ عبلةَ بالجواء تكلّمي وعِمي صباحًا دارَ عبلةَ واسلمِي
إنه يطلب من دار، رغم مادية الصورة فقد كانت مثيرة، وباعثة حزنًا يصل إلى حد البكاء في الوقوف على هذه الدّمن الخوالي: «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ» هنا البكاء يثيره حبيب راحل ومنزل متهدّم، والمكان غير مفصول عن إنسانه أبدًا، بل هو شاهد «أصمّ أبكم»، المكان فيه رائحة الإنسان، ومادية الصورة سمَتْ وجدانيًا لارتباطها بمن ظعنوا عنها، صار المكان جغرافية الداخل:
وقفتُ على الديار ديارِ ليلى أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الدّيارِ شغفنَ قلبي
ولكنْ حبُّ من سكَنَ الديارا
ولإثرة المكان المادي بآثاره الدارسة كان الشاعر يتلذّذُ بذكر أسماء الأمكنة، فذكر الاسم يثير ذكرى حميمة في الذات المنفعلة:
أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تَكَلّمِ بحومانة الدرّاج فالمُتثلّم
وكقول النابغة الذبياني:
يا دار ميّةَ بالعلياءِ فالسندِ أقوتْ وطال عليها سالفُ الأمدِ
إنّ لغة الخطاب في الشعر الطّللي هي صورة عن حضور الماضي، والحضور هنا هو عملية إعادة الحياة للطلل بتلهّفٍ غامر، ولشدّة التصاق الأطلال بوجدان الشاعر حوّل أدنى ماديّات الطلل إلى أشياء حميمة، كقول امرئ القيس:
ترى بَعَرَ الآرام في عَرَصاتها وقيعانها كأنه حبُّ فلفلِ
2) الحبيبة
في الشعر القديم هي غزالةٌ ومهاةٌ، وهذه الصورة مستوحاة من حياة الصحراء ومادياتها، وقد أجاد الشاعر في رسم صورة الغزالة الحبيبة، يقول قيس بن الملوّح مخاطبًا الغزالة، وراسمًا لها لوحة بصرية تعني ليلى العامرية:
فعيناكِ عيناها وجِيدُكِ جيدُها
سوى أنّ عظمَ الساقِ منك دقيقُ
ويقول ذو الرمة مخاطبًا حبيبته:
ذكرتُكِ إذ مرّتْ بنا أمُّ شادنٍ
أمامَ المطايا تشرئبُّ وتَسْنَحُ
وقد صوّر الشاعر الجاهلي مفاتن المرأة تصويرًا ماديًا معبِّرًا عن مرئياته الصحراوية، فقد شبّه امرؤ القيس شعر المرأة، وصوّرهُ «كقنوِ النخلةِ المتعثكلِ».
وظلّت صور البداوة حتى مراحل متقدمة بعد الشعر الجاهلي، فعلى الرغم من تغيّر الحياة في المدينة وتأثّرها شكلًا وملبسًا وسلوكًا بالحياة الجديدة، فقد ظلّ علي بن الجهم يشبه فتيات بغداد بالمها بين الرصافة والجسر:
عيون المها بين الرّصافة والجسرِ
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
والملاحظ أن مادية الصورة لم تسلب الشعر جماليته ووجدانيّته، كانت الصورة المادية تأخذ البصر إلى العوالم الجوّانية، وعلى الرغم من عدم ورود التثاقف الشعري والفكري، فقد كانت الصور الشعرية عميقة بإيحائها لأنها متثاقفة مع الوجدان الداخلي.
3) الخيل والليلُ والبيداء
كانت الخيل والليلُ والبيداء تشكّل الخريطة البصرية للشاعر الجاهلي، وكانت مادّيتها تزيدها حضورًا إلى حدّ تشخيصها واقترابها من طبع الإنسان والتشارك في الإحساس، يقول عنترة بن شداد في حصانه، وهو يشاركه خوض المعركة:
ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرهِ ولبنانهِ حتى تَسرْبلَ بالدمِ
فازْوَرَّ من وقع القنا بلبانهِ وشكا إليَّ بعَبرةٍ وتَحمحمِ
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكانَ لو علمَ الكلامَ مكلِّمي
الجواد هنا إنسان يشكو ويعبّر عن شكواه بالحمحمة والدموع، والصورة أخّاذة بجمالها وعمق حرارتها الوجدانية، أما حصان امرؤ القيس فهو «كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علِ».
وقد أغتدي والطيرُ في وكناتها بمنجردٍ قيدِ الأوابد هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من عَلِ
هنا لم يستطع الشاعر أن يصوّر سرعة جواده إلّا بجلمود صخرٍ، لكنّ تشبيه الحصان بجلمود صخرٍ لم يُلْغِ سرعته «مكرّ مفرٍّ»، وهذا التوافق القائم بين الحركة والجلمود يوحي بشاعرية عالية الحضور، والشاعر الجاهلي يمدح جواده لأنه يطيعه في الشدائد.
يقول طرفة بن العبد في وصف جواده الذي يطيعه لإغاثة متلهف أو صاحب حاجة، إنه يجري كالذئب:
وكرِّي إذا نادى المضاف محنَّبًا كسِيد الغضا ذي السورةِ المتورِّدِ
أما ما قيل في الناقة والجمل فيعدل ما قيل في المرأة لكثافة حضور الجمل في حياة هؤلاء الرُحّل من مكان إلى مكان، والتناسب العميق بين صبر الجمل وسعة الصحراء، حتى لكأنهما خلقا معًا للتكامل، يقول عنترة في تشبيه ناقته بالبناء الضخم في صورة مادّية تتفق مع هيئة الناقة:
فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها
فدنٌ لأقضي حاجة المُتلوّم
الناقة هنا راحلةُ تواصل مع الحبيبة وأطلال أهلها، أما عروة بن حزام فيقرأ أفكار الناقة التي تفكّر بابنها الذي ظلّ في الحمى والشاعر يزجيها باتجاه دار حبيبته، وهنا تبدو الصورة في منتهى الروعة:
هوى ناقتي خلفي، وقدّاميَ الهوى وإنّي وإيّاها لمختلفانِ
ناقته تريد العودة إلى ابنها، وهو يريد الذهاب إلى ديار حبيبته، الصورة حسيّة لكنّها تفيض شعرًا وشعورًا، وأحيانًا يغلظُ التشبيه ويصبح نافرًا مع الحفاظ على مادية الصورة، يقول الفرزدق متمنيًا أن يكون وحبيبته جملين أجربين بعيدين عن الناس، لأنّ صاحب القطيع كان يعزل الجمل الأجرب لكيلا ينتقل الجرب إلى الآخر، يقول الفرزدق:
فيا ليتنا كنّا بعيريْنِ لا نُرى على منهلٍ إلّا نُشَلُّ ونُقذَفُ
كلانا به عُرٌّ يُخافُ قرافُهُ
من الناس مطليُّ المساعر أحشفُ
أما طرفة بن العبد فيصف عزلته بين قومه الذين تحاموْه بظلمٍ أشدّ مضاضة من وقع الحسام المهنّد، نعم يشبِّه نفسه بالجمل الأجرب المعزول، فيقول:
إلى أن تحامتني العشيرةُ كلُّها وأُفْرِدْتُ إفرادَ البعير المعبَّدِ
4) الصورة المادية
غلبت الصورة المادية وهيمنت على كل أفكار الشاعر القديم، وكانت الفكرة المجردة إذا خطرت له يستعير لها صورة مادية، فلم يستطع طرفة بن العبد أن يجد صورة للموت أجمل من صورة الحبل المُرخى حول العنق، فإذا حان الأجل شُدّ الحبل، يقول طرفة:
لعمرُك إنّ الموتَ ما أخطأ الفتى لكالطِوَلِ المُرخَى وثِنْياهُ باليدِ
إنّ هيمنة البصر على الوجدان الشعري في شعرنا القديم تحملُ بعض الهِنات، لكنّها في معظمها كانت لصيقة بالعالم الجوّاني إلى درجة عالية، قلّما تجد صورة محدَثة تتجاوزها، فالخوف من النعمان في اعتذاريّات النابغة الذبياني جعله يستعير للخوف صورة مادية رائعة، رغم كذب النابغة أحيانًا كثيرة. يقول النابغة مشبّهًا الخوف بسُمّ الأفعى:
فبتُّ كأنّي ساورتني ضئيلةٌ
من الرُقْشِ في أنيابها السُمُّ ناقعُ
والليل عنده هو مرضٌ يقاسيه، ولنتصور هذه اللقطة الرائعة في قوله: «وليلِ أقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ».
لم يعد الليل زمنًا، وإنما هو مرض ماديّ يقاسيه الشاعر، إن لفظة «أقاسيهِ» في هذا البيت تتجاوز مادية البصر الجاهلي في بُعدها الفني الصياغي. والحرب في رأي زهير بن أبي سلمى هي مطحنة تعرك القوم وتحيلهم طحينًا لها، وهي تذاق كالطعام الرديء، يقول زهير:
وما الحربُ إلّا ما علمتمْ وذقتُمُ
وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ
فتعرُكُّمُ عركَ الرحى بثفالها وتلقح كِشافًا ثم تنتجْ فتُتْئمِ
إنها طاحونة، وهي طعام مؤذٍ، وهي ناقة لا تلد إلا الفواجع.
بقيَ عليّ أن أشير إلى أن الشعر العربي، رغم مادية صوره، لم يخلُ تمامًا من الصور الفنية البعيدة التي تتجاوز الماديات بدلالاتها، فامرؤ القيس يشبّه سهامه بأنياب الغول الخرافي، حين يقول:
أيقتلني والمشرفيُّ مُضاجِعي
ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوالِ
والأعشى يتصور الجنَّ نزلاء في الليل فيقول:
أتوا ناري فقلتُ منونَ أنتمْ فقالوا الجنّ قلتُ عِموا ظلاما
والنابغة يستخدم أسطورة النسر «لُبَد» ليوحي بطول الزمن الذي مرّ على أطلال أحبته، فيقول:
أمستْ خواءً وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبدِ
لقد كان الشاعر العربي صادقًا ومعبّرًا بعمق عن عوالمه الداخلية في كلّ مواضيعه التي تناولها، إلا في المديح، فقد كان كذابًا ومتسوّلًا، كقول النابغة في النعمان بن المنذر:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
إذا طلعتْ لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
رهاب القذارة:
الأعراض، الأسباب والعلاج
ألعاب تساعد على
زيادة تركيز الأطفال
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق