الثلاثاء، 26 أبريل 2022

• محمد عبدالوهاب موسيقار ومطرب القرن العشرين


محمد عبد الوهاب

كان اللقب الشائع لمحمد عبدالوهاب قد انتقل من موسيقار الجيل، إلى موسيقار الأجيال، بعد أن تجاوز به العمر التسعين بأربع سنوات، وهو ما يزال يواصل الإبداع بوتيرة نشيطة، ويوزع ألحانه على أشهر مطربي القرن العشرين ومطرباته، الذين كانوا يتسابقون في الحصول ولو على لحن واحد منه.

وبعد أن عادت أم كلثوم في أواخر عمرها دخلت في تعاون مثمر معه، امتد إلى 10 ألحان، 8 منها عاطفية، إلى جانب لحنين وطنيين، ومع ذلك فإن شيخ النقاد العرب في القرن العشرين، كمال النجمي، اختار «مطرب المئة عام» عنوانًا للكتاب الذي وضعه عن عبدالوهاب بعد رحيله بأشُهر.

الحقيقة أن كل هذه الألقاب، إضافة إلى لقبه الأول امطرب الملوك والأمراءب، تعطي في مجموعها مستوى من التقدير الفني الرفيع الذي يتمتع به هذا الفنان الاستثنائي الذي وُلد قبل القرن العشرين بثلاث سنوات، ليخلف في ربعه الأول أستاذه سيد درويش على عرش الموسيقى والطرب، ويبقى محتفظًا بموقعه على هذا العرش المزدوج طوال القرن العشرين، حتى عقده الأخير.

 والحقيقة أن ظروفًا تاريخية كثيرة قد اجتمعت، إضافة طبعًا إلى المواهب الغنائية والموسيقية التي وهبها الله لهذا الفنان بغير حساب، أهمها أنه وُلد في فترة كان فيها رحيل زعيمي النهضة الموسيقية العربية الأولى في القرن التاسع عشر؛ محمد عثمان (1900)  وعبده الحمولي (1901 حين طرح السؤال الكبير: ماذا سيكون مصير الموسيقى والغناء في بلاد العرب بعد هذا التزامن في الرحيل المفاجئ؟ وقد ازداد إلحاح هذا التساؤل الكبير بعد رحيل كلّ من يوسف المنيلاوي وسلامة حجازي، في العقدين الأوّلين من القرن العشرين.

لكن الله لم يبخل علينا بإرسال العبقريين الموهوبين أبي العلا محمد وسيد درويش، فقام الأول بتطوير وحفظ تراث القصيدة الغنائية العربية، وأرسى الثاني، على مدى 6 سنوات فقط (1917-1923)، جسر الانتقال من نهضة القرن التاسع عشر، إلى نهضة القرن العشرين.

ملامح مشتركة

كان من الملامح المشتركة لكل هؤلاء العباقرة أنهم كانوا أصلًا من المشايخ المتمرسين بأصول الإنشاد الديني، أو من أبناء المشايخ، أو من الذين تلقوا التربية على أصول المقامات العربية عن كبار المشايخ.

هذه القاعدة الذهبية لم يشذ عنها العبقري الطفل عبدالوهاب، الذي كان والده شيخًا، وشقيقه الأكبر شيخًا، فترعرع في طفولته الأولى في أحضان الإنشاد الديني بجامع حي باب الشعرية بالقاهرة، وظل لصيقًا بكبار المشايخ؛ مثل علي محمود ودرويش الحريري ومحمد رفعت، حتى الشيخ مصطفى إسماعيل، إلى سن متقدمة، حتى تربّع على عرش الغناء والموسيقى العربيين، إلى جانب رفاقه العباقرة محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.

وكان نديمه المفضل في العقدين الأخيرين من عمره الشيخ محمد عمران، آخر عظماء الإنشاد الديني في القرن العشرين، يصر على أن يعقد معه جلسة فنية أسبوعية.

هذا الأساس المتين الذي تربّت مواهب عبدالوهاب الموسيقية والغنائية في أحضانه، ظل الجذور الصلبة التي بقي ملتصقًا بها إلى آخر عمره، والعمود الفقري، الذي صانه من احتمالات التغرب، على الرغم من انغماسه الشديد بالإعجاب بالموسيقى الكلاسيكية الأوربية.

جمال الصوت والأداء

بدأ عبدالوهاب يلفت النظر بجمال صوته وجمال أدائه الغنائي، منذ أن كان طفلًا لم يتجاوز سنواته العشر، حيث بدأ يفتتن بالموسيقى والغناء، فيهرب من بيته إلى مجالس الطرب والغناء، ويتحمل في ذلك كثيرًا من المشاق، حتى التحق مطربًا بين الفصول المسرحية في أكثر من فرقة تمثيلية، ولقي عنتًا شديدًا من والده وشقيقه الأكبر، اللذين كانا يرغبان في أن يصبح الفتى الموهوب شيخًا من حفظة الإنشاد الديني.

وقد كشف ذات يوم وهو في قمة أمجاده الموسيقية والغنائية، أنه منذ طفولته، كانت أذناه مشدودتين نحو كبار المشايخ، لا كبار المطربين، وذلك رغم اعترافه بأنه كان من ملاصقي حفلات الطرب التي كان يحييها المطرب المخضرم صالح عبدالحي.

وبعد هذا التمرّس الطويل لأذني عبدالوهاب بأصول المقامات العربية، وفنون الغناء والطرب وأساليبه المعقدة، بدأ اهتمامه يزداد بأعمال كبار عباقرة الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، وذلك في أوساط العائلات الموسرة، التي دخل أجواءها بعد أن تربّع على عرش الموسيقى والغناء، فور رحيل أستاذه سيد درويش، في العقد الثالث، أي في عشرينيات القرن العشرين.

ومما يرويه عبدالوهاب في مذكراته أنه كان يمارس مع أستاذه في آلة العود، وزميله فيما بعد، العبقري محمد القصبجي، جلسات الاستماع المتواصل إلى أعمال عباقرة الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، وكل منهما يحتضن عوده، ويقوم عليه بملاحقة الجمل الموسيقية الأصلية والفرعية في سيمفونيات وأعمال هؤلاء العباقرة، وقد شكلت هذه الممارسة، التي يقول عبدالوهاب إنها استمرت برفقة القصبجي سنوات عديدة، المدرسة الكبرى التي تطورت في إطارها مواهبه في الإبداع الموسيقي.

ملحّن لا مطرب

متأثرًا بهذه المدرسة الكبيرة، لم يتوقف عبدالوهاب، كما يعتقد كثيرون، أمام اقتباس بعض الجمل اللحنية العبقرية من أعمال لبتهوفن وشوبرت وفيردي وتشايكوفسكي، إلى ما هو أهم من ذلك بكثير، ألا وهو اكتشاف الأساليب العبقرية في التأليف الموسيقي لدى هؤلاء العباقرة، وقد ظل أثر هذه المدرسة يبدو جليًّا في ألحانه منذ بداياته الأولى العبقرية، وحتى نهايته في أواخر القرن العشرين.

وفي إحدى الجلسات التي كنت أستمتع بها في لقاءاتي المتكررة بعبدالوهاب، سألته: هل يعتبر نفسه أولًا ملحنًا أم مطربًا؟ ومن دون أي تردد أجابني بسرعة: ملحن.

لكن هذا الاعتداد من عبدالوهاب بصفته ملحنًا، لا يحجب أبدًا، أنه - كما قال شيخ النقاد العرب كمال النجمي - كان مطرب القرن العشرين. ولعل اعتداده أولاً بصفته كملحن يعود إلى أن صوته قد مرّ بتحولات كثيرة، كلما مر بمرحلة متقدمة من حياته المديدة، مما اضطره إلى التوقف عن الغناء رسميًّا في أوائل عقد الستينيات، وواصل الأعوام الثلاثين الباقية من عمره يتربع على عرش الموسيقى العربية، مزودًا بألحانه العبقرية أجمل الأصوات العربية من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وفيروز وشادية وصباح، وغيرهم وغيرهن الكثير، حتى بعض نجوم الغناء الموهوبين من الجيل الجديد.

طبيعة مختلفة

مر أداء عبدالوهاب الغنائي بمراحل متعددة، فكان لصوته طبيعة مختلفة كل عقد من الزمن، حتى أن المستمع إلى مجموع تراثه يعتقد أنه يستمع إلى أكثر من مطرب واحد، لكن الأداء الصوتي بقي يتصاعد معه حتى آخر الأعمال بصوته امن غير ليهب، التي ظهرت في أواخر الثمانينيات.

ومع ذلك، فإن صوت مطرب القرن العشرين هذا قد مرّ بأكثر من مرحلة ذهبية من مراحل تطور أوتار حنجرته الذهبية، ولا شك في أن العهد الذهبي الأول لغناء عبدالوهاب قد امتد لعشر سنوات بين أوائل العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، عندما أسمعنا بصوته العبقري وأدائه المدهش أعمالًا، مثل قصائد: يا جارة الوادي، وعلّموه كيف يجفو، وردّت الروح، ويا ناعمًا، حتى على غصون البان.

بعد ذلك بدأت المرحلة الصوتية الذهبية الثانية طوال عقد الثلاثينيات في سلسلة الأفلام السينمائية التي بدأ يمارس الظهور فيها مرة كل عامين، ابتداء من عام 1933 (الوردة البيضاء)  حتى عام 1946 (لست ملاكًا).

وحتى هذه المرحلة السينمائية المهمة عرفت مرحلتين؛ سواء لدى عبدالوهاب الملحن، أو لدى عبدالوهاب المغني: المرحلة الأولى في الثلاثينيات، والثانية في الأربعينيات، حيث بدأ المرحلة الأولى بأغنيات مثل اجفنه علّم الغزلب واسهرت منه اللياليب واالنيل نجاشيب، واختتمها بأغنياته في فيلم ايحيا الحبب مع المطربة الكبيرة ليلى مراد (عندما يأتي المساء، والظلم دا كان ليه).

المرحلة الذهبية

أما مرحلة الأربعينيات فقد افتتحها بالاشتراك مع المطربة الكبيرة أسمهان، في اقيس وليلىب واختتمها في نهاية فيلم غزل البنات مع ليلى مراد في أواخر الأربعينيات، برائعته الخالدة اعاشق الروحب.

ولعل عبدالوهاب المطرب( والموسيقار) قد بلغ ذروة مراحله الذهبية في عقد الأربعينيات، الذي قدّم فيه سلسلة روائعه التاريخية، مثل الجندول والكرنك وكليوباترا، وحياتي أنت، والحبيب المجهول، وقصيدة قالت، وقصيدة دمشق، وهمسة حائرة، واختتمها بعاشق الروح، وبنشيد االحريةب، حيث بلغ عبدالوهاب ذروة الرفعة والمستوى المدهش في براعته الصوتية وفي أدائه الغنائي الساحر، كل ذلك مؤســــس على أعلى درجة من التطور في التأليف الموسيقي.

ومع أن موسيقار ومطرب الأجيال مر في عقد الخمسينيات بمرحلة فتور نسبي في التلحين والغناء، بسبب اضطراب ظروف حياته الزوجية ربما، فقد عرفنا له في هذه المرحلة روائع كثيرة، مثل امن قد إيه كنا هناب واالصبر والإيمانب وقصائد مثل ادعاء الشرقب واالروابي الخضرب واالنهر الخالدب، وأغنيات مثل ابفكر في اللي ناسينيب، إلى جانب إبداعه الكبير في الألحان الوطنية الكبيرة؛ مثل االوطن الأكبرب والجيل الصاعد وصوت الجماهير والأغنية العربية التي قدّمها مع قيام الوحدة بين مصر وسورية.

طرابيش المسرح

ومع أنه بكّر في اعتزال الغناء الارتجالي على المسرح (1939)، فإن عبدالوهاب كان، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، المنافس الأكبر لحفلات الغناء الارتجالي لأم كلثوم، حتى أن الملحن اللبناني خالد أبوالنصر قد روى لشقيقي المايسترو سليم سحّاب، أنه حضر في عام 1929 حفلة لعبدالوهاب في حلب، قدّم خلالها أغنيته الشهيرة اكتير يا قلبي الذل عليكب، التي تستغرق على الأسطوانة 6  دقائق، أما على المسرح فقد غناها طوال ساعتين، وما إن انتهى من الغناء، حتى كان المسرح مكتسيًا باللون الأحمر من الطرابيش التي ألقيت.

لكن الطلاق بين عبدالوهاب وعهد الغناء الارتجالي على المسرح، تم عند ظهور رائعته التاريخية االجندولب، فقد فاجأه الجمهور وهو يهمّ بتقديم رائعته الجديدة هذه، بأنه يريد الاستماع إلى أغنياته القديمة، مثل امين عذبكب والما أنت ناويب، عندها قرر عبدالوهاب حصر إبداعاته داخل الاستديو، حيث يتمتع بالتجديد حتى آخر مدى.

وما إن انتصف القرن العشرون حتى دخلت كل الأجيال الجديدة من الموسيقيين والمطربين تحت التأثير والتأثر المباشر بموسيقى وغناء عبدالوهاب، وخاصة في مصر ولبنان وسائر أرجاء الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.

هذه ملامح عابرة من الحياة البالغة الثراء لموسيقار ومطرب القرن العشرين، الذي أجمع المعجبون به على مواقع التواصل الاجتماعي هذا العام بالذات على إحياء ذكراه، ملقين عليه هذين اللقبين في إجماع يلفت النظر، ويؤكد قصور أجهزة الإعلام العربية عن الإكثار في إسماعنا لأعمال كل هؤلاء الكبار من زملاء عبدالوهاب، سواء في مجال الإبداع الموسيقي، أو الغنائي .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

رائحتك تدل على شخصيتك

الألوان في طعامنا

الخطاب في الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال

في استرجاع عادة الاستعارة من الجيران

أسباب تجعل الطفل أنانياً

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق