مقتل المتنبي
تصدّى كثير من الباحثين لموضوع مقتل المُتَنبّي، واطمأنوا إلى روايات مقتله، وإلى أن القاتل هو فاتك الأسديّ، وإلى أن سبب قتله هو هجاؤه لضَبّة العينيّ ابن أخت فاتك، وإنْ حلّل بعضهم تلك الروايات وحاول أن يجعل القتل سياسيًا، وراءه بعض حكام القرن الرابع الهجريّ.
لكنهم لم يبحثوا في صورة ضَبّة الحقيقية، في ما نعلم، وقلّما شكّوا في نسبة قصيدة الهجاء البائيّة إلى المُتَنبّي. حتى طه حسين الذي مضى يشكّ في الشعر الجاهليّ لأدنى شبهة اطمأنّ إلى رواية المدعو أبا نصر الجَبُّلي، وهي أطول الروايات وأشهرها في هذا الصدد، مع أنها مشوبة بشبهات كثيرة، ومثله فؤاد أفرام البستاني وعبد الوهاب عزام وغيرهما. وسوف نعالج الموضوع من حيث تلك الروايات، وحقيقة ضَبّة وفاتك، وصحة القصيدة الهجائيّة المنسوبة إلى المُتَنبّي.
أولًا: في روايات مقتل المُتَنبّي
1 - الرواية الأشهر
لقد وردت تلك الرواية في ترجمة المُتَنبّي المنسوبة إلى عيسى بن عليّ الرَبَعيّ (420-328ه)، وهي تكتسب أهمية خاصة، في رأي بعضهم، من كون عيسى هذا قد التقى المُتَنبّي في شيراز سنة 354 هـ، قبل أقل من شهرين من مقتله، كما يقال، وخلاصتها أن فاتكًا تتبّع أخبار أبي الطيب لينتقم منه بعد هجائه لضَبّة، وأن أبا نصر نصحه بالعدول عن هذه النية فلم يقتنع بالنصيحة، حتى علم أن غريمه خرج من بلاد فارس نحو العراق، وأنه سيمر ببلدة جَبُّل فدير العاقول ثم ببغداد فالكوفة؛ وفعلًا مر المُتَنبّي بجَبُّل، بعد ذلك بثلاثة أيام، ونزل بأبي نصر صديقه وصديق فاتك أيضًا، وعلم منه أن فاتكًا يتربص به ليقتله، فاستهزأ بالأمر وأبى العمل بنصيحته في أن يخفره أو يصحبه في سفره بعض أهل تلك المدينة، وغادرَ المنزل ليلًا، ولم يلبث أن بلغ أبا نصر خبرُ مقتله وابنه وغلامًا له في بلدة اسمها بَيْزَع، فأرسل من يدفنهم.
وهذه الرواية تثير أسئلة متعددة. فبين جَبُّل وبَيْزَع أكثر من سبعين كيلومترًا، وهو ما كان يحوج الراكب إلى رحلة مقدارها يوم ونصف اليوم تقريبًا، فكيف بلغ أبا نصر نبأ مقتل أبي الطيب من هذه المسافة؟ وكيف تكلف توجيه مَن دفَنَه هو ومن معه؟ وهل بقي القتلى مطروحين في ميدان المعركة تلك المدة الطويلة التي يقتضيها وصول بعض القوافل من بيزع إلى جَبُّل واتصالهم بأبي نصر، ثم إرسال أبي نصر بعض رجاله إلى بيزع لدفن المُتَنبّي وجماعته من غير أن تأكلهم الطير؟ ولماذا لم يذكر أبو نصر شيئًا عن مصير أموال المُتَنبّي؟ وسؤال أهم: كيف عرف فاتك أن المُتَنبّي انصرف من بلاد فارس وهي بعيدة جدًا من جَبُّل؟ والطريف أن الرواية تذكر أن فاتكًا قال للمُتَنبّي حين قتله: «قبحًا لهذه اللحية يا سبّاب»، فمن ترى سمع هذا القول وأخبر أبا نصر به؟ وهناك تفصيل آخر في هذه الرواية نفسها يذكره المقريزيّ( ت845 هـ) في كتاب: المقفّى الكبير، وهو أن المُتَنبّي كان في حوزته سبعون ألف دينار حين قُتل، فمن أحصى هذا المال؟
إن هذه القصة لو قرأها قاض فإنه يرتاب أول ما يرتاب في ذلك الراوي المزعوم، ويذهب به الظن إلى أنه وراء مقتل المُتَنبّي أو مشارك فيه؛ فهو صديق لفاتك، وهو عارف بدقة حركة سير المُتَنبّي في فارس والعراق، وهو مبهور بما ملك هذا الشاعر من مال ومتاع وكُتُب، وهو سوف يعرف تفاصيل المعركة بين المُتَنبّي وفاتك بدقة، حتى كلام فاتك ومقدار ثروة المُتَنبّي آنذاك يعرفهما. وإن ما يتبادر إلى الظن هو أن ثروة هذا الشاعر أغرت أبا نصر، فحرض جماعة من الأشرار على قتله، وربما كان هو أحدهم، ثم جمع ما تركه ودفنه، إن صح أنه دفنه، ثم اخترع هذه القصة زاعمًا لنفسه التقوى وحسن النصيحة والاندفاع إلى ما تقتضيه الصداقة من واجب من أجل أن يبرئ نفسه من الجريمة. وثمة رواية أخرى تقول إن الشريف ناصرًا الذي لا نعرف عنه شيئًا قد مرّ فوق جثة المُتَنبّي؛ أتراه، إن صحت الروايتان، هو أبو نصر نفسه وقد التبس اسمه على ذاكرة الرواة؟
واللافت أن هذه القصة جاءت في رسالة قيل إن أبا نصر بعث بها إلى الخالديّين، الشاعرين المعاصرين للمُتَنبّي، مفصّلًا فيها الأحداث بالتاريخ الدقيق، ذاكرًا الأيام والشهور، وكاد يذكر الساعات والدقائق، كما قيل إن محمد بن هاشم الخالدي كتبها في آخر نسخة بخطه من ديوان المُتَنبّي، وهي نسخة يوحي ياقوت الحموي أنها شرح للديوان. لكن أحدًا من المؤلفين في التراجم لم يشر إلى تلك النسخة ولا إلى ذلك الشرح. والترجمة التي ضمت هذه الرسالة ونسبت إلى الربَعيّ وجدها الدكتور عبدالوهاب عزام مدرجة بعد آخر شرح الواحدي( ت 468هـ) لديوان المُتَنبّي، من غير أن يشير إلى تاريخ كتابتها، ولا إلى من أدرجها، وهو يمكن أن يكون متأخرًا جدًا، وأقرب التواريخ المحتملة لذلك الإدراج يعود إلى ما يقارب مئة سنة بعد مقتل المُتَنبّي، ونصف قرن بعد وفاة الربعي؛ فهي بعيدة، إذن، من زمن قتل المتنبّي.
وشيء أخير هو أن الخالديّين معروفان لكن أبا نصر الجَبُّليّ راوٍ مجهول، لا نعرف عنه إلا أن اسمه محمد بن المبارك، ولم نظفر بذكره إلا في هذا الخبر، ولم يعرض المُتَنبّي لذكره في ديوانه قط - ومن عادته أن يذكر الأصدقاء الذين ينزل عندهم - وهو غير منسوب إلاّ إلى بلده جَبُّل، مع الزعم أنه ذو منزلة عالية في الناحية التي يعيش فيها؛ وذِكْره على هذه الصورة لا يكاد يختلف عن قولنا: حدثنا رجل يقال له فلان. والعادة أن من كان هذا شأنه أن ينسب إلى قبيلته. والطريف أنه في التمهيد لرسالته يقول: «ويقال إن فاتكًا خالُ ضبة، وأن الحمية داخلته لما سمع ذكرها يعني أم ضبة بالقبيح» وهذا الأسلوب في التمريض، وفق مصطلح أهل الحديث، لا يلجأ إليه إلا راوٍ غريب، وليس رجل تربطه بفاتك علاقة متينة، ولا يزال فاتك ينزل عنده ويبوح له بنياته، ويسمع نصيحته فلا يستجيب لها.
فهذه القصة ملتبسة، ولا سند في المصادر لها، بل فيها تناقض واضح ومجافاة للمنطق. ولا يعتد هنا بزعم غير واحد من المتأخرين أنه قرأ نصها في نسخة الخالدي من ديوان المُتَنبّي، وذلك لأن كثيرًا من القدماء ينقلون النص بحرفه أو شبه حرفه وفيه قول صاحبه أنه نقله من مصدر ما أو أخذه عن راو آخر فيوحون أنهم هم الناقلون أو الرواة، وهذا ما فعله ابن الأثير، مثلًا، في «الكامل في التاريخ»، حين أخذ عن الطبريّ ما يتصل بالمدة التي تناولها هذا المؤرخ المؤسس.
2 - روايات أخرى
ويروي المقريزي والبديعيّ (ت 1073هـ) صاحب: «الصبح المنبي عن حيثية المُتَنبّي» رواية أخرى، وهي أن الخفراء طلبوا من المُتَنبّي بعد خروجه من المنزل الذي رحل منه مبلغًا من المال ليسيروا معه فرفض أن يدفعه لهم شحًّا وكِبرًا فانذروا به ــ وهذه عبارة غير مفهومة ــ «فكان من أمره ما كان»، وهذا يعني أن الذي عرض عليه الخفارة ليس أبو نصر، ولم يحدث ذلك في بيته، بل بعد الخروج منه، خلافًا للرواية السابقة. وليس صحيحًا زعم بعضهم أن المُتَنبّي معتد بنفسه إلى درجة يرفض فيها الخفارة أو الحماية دومًا، ففي ترجمة الرَبَعيّ نفسها أن أبا الطيب حين خرج نحو فارس، أرسل يطلب من معز الدولة أن يضمن له الطريق من بغداد إلى واسط فأبى معز الدولة ذلك؛ وفي القصيدة الكافيّة التي مدح بها المُتَنبّي عضد الدولة البويهي، فنّاخسرو بن الحسن (ت 372 هـ)، عند مغادرته شيراز، ما يوحي طلب الحماية، وذلك حين يقول:
يُشَـــرِّدُ يُمـْــنُ فَنّاخُسْـــرَ عَــنّي
قَنا الأعداءِ والطَّعْنَ الدِّراكا
وأَلْبَسُ مِنْ رِضاهُ في طريقي سِلاحًا يَذعَرُ الأَبطالَ شاكا
وهناك رواية ثالثة يعرضها البديعيّ أيضًا، وهي أن الذين قتلوا المُتَنبّي هم بنو ضَبّة بإيعاز من عضد الدولة نفسه الذي ساءه تفضيل أبي الطيب لسيف الدولة عليه. وعضد الدولة هذا هو أحد المتغلّبين في الخلافة العباسية، وقد تولى مُلك فارس ثم مُلك الموصل والجزيرة، ووُصف بأنه جبّار عسوف. وهنا لا يعود الهجاء سببًا للقتل، ولا يعود ضَبّة هو ذاك الرجل العبد الذي يستركبه المسافرون، بل يصبح السبب هو استياء أحد الأمراء الظلمة من شاعر، ويصبح ضَبّة اسمًا لقبيلة معروفة. ولئن كان هذا السبب محل شك من كثير من الباحثين، فإن احتمال أن يكون بنو ضبو هم قاتلي المُتَنبّي غير مستبعد.
فإذا تركنا هذه الرواية ونظرنا في رواية رابعة هي رواية أبي القاسم الأصفهانيّ( ت بعد410 هـ) صاحب كتاب: «الواضح في مشكلات شعر المُتَنبّي»، والمعاصر لتلميذ المُتَنبّي أبي عثمان بن جِنّي( ت392 هـ) لا للمُتَنبّي نفسه، وجدنا أن فاتكًا الأسدي هو الذي عرض على أبي الطيب بكل احترام وتقدير، حين كان المُتَنبّي ضيفًا على بعض عمال الوزير المهلبيّ في الأهواز، أن يسير معه في عدد من رجال قومه إلى دير قُنّة ليحميه من الصعاليك وغيرهم، وذلك لقاء ثوب لكل رجل يصحبه، فأبى المُتَنبّي ذلك معتدًا بسيفه وفرسه، فما كان من فاتك إلا أن جمع جمعًا من قطاع الطرق، وهاجم أبا الطيب في وسط الطريق فقتله ومن معه واقتسم مع رفاقه أمواله. ودير قُنّة – وهو بلفظ دير قُنّى في معجم البلدان – يبعد من بغداد نحو تسعين كيلومترًا. وبين بغداد والأهواز أكثر من خمس مئة وخمسين كيلومترًا؛ وهذا يعني أن فاتكًا إما أن يكون قد قتل المُتَنبّي في بلاد فارس، ولم يقل أحد بذلك، أو أنه قتله بعد خروجه منها، أي لاحقه هو وعصابته حتى دخل العراق، متتبعًا خطاه مسافة تزيد على مئة كيلومتر، وهذا مستبعد جدًا، فكيف إذا كانت المقتلة قرب دير قُنّة أو دير العاقول، فيكون فاتك قد سعى وراء أبي الطيب أكثر من أربع مئة وخمسين كيلومترًا؟ وهذا شبه مستحيل، زد على ذلك أن حدوث المقتلة أيام الوزير المهلبي مستحيل قطعًا، على ما لحظه الدكتور عبدالوهاب عزام، لأن هذا الوزير قد توفي قبل مقتل المُتَنبّي بنحو سنتين، إلا أن يكون المؤرخون قد أخطأوا في تاريخ وفاته.
3 - التباس أمر القتلة
وابن جِنّي من أقرب المقرّبين إلى المُتَنبّي، ويقال إنه التقاه في شيراز قبل مقتله، على ما سبق. هذا المقرّب من شاعرنا يروي القصيدة البائية الهجائية في شرحه المسمى الفَسْر، فيعلل أسلوب الصراحة فيها لكنه لا يشير إلى أنها كانت سبب قتل صاحبها بيد فاتك. وهو في مكان آخر يوحي بحدوث القتل، لكنه لا يذكر القاتل ولا يروي أي قصة تتصل به، وذلك في شرحه للكافيّة التي مدح المُتَنبّي بها عضد الدولة، وهي آخر قصائده كما يؤكدون. فهو يقول: «وفي أضعاف هذه القصيدة كلام جرى على لسانه كأنه ينعى فيه نفسه، وإن لم يقصد ذلك»؛ ثم يقول في تعقيبه على البيت الثامن والثلاثين من تلك القصيدة: «جعل القافية الهلاك فهلك». يعني قوله:
وأَنّى شِئتِ يا طُرُقي فَكوني أَذاةً أوْ نــــــــــــــجـــــــــاةً أو هَـــــــــــلاكــــــــــا
وبعد شرح هذه القصيدة يعلن ابن جِنّي انتهاء قصائد المُتَنبّي الكافيّة؛ لكن نسخة من نسخ الفَسْر الخمس تفرّدت بوصفٍ مقتضب ملتبس لمقتل المُتَنبّي وهو: «هذا آخر ما قاله المُتَنبّي من الشعر، وقُتل يوم الأربعاء
(...) وقت منصرفه من شيراز بفرع بين الحل والرصافة، وابنُه وغلام له اسمه مُفلح، قتلهم فاتك بن أبي جهل الأسدي وفراس بن بداد، وقيل إنه قال: يا قاذف المحصنات، يا سبّاب، قبحًا لهذه اللحية». ونحن لا نكاد نشك في أن هذا النص مقحم على الفَسْر من بعض النساخ أو القراء، لأن أسماء البلدان التي فيه لا توافق حادثة مقتل المُتَنبّي.
يبقى أن أشهر من نُسب إليه جرم القتل هو فاتك هذا، كما هو واضح، وهو شخص مجهول ومشكوك في وجوده؛ وهناك قتلة آخرون شبه مجهولين كتلك السرية من الأعراب التي تكلم عليها أبومنصور الثعالبيّ( ت429 هـ) وأشار إلى قتلها المُتَنبّي واستيلائها على أمواله؛ وكبني ضَبّة الذين سبق ذكرهم؛ أو كفرسان أسد وشيبان الذين ذكر أبو العلاء المعري أنهم خرجوا على المُتَنبّي وصحبه وقتلوهم، أو كقطّاع الطرق.
4 - التباس الأمكنة والأزمنة والشهود
كما أننا لا نعرف مكانًا واحدًا للمقتلة، فهم يذكرون لها ثلاثة مواضع معروفة، هي الصافية وبَيْزَع وبَنُورا، وموضعين ملتبسين هما الفرع وبَيُوزى (على وزن فَعُولى على ما أكده المقريزي، ويبدو أنها تصحيف لبَنُورا، أو ربما كان العكس صحيحًا)، ومواضع نسبية لا تسمى بل يشار إلى ما يجاورها أو يحيط بها كتلك التي تجاور دير العاقول أو الصافية أو غيرهما من البلدان القريبة منهما. ولا نعرف عدد أصحاب المُتَنبّي، ولا عدد الرجال الذين هاجموه، فالروايات تختلف اختلافًا واضحًا في ذلك.
ولا نعرف زمنًا واحدًا لتلك المعركة، فقد راوح ذلك الزمن بين التاسع عشر من رمضان، وبين شوال بغير تعيين لليوم.
ولم ير أي شخص معروف جثث القتلى؛ وليس في المراثي التي قيلت في المُتَنبّي ما يدل على قاتله أو مكان قتله، بل هناك تلميح في إحداها إلى القتل وإلى أن القتلة هم بنو أسد، وسائر المراثي خلو من الإشارة الصريحة أو الضمنية إلى القتل، وهذا يدعو إلى الارتياب في نسبة القتل إلى فاتك، ويسمح لمن يريد التوسع في الاحتمالات أن يفترض عدم حصول القتل أصلًا، فربما مات الرجل حتف أنفه في بعض السجون، أو ربما اجتاحته وصحبه عاصفة رملية أو ثلجية فقضت عليهم لأن الأحداث جرت بين سبتمبر وأكتوبر. وحين يختفي شاعر كبير كالمُتَنبّي، سواء بالقتل أو بالسجن أو بغيره، فإن القصص الخيالية تحاك حوله. وفي أيامنا التي تتوافر فيها أدوات التحقق الكثيرة، نسمع بموت أحدهم ثم نكتشف بعد مدة أنه لا يزال حيًا، ونسمع بجريمة فتصلنا أخبار مختلفة ومتباينة عنها، ثم نكتشف أن كل ما قيل فيها أو أكثره محض خيال، وربما تضليل، وأن الحقيقة شيء آخر لم نكن نتوقعه؛ حتى بعض محاكم الجزاء تنزل حكم الإعدام بأحدهم ثم تكتشف بعد فوات الأوان أنه كان بريئًا، فكيف يمكن للأمر أن يكون في العصور القديمة، ولاسيما حين يسجل الخبر كتّاب متأخرون، ليس عملهم التأريخ ولا التحقيق القضائي؟
ثانيًا: في ضَبّة وخاله
1 - لضبة صورتان أدبية وتاريخية
الصورة التي تظهرها أخبار قصيدة الهجاء التي تناولت ضَبّة هي أنه عبد مُكارٍ أو دليل للمسافرين، وأنه نزق جبان شتّام، يفر إلى إحدى القلاع ويرسل السباب من فوقها، من غير أن ندري لماذا يترك الركْب الذي استأجره، ولماذا يفر منه ويكيل الشتائم له. وهو في كل نسخ الديوان وفي الأخبار الأدبية ضَبّة بن يزيد العيني، وبعضهم قرأها العتبي، ولعله تحريف، إلا في نسخة واحدة حيث يوصف بأنه ضَبّة بن محمد العيني، لا ابن يزيد.
لكن إذا انتقلنا إلى كتب التاريخ وجدنا العكس، أي أنه دائمًا ضَبّة بن محمد العيني، مهجوّ المُتَنبّي نفسه، بغير التباس، ووجدنا أن صورته تتبدل من الضعف والنزق، إلى القوة والبطش؛ فهو في أخبار سنة 364 هـ، أي بعد مقتل المُتَنبّي بنحو عشر سنوات، رجل ذو سطوة تخضع له عشائر كثيرة، وقد أمره بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه بالإغارة على أطراف بغداد، وبقطع الميرة عنها، ففعل. وفي أخبار سنة 369 هـ أنه كان مستوليًا على عين التمر، سالكًا «سبيل اللصوص وقطّاع الطرق»، وفق عبارة ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»، وأن عضد الدولة أرسل نحوه سرية، فهرب وترك أهله في البلدة «وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحسين» الذي بناه عضد الدولة نفسه، وعوقب على ذلك - ولا يعيّنون تاريخ تلك الحادثة -. إن إرسال أحد أمراء العصر سرية لمواجهة هذا الرجل يعني أنه كان ذا قوة وعزوة كبيرة لا مجرد عبد مأجور.
الفرق واضح جدًا بين الصورتين: صورة ضَبّة في ديوان المُتَنبّي وكتب الأدب، وصورته في كتب التاريخ، سواء في الاسم أو في الشخصية. صحيح أنه ربما كان فتى حين شاتمَ المُتَنبّي وجماعته، إذا ثبت أن ذلك قد حدث، وأنه بعد مرور نحو عشر سنوات على ذلك أصبح شابًا ذا سطوة، لكن المنطق يقتضي أن تكون له شخصية قيادية منذ الصغر أو الفتوة حتى يستطيع أن يصل إلى قيادة العشائر. ومن كانت هذه طباعه وقدراته لا يفر من المُتَنبّي وجماعته، بل يتصدى لهم بعنف، أو يذهب ليأتي بعدد من أبناء قومه فيقاتلهم. فقصة فراره ودخوله الحصن وإرسال الشتائم لا تستقيم، ولاسيما أننا لا نعرف سببًا لها.
وشيء آخر. كان ينبغي لضَبّة هذا أن يشارك خاله في الانتقام من المُتَنبّي، فالذي يشارك الخارجيّ الذي ظهر في بني كلاب سنة 353هـ في الإغارة على الكوفة، يكون أكثر قدرة على حمل السلاح والقتال مع خاله سنة354 هـ، لكننا لا نجد له أثرًا في تلك المقتلة، سواء في الإعداد لها، أو في المشاركة فيها ــ وقد رأينا أنه كان لا يزال حيًا في ذلك الوقت، وعاش بعده زمنًا ــ.
2 - فاتك شخصية مجهولة ملتبسة
ونحن لا نكاد نعرف اسم هذا الخال، لأن أهم روايات قتل المُتَنبّي تزعم أنه سمي فاتكًا لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال، فهو لقب اكتسبه بسبب سلوكه وأعماله حين بلغ أشده. وحتى إننا لا نكاد نعرف أباه، لأن هذا الأب يدعى مرة أبا جهل، وهذه كنية لا اسم، فأبو جهل الصحابي، مثلًا، كان يدعى عمرو بن هشام المخزومي، وكنّاه النبيّ بأبي جهل ذمًا له، وكان له كنية أخرى هي أبو الحَكَم، ومن المستبعد أن يسمّي مسلم ابنه بأبي جهل. واسم أبي فاتك مرة أخرى فراس، لكننا نكتشف أن فراسًا هو فراس بن بداد، أحد أقارب فاتك، وأن ثمة تحريفًا في بعض النصوص التي ورد ذكره فيها. وفاتك في بعض الروايات خال ضَبّة، وفي بعضها ابن عمه، وفي بعضها ابن خاله، وفي بعضها ابن خالته، وفي بعضها من ذوي قرباه. وهو لا يظهر إلا في قصة مقتل المُتَنبّي ثم يختفي، ليظهر ابن أخته ضَبّة صاحب الشأس والبأس؛ فهل كان فاتك نكرة ولم يُعرف إلا بعد هجاء المُتَنبّي لضَبّة، أم هو شخصية وهمية اخترعت لإكمال العناصر الفنية لتلك القصة؟ هذا ما نرجحه.
ثالثًا: القصيدة البائيّة
لندع ذلك كله وننظر في قصيدة الهجاء البائية نفسها. إن المُتَنبّي استعلى على شعراء معروفين في زمنه ولم يرد على هجائهم له، واستعلى على بعض الزعماء فأبى مدحهم، أتراه يهجو من زُعم أنه عبد أرعن؟ ولنفترض أنه جهل وهجاه، فإنه يهجوه بأبيات قليلة تناسب قدره، أما أن يهجوه بمطولة خالصة للهجاء تبلغ تسعة وثلاثين بيتًا فأمر بعيد من التصور، ولا شك أن من الخير للشاعر أن يبذل الوقت الذي اقتضاه تأليف تلك المطولة في إنشاء قصيدة مديح لبعض ذوي الشأن والرفعة. نعم أطال في هجاء كافور، لكن كافورًا حاكم وليس مكاريًا أو دليلاً! ولم يعرف عن المُتَنبّي الفحش الصريح في شعره إلا مرة واحدة حين هجا ابن كيغلغ، لكنه لم يكن فحشًا متماديًا، بل اكتفى فيه ببيتين ليس إلاّ من قصيدة طولها ستة وثلاثون بيتًا ذات معان راقية ورائعة، ثم ندم على عباراته الفاحشة وقال: «لوفارقته قبل قولها لم أقلها، أنفة من اللفظ الذي فيها»؛ أما ما نسب إليه من هجاء ضَبّة فكله فحش صريح وليس فيه أي معنى راق ولا صورة رائعة، بل منه ما ينحط كثيرًا عن أسلوب المُتَنبّي وذائقته الموسيقية. وحسبنا أن نلاحظ أن مطلع القصيدة وبعضًا آخر من أبياتها يُشعر وكأنه مكسور الوزن لأنه من البحر المجتثّ المشعّث الذي انتقلت فيه فاعلاتن إلى مفعولن، كما أن في صوره من السخف ما لا يوافق شعر أبي الطيب، وهو أمر اتفق عليه الجميع.
لذلك لا نستغرب قول ابن جِنّي في شرحه لديوان المُتَنبّي: «ورأيته وقد قرئت عليه هذه القصيدة وهو يتكرّه إنشادها» أي يشمئز منه، وفي رواية أخرى: «وهو ينكر إنشادها». وينبغي أن يكون قد حدث ذلك في شيراز في صفر من سنة 354 هـ حين كان الرجلان هناك. وقد علل ابن جِنّي سخف هذه القصيدة بأن المُتَنبّي صرح بالشتم لأن ضَبّة «لا يفهم، ولا يعرف التعريض» واستشهد بقول بشار بن بُرْد حين انتقد بعضهم شعره في جاريته ربابة: «إنما أكلّم كل إنسان على قدر معرفته» فعلية القوم، على ما يوحيه بشار من بعد، تستحسن النمط البليغ، والجواري لا يفهمنه ولا ينتفعن به، بل حسبهن النمط البسيط - ويمكن لهذا الحكم أن يشمل العبيد .- ذلك كله غير مقنع؛ لأن هناك فرقًا بين أن يكون التصريح ذمًا فاحشًا أو ذمًا مهذبًا، فليست القضية في هذه القصيدة قضية تصريح أو إيماء, بل هي قضية الفحش السوقي الذي فيها. ونحن لا نتخيل أن يمتنع المُتَنبّي عن فاحش القول في كل شعره، وأن يلمّ به إلمامًا سريعًا في قصيدة واحدة شعر بالخجل بعد قولها، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره ودون ذلك، ثم يهجم على قول الفحش هجوم أرعنٍ جاهل حين يجاوز الخمسين؛ ولا أن يكون معظم شعره أنيق العبارة بديع الصورة مدهشها، ثم يسفّ كل الإسفاف في قصيدة قالها في كهولته. ولو كان تعليل ابن جِنّي ومن وافقه صحيحًا لمَا قال المُتَنبّي في صباه قصيدة يتهكم فيها برجلين قتلا جرَذًا وأبرزاه للناس ليروا كبره، وآخرها:
وأيُّكُما كان مِن خَلْفِهِ فإن به عَضةً في الذَنَبْ؟
نعم، هي البساطة التي تدخل في السهل الممتنع، وليست البساطة التي تدخل في السوقية. حتى مداعبة بشار لجاريته لم تكن سوقية، مع أنها أشبه بالكلام العامي. لهذا كله نرجح إنكار المُتَنبّي للقصيدة البائية تلك، ونرجح صدقه في إنكارها في الوقت نفسه، بدليل غرابتها عن أسلوبه، وغرابة معانيها عن سلوكه وعاداته، ويغلب على الظن أنها منحولة عليه. وقد نحل الشعراء المُتَنبّي أشعارهم في القديم والحديث، ومن ذلك تانك القصيدتان اللتان ذكر الرَبَعيّ أنهما نحلتا أبا الطيب في عصره، وهما رائية ودالية ــ دع ما نقرأه اليوم على صفحات الإنترنت ــ. ومتى أنكرنا القصيدة أنكرنا الحادثة التي ارتبطت بها.
النتاج
وفي النتيجة فإن قصة المعركة التي دارت بين المُتَنبّي وفاتك لا تقنع، ورواياتها متعددة متناقضة، أو مختلفة على الأقل، وصورة ضَبّة فيها مجافية لما عرف عنه في التاريخ، وشخصية فاتك تبدو وهمية، والقصيدة البائية تبدو منحولة، وليس أمامنا في مسألة القتل إلا مجرد الظن. والراجح شبه المؤكد أن المُتَنبّي قد قتل لكننا لا نستطيع تعيين قاتله ولا طريقة قتله، وإنْ راودتنا فكرة أن جماعة من قطاع الطرق وربما المرتزقة قد قتلته طمعًا في ماله، أو بتدبير من بعض الساسة الحاقدين، مع احتمال ضئيل في أن يكون مات بطريقة أخرى، أو اختفى في سجن أو غيره .
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
الخطاب في الرسوم
المتحركة الموجهة للأطفال
في استرجاع عادة
الاستعارة من الجيران
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق