عصر الفساد العالمي
مع بداية الألفية الثالثة للميلاد، فوجئنا بتسارع خطوات الثورة الرقمية، حتى عجز أغلب الناس عن مواكبتها. لم يكن السبب في التطور التقني السريع فقط، بل بتلك البرامج التقنية التي قلبت النظريات والمفاهيم والمبادئ العلمية، فلم يعد علم الحساب ذاك الذي تعلّمناه، ولا الفيزياء أو الكيمياء، ولا التاريخ أو الجغرافيا.
تراجعت
اللغات إلى عقر الاختصارات، فكادت تكون طلاسم وإشارات، واتكأت المبادئ والأخلاق
على عصا العَجْزِ، فلم تعد في نظر الشباب ذات فائدة، واستحى الكبار أنْ يتكئوا
عليها، حتى تراجعت هي أيضًا، فبدلاً من أن تكون شريعة حياة ومنهاجًا، صارت مُثُلاً
وأمثالاً.
منذ تلك الفترة، أقصد بداية الألفية الثالثة، والعالَم ليس ذاك الذي عهدناه، كل الذي فيه يجري ويلهث، من دون أن يدركَ سببًا أو يتبع سببًا. وعندما تأتي فرصة الراحة والسكون، مع الأهل أو مع النفس، يشوب تلك الفرصة قلق وتعب من أخبار تسمعها أو تراها، أخبار قتل وذبح ودمار. وإن حاولت الترفيه عن نفسك بفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، لا ترى إلا رعبًا من دماء تُسْفَك أو خيانات لأوطان أو جرح لحبيب، حتى «الكوميديا» صارت سمجة بسماجة ممثليها، بلا هدف ولا مضمون ولا حتى ابتسامة. وإن رَكَنْت إلى الموسيقى، لا تسمع إلا صخبًا وضجيجًا، يحاكي ضجيج الحياة عندما تختفي مقامات الموسيقى في مسبار التكنولوجيا، ولا تبقى لنا غير الذكريات، من ألحان وموسيقى وغناء الزمن الجميل.
تفرّقنا إلى حزبين، حزب عاش مع الماضي، يرفض الحاضر بما فيه، وحزب يجاري الواقع ويرضى بكل الذي فيه، لا الأول يحاول أن يبني منظومة للذوق العام، ولا الآخر يستطيع أن يستذكر الماضي كحياة يبني على حلوها ذوقًا. إنه ليس اختلافًا في الرؤى والأهداف، إنه افتراق في المخيّلة والأحلام.
ليس من السهل أبدًا أن تقرأ رواية، فترسم في خيالك أشكال شخصياتها وكأنها شخصيات حقيقية، موجودة في الحياة والواقع، وكيف أنّ المؤلف أو القاصّ يُحرّك هذه الشخصيات حسب أحداث الرواية، لتكون أنت في مكانة ممتهن السيناريو والحوار، وربما تكون أنت «البطل»، بطل هذه الرواية.
هكذا كنا نقرأ، وهكذا يستطيع الخيال، مهما ضاقت دائرته أو اتسعت، أن يُنتج إبداعًا فنيًّا على مستوى الأفراد.
مرحلة فاصلة
عندما ضاقت مساحة القراءة، وصارت الأفلام السينمائية تنسج خيالاتها من عندها، من المخرج والمصور إلى مصمم الملابس والديكور، ثم الممثل حتى مصمم الصوت والموسيقى، لتملأ بذلك مساحة كانت لك ففُرضت عليك، ضاع منك الحسّ الإبداعي والقدرة على تخيّل الأحداث، لتكون متلقيًا منتظرًا ما تمليه عليك أحداث الرواية. هكذا أصبحنا، في كلّ شيء بحياتنا اليوم، يُملى علينا، من دون أي اعتبار للفروقات أو الاختلافات أو القدرات.
يمُرّ الإنسان في مرحلة فاصلة من تاريخ البشرية، قد تكون مرحلة انتقالية من عصر إلى عصر. إنها ليست تطورًا مثل الكتابة التي بدأت على الحجارة والجدران، ثم الألواح، فالقراطيس والأوراق المخطوطة، فالأوراق المطبوعة، كما أنها ليست تحديثًا مثلما هو حاصل في وسائل النقل والسفر، إنّها «ثورة» أشبه ما تكون بالثورة الصناعية في أوربا بُعيْد القرون الوسطى لـ «أوربا الظلام»، تلك الثورة التي جعلت للآلة قدْرًا لا يضاهيه قدر الإنسان. وها نحن اليوم نمرّ بالنقلة الأكثر تطورًا، وربما تكون الأكثر تغييرًا، عصر جديد سادت به البرمجيات الرقمية، وتحوّل كل شيء فيه إلى أرقام، وصار أسُّ النشاط كسلاً.
الإنسان بهويته وماله وكيانه أصبح رقمًا، وبعد أن كانت الأرقام حروفًا للحساب، صارت اليوم حروفًا لكل ما يحمله الضمير الإنساني في عصر جاز أن نسميه عصر «الرقميات».
عصر «إسبرطة»
في هذا العصر، لا مكان للطبقة الوسطى أو الرأي الوسط أو الوسطية أو ما بين بين، لقد زالت المسافة في الكسور العددية بين البسط والمقام، مثلما زال نصف القُطْر من الدائرة لتصبح مركزًا ومحيطًا فقط، فقاعات لا تواصل بينها.
أصبح الغنى فاحشًا والفقر مدقعًا، وأتخم الشبعُ شعبًا، والجوع قاتل لشعوب وشعوب، وأرض جدباء عطشى وأخرى بين أمطار وأنهار. كل ما أخشاه أن يدور الزمان فنرجع إلى عصر السادة والعبيد مرة أخرى، عصر «إسبرطة»، فلا نتمكن من تنفّس الحرية إلا وكان الموت أسرع. وبين الأمل والعمل تورَد الأماني ويملأك الرجاء، بأنّ عصرًا ذهبيًا قد جاء، هناء وحب ووفاء ورخاء، وأحلام نومٍ ويقظةٍ وردية وبيضاء صارت هباء، كل شيء تغيّر... تلوّث، سكون الليل... عبق الماضي... البحر والهواء، حتى الجسد، وهو العالم الصغير، تلوث بالسموم من طعام وماء.
ومع عصر الرقميات، ساد الفساد، وتغيرت أحوال البلاد والعباد، قراصنة الحواسيب ومجرمو البرمجيات، ركنوا الموهبة والإبداع جانبًا واشتغلوا في جمع المال، على كل المستويات وبكل الطرق والأساليب.
عرفوا كيف يحتالون على القوانين، التي ساهموا بوضعها وصياغتها أحيانًا، لتصبح شركات مثل «أبل» و«جوجل» و«مايكروسوفت» و«أمازون» و«فيسبوك»، وغيرها ممن شابهها في هذا النشاط المعتمد على توفير المعلومات وتوصيلها إلى المستخدم، من أكثر الشركات ثراء في العالم.
ولا شك في أن وفرة المعلومات أصبحت مستغلة من مخابرات الدول والمراكز المعلوماتية المنتشرة في العالم، إضافة إلى شبكات الجاسوسية وتجارة الممنوعات كالمخدرات والرقيق الأبيض، لترى الانهيار الأخلاقي يعمّ العالم باسم الحرية.
ولعل الاختراقات التي صممتها تلك الشركات في حسابات مستخدميها، أكبر دليل على لا أخلاقية تلك الشركات، وإن كان على المرء أن يعرف منذ البداية تبعات موافقة تلك الشركات على فتح حسابات مجانية لعملائها الذين تهافتوا على التواصل الاجتماعي، وفتح نوافذ المعرفة الوهمية من باب إرضاء الذات المريضة، وملء فراغات حياتهم بالغثّ والعبث. وبهذا انتهت خصوصية الأفراد، وهُتِكَت الأستار وفُضِحَت الأسرار.
تنظيم عالمي
منذ بدايات الثورة الرقمية، وبالتحديد بعد عام 2000م، طغى الفساد الإداري والمالي في العالم، وانتشرت المخدرات أكثر في الدول المتقدمة والفقيرة على السواء، كما استشرى الإرهاب وتلوّنت المنظمات الإرهابية بألوان السياسة وأقنعة الدين ومثالب السلوك الوحشي، حاجبة للفضائل والأخلاق، معلنةً القتل وسفك الدماء وهتك الأعراض وسلب الأموال.
إنّ الفساد تنظيم عالمي إرهابي، هدفه محاربة كل مبادئ الأخلاق في العالم، وفي دول عديدة من العالم المعاصر، تتغير أنظمة سياسية وحكومات، وكل جديد يكون أسوأ فهمًا وأقل ضميرًا.
أما على مستوى الشعوب، فقد سادت «الرويبضة»، حين سبق الوقحُ الشجاعَ في القول، وتابع الناس السياسي وانفضّوا من حول العالِم والأديب، وعلا صيت المغرد على صوت المفكّر في الكتابة، وندمت الطبيبة والمعلمة على ضياع سنينهما في الدراسة والتحصيل والممارسة العملية، عندما رأتا «فتاة الإعلانات» بين الناس أكثر مالاً وأعزّ ذِكْرًا.
انقلبت الموازين، وتأرجحت المفاهيم، وتغيرت المبادئ، وسادت المصالح الشخصية على حساب مصلحة الأوطان. وبدأ الناس يحسبون حساب الرويبضة ويخشون من ألسنتهم المعوقة ومن تقيؤات أقلامهم المعوجة، حتى ظنّ مَن كان في قلبه مرض أو مِن السُذّج، أنّ مثل هؤلاء يشكّلون الصفّ الأول في الولاء والردّ على الأعداء.
خطط مستقبلية
رويدًا رويدًا، اختفى صوت الحكمة وعلا نعيق الغربان، فلا تسمع إلا ضجيجًا نشازًا يخترق الآذان، ولا ترى إلا سطورًا تسمّمت عفنًا واستبدلت الحبر بالقطران. ها هي صفحات «تويتر» تملأها الأكاذيب والفِتَن، وصار «جوجل» مع الأسف شيخًا يتبعه المريدون الذين تركوا وراءهم كل علم يقين أو كتاب مبين.
لا شك في وجود خطط مستقبلية وبرامج عمل واعدة وضعتها القيادات السياسية الوطنية المُحبة لشعوبها، حماية لدولها ورعاية لأبنائها، تتواكب مع التطور السريع والتقدم العلمي والتكنولوجي في مجالات التربية والتعليم والصحة، إيمانًا منها بأنّ بناء الأفراد مثل بناء الصروح، لا بدّ له من أساس وبنية تحتية صالحة ومتينة، تخلو من الشوائب والسوء.
وعليه جاء يقين تلك القيادات السياسية الحكيمة بضرورة محاربة الفساد، وبأن ذلك سيكون نقطة البداية في كل مشروع. وبعد أن أدركت تلك القيادات الوطنية الشريفة أنّ ممتهني الفساد أعلم بالقوانين واللوائح من غيرهم، الأمر الذي يُسَهّل عليهم الاحتيال على تلك القوانين ببساطة وسهولة، تغيرت قوانين بعض الدول في محاربة الفساد، لتصنّف سرّاق المال العام «خونة أوطان»، فزيدت العقوبة واشتد الجزاء.
من أجل ذلك، ولتحقيق العدالة وإنفاذ الحق واحترام القانون، لجأت طلائع الدول إلى إنشاء مؤسسات وهيئات لمحاربة الفساد، تضم في صفوفها الأولى مخلصين متخصصين في معرفة الجرائم والعقوبات والأحكام والقوانين، يميزون الخبيث من الطيّب، ويتحرون بدقّة عن محدثي الثراء، ويحاسبون السارق المارق والمرتشي الخائن، ويحيلون كل من عليه شبهة الفساد إلى القضاء ليحكم الحُكْم الفصل.
هل يظن سارقو المال العام أنهم في منأى عن الحساب والعقاب؟ ألا ساء ما يظنون وساء ما كانوا يتوقعون.
صفقات مشبوهة
إنّ المعاناة الكبرى التي تعانيها الدول وشعوبها في العالم الثالث خاصة، تعانيها من ثلة الفساد التي تبيع الذمم وتشتريها، وتسرق أرزاق شعب آمَنَ بوطنه، أعطى كل ما لديه من أجل شفافية الحياة وعزة الوطن. ولا بدّ أنّ نُقِرّ حقًّا بأنّ «خزائن الدولة جيوب رعاياه»، وذلك بما نصت به كلّ دساتير العالم على أنّ رعايا الدولة،( الشعب)، مصدر السلطات جميعًا، وأنّه صاحب الحق في الانتفاع بثروات وطنه.
ووفقًا لذلك، فهو المستفيد من ثروات الدولة بأولويات الحياة الكريمة التي يأتي على رأسها الأمن والأمان والتربية والتعليم والصحة العامة. لن يسكت التاريخ عن تلك الأموال الطائلة والمهدرة من ميزانيات تلك الدول في صفقات مشبوهة، والتي تذهب نسبة كبيرة منها إلى جيوب الخونة من الوسطاء والوكلاء، بمعاونة ممن اؤتمنوا من القيادة والشعب على إقرار الحقوق دون قيد أو شرط، فخانوا أماناتهم وباعوا ضمائرهم من أجل حفنات من المال القذر.
وسيلاحق العار كلّ معتدٍ أثيم خائن للشعب والوطن. ولن يسكت المثقفون ولا المخلصون لأوطانهم، وإن صمتوا لوهلة؛ فهم يترقبون الأحداث ويرصدون النتائج، رغم علوّ أمواج الفساد واختلاط الأضداد في فوضى العولمة، ليصبح الترقب استراحة المحارب في جولة الباطل.
كلّ الدلائل تشير إلى يقظة عربية جديدة قادمة يقودها رجال مفكرون عقلاء لا هَمّ لهم إلا نصرة الحق واستقرار أوطانهم، ويؤمن بأطروحاتهم شباب يعرف حقوقه وواجباته، وكلٌ مخلص لوطنه وقياداته السياسية، يحارب وجوه الفساد ويهتك أقنعته بكل ما أوتي من عزم وقوة. صفٌّ من الرجال والنساء البواسل والشجعان لا يهتمون بمؤامرات زارعي الفساد وأعوانهم، وإن اختلفت المسميات التي تدرجت من محن «التدخلات الخارجية» إلى فتن «المصالح الدولية»، وعلى الرغم من ضغوط القوى النفعية المحيطة بهم، كأفراد أو جماعات، فإنهم يسيرون بخطى واثقة، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
اختراق ثقافة الشعوب
لا بدّ لنا أن نُقِر بأنّ المؤامرات على الشعوب والدول العربية لا تزال قائمة، لإخضاعها من ناحية، ولسلب ثرواتها من ناحية أخرى. ولا بدّ لنا أن نُقرّ أيضًا بأنّ الفوضى الرقمية ما هي إلا اختراق لثقافة الدول والشعوب، وبث السموم في مبادئها السامية ومعتقداتها، وإعمال معوَل الهدم في صروح حضاراتها وإنجازاتها.
وحريٌ بنا أن نعلم دون إنكار لهذه الحقيقة أنّ الكيان الصهيوني كان يعمل منذ عقود على التحصيل المعلوماتي ويؤسس للثورة الرقمية، لذلك استطاع أن يبني له قاعدة بيانات تفوق قاعدة بيانات كبريات الشركات المعلوماتية من أمثال «جوجل».
ومن خلالها استطاع هذا الكيان أن يبث سمومه، التي تجاري مصالحه، من خلال المحاولات المتكررة للتطبيع.
لذا كان لزامًا علينا نحن العرب أن نقف صفًّا واحدًا بقوة وعزيمة أمام مطامع «الذئب». ومهما أبدى الكيان الصهيوني من حُسن نوايا في محاولاته للتطبيع مع الدول العربية، فلا بدّ أن نعلم بأنّ الغدر فطرته والخيانة ديدنه، وقد قالت العرب في أمثالها القريبة: «الذئب لا يهرول عبثًا». لن نكون فريسة لهذا الكيان، ولن نرضى أن ينجّس أرضنا العربية.
في مؤتمر البرلمانيين العرب الأخير، تبدّى لكل العالم الوعي الوطني للشعوب العربية بنصرة أوطانهم شعوبًا وقيادات، مؤكدين أنّ أبناء الأمة العربية المخلصين، على اختلاف أطيافهم، لا يزالون صامدين ضد قوى الاحتلال والفساد، يرفضون التطبيع مع الكيان الصهيوني، ليؤكدوا لقوى الظلم والظلام أنهم لسان حال شعوبهم وقياداتهم السياسية في مواجهة كل شر، فلا للفساد ولا لرشوة الضمائر، ولا للاستبداد ولا لسرقة الأرض والأوطان، ولا للاحتلال.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
5 مهارات اجتماعية
علموها لأطفالكم باكراً
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق