الرواية
يتساءل
أحد الباحثين العرب المرموقين عن أسباب الجاذبية السحرية لفنّ الرواية، ثم يمضي
بعيدًا، فيقول إن الرواية قد غدت، بمفردها، تعبيرًا عن ماهية الأدب.
ولا يتوقف باحثنا الكبير عند هذا التقرير، وإنما يذهب أبعد من ذلك فيقول إن الرواية قد استطاعت أن تكون استيعابًا لأجناس أدبية هي اليوم «آيلة للانقراض».
لا
أملك الصفة التي تجيز لي أن أخوض في هذا الحكم الصادر من سلطة جامعية مجال نظرها
الأدب وأجناسه ومناهجه ومكوناته. لا أملكُ أن أقبل هذا الحكم، كما ليس لي أن أعترض
عليه، بيد أنّي أملك أن أُسلم القياد لوجداني، فأقول في هذه «الجاذبية السحرية لفن
الرواية» كما ألمسها، أو بالأحرى، كما أتوهم ذلك.
الرواية سرد والروائي سارد، وقولي هذا تحصيل حاصل، كما يقول المناطقة، غير أن السرد تشترك فيه مع الرواية أشكال أخرى من القول. إذا قلنا إن الروائي يسرد (أو إنه سارد) وجب علينا أن ننتبه إلى أن الرحّالة الذي يدوّن رحلته كتابة بقصد إطلاعنا عليها يقوم بعمل السارد أيضًا.
كما يتعيّن علينا أن نقول عن المؤرخ، إذ يبسّط الوقائع والأحداث التاريخية، فهو يكون بدوره ساردًا. فما الفرق إذن بين الروائي والرحّالة والمؤرخ، ما دام الثلاثة يشتركون في الانتساب إلى سرد الوقائع ويجتمعون عند التعبير عن الأحوال؟ رب معترض يقول: لكن الروائي الجيد يظل شديد الرعاية لشرط لا يملك أن يخلّ به، وإلا ألفى نفسه خارج دائرة الرواية.
الرواية بحسبانها فنًّا، الشرط الأول في تحققه هو شرط الإمتاع، وهو - من أجل ذلك - يبحر في عالم الخيال طليقًا من كل أشكال القيود، متحررًا من سؤال المنطق والإمكان في عالم الواقع. غير أن الردّ قد يأتي سريعًا، وربما قويًّا أيضًا: هل يجوز لقائل أن يقول إن نص الرحلة، متى حق له الانتساب إلى جنس الرحلة، يعرّى من شرط الإمتاع؟ لا أحسب أن أحدًا يدّعي ذلك.
أما من جانبي فإنني أجد أن الرحّالين حريصون أشد ما يكون الحرص على مراعاة شرط الإمتاع. والملاحظ أن رحّالينا العرب يبادرون إلى القول، بعد البسملة والحمدلة والتصلية، إن ما يحدوهم فيما يدوّنوه هو الالتزام بالحديث عن «العجيب والغريب» دون غيرهما.
دلالة عميقة
لا مكان في تدوين الرحلة لما لم يكن غريبًا أو عجيبًا. أليس شيخ الرحالين جميعًا، رحالة العرب والعجم، كما كان يُنعت بذلك، يجعل عنوانًا لرحلته «تحفة النظّار في غرائب الأمصار»؟ لا يرضى ابن بطوطة لحديثه أن يكون حديث إتحاف وإمتاع لعموم الناس، هو يربأ بنفسه عن ذلك. يريد لحديثه أن يكون خطابًا موجهًا إلى «النظّار»، وللكلمة في الوعي العربي الإسلامي دلالة عميقة تلامس عقيدة المسلم ذاتها.
النظار هم أهل النظر، في عبارة، و«أولو الألباب»، في عبارة أخرى، والنظر عند متكلمة الإسلام هو إجالة الفكر قصد الاهتداء إلى معرفة الخالق.
يقول أحد شيوخ المعتزلة الكبار، وهو القاضي عبدالجبار: «أول ما أوجبه الله على المكلّف النظر المؤدي إلى معرفته تعالى». غير أن المعتزلة، فرسان العقل، لا ينفردون بهذا القول، بل إننا نجده، إن لم يكن في نصّه ففي معناه، عند كل علماء الكلام المسلمين، لأن هذا أمر يتصل بماهية علم الكلام. يريد ابن بطوطة للنظار أن يستمعوا إليه، إذ هم، وقد بلغ العقل عندهم شأوًا بعيدًا، القادرون على تذوّق ما يأتي به من حديث العجيب والغريب.
الحق أننا، إزاء «الناظر» أو «المتكلم»، أمام سارد من نوع رابع، ينضمّ - من وجه - إلى اللائحة التي تضم الروائي والرحالة والمؤرخ، غير أنه - من وجوه شتّى - يبتعد عنهم من حيث إن العقل يظل واحدَ السيّد والآمر، ومتى كانت الحال كذلك، فإن الإمتاع يغدو مقتصرًا على فئة تنحصر في عدد ضيق.
تمازُج اللغة والسرد
تجتمع الرواية مع الرحلة والتاريخ والنظر في فعل السرد من جانب أول وفي التوسل باللغة، من جانب ثانٍ، وإن كان الصواب أن نقول إن اللغة والسرد يتمازجان كما يتمازج عصير الفاكهة مع الماء.
تلتقي الأصناف الأربعة في السرد من حيث أن كلًّا من الروائي والرحالة والمؤرخ والناظر( المتكلم)، كلّ على شاكلته، يعتبر الإمتاع شرط صحة فيما يقوم به. والسؤال الذي يعنيني بعد هذا هو التالي: فمن أين تستمد الرواية إذن ما تنفرد به من «جاذبية سحرية»؟
أحاول، في جمل قصيرة أو خطرات، أن أتبين الفروق بين عمل كل من الروائي والرحالة والمؤرخ والناظر. ما الجامع بين الروائي والرحالة أولاً، ثم - بعد ذلك - ما الفرق بينهما؟
الجامع بين الروائي والرحالة، فيما أرى، هو الرغبة الجارفة في الحكي عند كل منهما. مئات من الناس، بل آلاف إن لم نقل مئات الآلاف من الخلق قد سافروا دون أن يكون منهم حديث عن الرحلة كتابةً، ولم تبدُ منهم رغبة في الحديث للغير عن «العجيب والغريب».
يبدو لي أن الرحالة لا يكون كذلك بالنظر إلى عدد الأسفار التي قام بها وكم البلدان التي سافر إليها واضطراب أحواله فيها بين الهناء والشقاء.
يغدو الرحالة( الرجل كثير الترحال) كذلك، ويحمل النعت عن استحقاق متى التجأ إلى الكتابة. فعل الكتابة هو فيصل التفرقة بين الرحالة( في اصطلاحنا: الشخص الذي يقبل على تدوين رحلته أو إلى إملائها، كما فعل ابن بطوطة)، وبين الشخص كثير الترحال وكفى.
الروائي والرحالة
الفارق بين الروائي والرحالة هو أن فعل التخييل عند الأول، مع الوعي الكامل بصناعة الكذب والانتماء إلى عالم الخيال، هو الفعل الأساس, فعل يكمل عمل التنضيد والترتيب لحالات نفسية لا تدرك ولا تكتمل إلا في فعل الكتابة ذاته.
هل يفيد هذا القول بأن الرحالة إنسان أبعد ما يكون عن الارتكان إلى الخيال، وأشد ما يكون حرصًا على تصوير «الواقع»، وأكثر ما يكون أمانة في ذلك التصوير؟ لعلّي أجعل الجواب متضمنًا في السؤال متى نبهت إلى أن الأمر في حديث الرحالة يتعلق بزمنين اثنين لا بزمن واحد: زمن أول، هو زمن الرحلة والسفر, وزمن بعده، قد يقصر أو يطول، هو زمن الحديث عن السفر كتابة وتدويناً.
قد تكون الرواية رحلة( أو حديث رحلة)، غير أنها رحلة لا تتحقق وقائعها إلا على صفحة الورق أو في ثنايا الجزيئات الكهربائية التي تنبعث من جهاز الحاسوب( ثابتًا كان الحاسوب أو متنقلاً أو لوحة). سفر الرحالة سفر تحقق في الماضي، فالرحلة إعادة تركيب لذلك الماضي. وسفر الروائي رحلة يمضي فيها صاحبها شوطًا بعد آخر بالقدر الذي يقتضيه فعل الكتابة وترتضيه نزواتها صدًّا وقبولاً للكاتب. الرواية رحلة في الخيال المجرد من كل قيد.
شيء يقرب منها يظهر عندما نقارن بين الروائي والمؤرخ، غير أنه يظهر بكيفية تكاد تكون معكوسة. يجعل المؤرخ من الصدق مثلًا أعلى يتشوق إلى الوصول إليهن، في حين أن الروائي كاذب أو، بالأحرى، كذّاب يحترف صناعة الكذب، فالكذب مثله الأعلى في صناعته. ألا تنعت الرواية في القول الفرنسي المأثور بـ «الكذبة الجميلة»؟ أليس التكذيب، متى قورن بالواقع «الملموس» كذبًا؟ لقد علمنا أرسطو أن الفضيلة، ذلك المَثل الأعلى عند اليونان، تعني الإتقان على وجه التحديد. والمعلم الأول يورد أمثلة منها أن الفاضل في العزف على القيثارة هو الذي يتقن فنّ العزف على القيثارة، ومنها أن الفاضل في فن النجارة( أو النجار الفاضل) هو الذي يتقن فن النجارة.
الرواية التاريخية
إن السؤال عندي، بالتالي، هو: كيف يمكن لمن كان الصدق مثله الأعلى أن يقارن بمن كان المطلوب منه أن يكذب فيجيد الكذب؟ أجدني شديد الشك، قليل القبول، في نعت مألوف عند جمهرة النقاد والدارسين، وهو نعت «الرواية التاريخية». لا يولد الروائي، حين يستدعي التاريخ حقبة واحدة أو حقبًا عديدة، مادة لروايته إلا عند نجاحه في إقصاء المؤرخ وإزاحة مثله الأعلى في الصدق جانبًا.
لا حياة للروائي إلا بموت المؤرخ متى ازدوجا في شخص واحد، أما خارجًا عن هذا، فإن الأمر لا يخرج عن أحد حالين: روائي يسيء إلى صنعة الرواية، أو مؤرخ يخل بأدوات المعرفة التاريخية ويعبث بشروطها.
ما الشأن الآن في أوجه العلاقة الممكنة أو المتعذرة بين الروائي وبين الناظر، ذاك الذي لا يستقيم عمله إلا بارتقاء يكون عاليًا في سماء التجريد، ولا يستطاب له المقام إلا حيث يكون العقل سيدًا ومطاعًا؟
أقول: يستطاب له المقام ولا أقول يطيب له، وبين العبارتين فرق لا يدخل البتة في باب المماحكة اللفظية ولا يتصل بالحذلقة البلاغية. الفرق بين القولين يدخل في صلب ما كان مطلوبًا من الناظر أن يظل على الدوام ملتزمًا به، وإلا أخلّ بشرطي الجدية والمصداقية، أي بما كانت ماهيته مقترنة بحضورهما الدائم.
أحسب أن الجواب الذي يتبادر إلى الذهن، استئناسًا بما ألمحت بالإشارة إليه من معنى النظر عند المتكلم، (ومن الصواب أن نتحدث إلى معنى اللوغوس عند الفيلسوف اليوناني)، هو أن الناظر ينحو سبيل المفاهيم والرموز في «مقاربة الكينونة الإنسانية»، في حين أن الروائي يسلك الطريق المغاير كليّة، لأنه يظل مهمومًا بملامسة نبض الحياة في تدفّقها وفي حرارتها. غير أن هذا التمييز يظل، مع ما فيه من بريق، لا يُشبع من جوع ولا يؤمن من خوف الخلط بين الروائي وبين الناظر في بعض الأحيان، متى انخرط الروائي في حديث العقل المحض والنظر المجرد متى نسي، أو تناسى، دواعي الصنعة التي ينتسب إليها أو أخل بقواعدها.
نسق فلسفي
أحاول الاقتراب من الفكرة التي أود إيصالها بكيفية أخرى فأقول: يتشوف الناظر، من أهل علم الكلام أو أصول الدين، إلى إبطال رأي الخصم وإقرار رأيه، وهو يفعل ذلك بموجب ما يقرره العقل ويستوجبه البرهان (الحقيقة الكلامية عند متكلمة الإسلام حقيقة تثبت بالبرهان، أي بالعقل). والناظر، أو الفيلسوف، يتطلع إلى تشييد نسق فلسفي تام ومقفل، نسق ينهض على أرضية ثابتة الأركان.
ذلك ما سعى إليه كل بناة الأنساق الفلسفية في تاريخ الفكر الفلسفي؛ بدءًا من أرسطو وانتهاء بهيجل، مرورًا بليبنتز وسبينوزا وكانط وآخرين. قد يجعل الفيلسوف همًّا أولًا له تقويض الأنساق الفلسفية السابقة عليه، والعمل على جعل الشك يخترقها، وذلك ما تصدى له فيلسوف يعسر تصنيفه في تاريخ الفكر الفلسفي، هو نيتشه، وكذا كوكبة من النظار لعلّي أعد منهم هيدجر وباشلار وتلامذته، وفي مقدمتهم صاحب «أركيولوجيا المعرفة».
يحمل الناظر، من مختلف ما أوردنا من الأسماء والنماذج (بما في ذلك المتكلم في الإسلام) فكرة يسخر كل عبقريته وأسلحته للدفاع عنها، يفعل ذلك وهو ينحني للعقل إجلالاً وتعظيمًا.
لا يعسر على مؤرخ الفلسفة أو القارئ لمتكلمة الإسلام أن يتوصل إلى معرفة منطق البناء عند الناظر موضوع دراسته، وكذا الأطوار التي مر بها إنجاز عمل التشييد والبناء عند الفيلسوف والمتكلم. أليس ذلك هو عمل الأكاديميين؟ أليست تلك هي وظيفة الجامعة والتعليم؟ غير أن الحال غير ذلك عند الناقد، إذ يسعى إلى تحليل النص الروائي وتفكيك عناصره.
أحجية الأهرامات
أستحضر هنا ما يدعوه الطيب بوعزة «أحجية الأهرامات»، إذ يكتب: «عند وقوفنا أمام الأهرامات لن نشعر بصعوبة في وصفها وتحديد بنيتها وشكلها الهندسي، أي بإمكاننا أن نجيب عن السؤال «كيف هي الأهرامات؟»، لكن يصعب أن نجيب عن السؤال: «كيف تم بناؤها؟». كذلك هو الشأن في المنجز الفني: يجوز أن نسأل عن كيفه بسؤال يبتغي وصفه في حالته المتعينة، لكن يصعب أن نحدد له كيفية مسبقة يتحقق إنجازه بمجرد تطبيقها».
ولعلي أضيف إلى قول بوعزة قولاً آخر: ربما جاز للروائي أن يكون حاملاً لفكرة يبتغي إيصالها إلى القارئ، بيد أنه ليس في وسعنا - نحن قراء ذلك الروائي - أن نظفر بجواب عن السؤال: كيف تم له ذلك؟
أميل إلى الاعتقاد بأن «الجاذبية السحرية للرواية» هي «السّر الظاهر» (كما يقال في التعبير المغربي عن كرامة وليّ من الأولياء). لست في حاجة إلى أن أتحدث عن الولاية والولي الصالح، بيد أني أقول إن الرواية لذة يتوقها القارئ متى صحت المقارنة مع الطبيخ الشهي اللذيذ.
إن من السخف أو البله حقًا أن نسأل الطباخ: ماذا فعلت حتى كان طبيخك على هذا النحو من اللذة؟ ربما كان الطباخ أشد سخفًا وشر بلاهة من السائل إن هو غامر بجواب، أو افتعل جوابًا تحت ضغط السائل وإلحاحه. لا يملك الطباخ أن يجيب عن السؤال، لأن الأمر يتعلق بما لا يمكن التعبير عنه، بما كان إدراكًا من غير توسط والعجز عن الإدراك إدراك، كما يقول الغزالي. قد يحدث للروائي أن يصوغ عمله الروائي( كلاً أو بعضًا) صياغات كثيرة لا يرضى عن أي منها حتى يصل إلى صياغة يقدر أنها الأخيرة من تلك التي تفلح في قول ما كان يود من العبارة أن تسعفه به. إنه، أخيرًا، في حال أشبه بتلك التي تكون عليها السيدة في مطبخها، وقد أدركت بحدسها أن «قد غدت الآن جاهزة» .
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
5 مهارات اجتماعية
علموها لأطفالكم باكراً
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق