الرواية العربية
لا ينقصها الكثير... إنها متطورة وناضجة، تحمل ملامح مجتمعها وهويته إضافة إلى رسالتها الإنسانية... هكذا هي حال الرواية العربية، غزيرة الإنتاج متعددة الاتجاهات، وتخطّت الكثير من الحواجز، وامتلكت قدرًا لافتًا من الشجاعة جعلها المطلب الأول لمقص الرقيب الذي فقد تأثيره في زمن «النت».
لكنها
- أي الرواية - لم تستطع أن تتخطى الحاجز الأكبر، وهو حاجز اللغة، وتلك هي نقطة
ضعفها الحقيقية، لا تستطيع أن توصل مضمونها للآخرين، والأعمال الأدبية التي أفلتت
من هذا الحاجز كان لها وقع طيّب عند الآخرين، بينما بقيت النسبة الكبرى من هذه
الأعمال أسيرة اللغة والحدود الجغرافية.
في البداية علينا أن نلقي نظرة على الرواية العربية... لقد تغيّرت الأولويات، وأصبحت الرواية في مقدّمة الأشكال الأدبية، وهي ليست أفضلها، فالشعر لم يتدهور أو ينقرض، لكنّه توارى قليلًا، والقصة القصيرة لم ينته دورها، لكنّ الشغف بها تراجع مؤقتًا، خاصة بعد رحيل الأسماء الكبيرة، لكن جاء الدور على الرواية، وهي الشكل الأدبي المركّب الجدير بالتعبير عن العالم المعقّد الذي نعيش فيه.
يقول نجيب محفوظ (1911-2006)، وهو أول أديب عربي حائز جائزة نوبل: «ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج إلى فنّ جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخّر الشّعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنّه أرقى من حيث الزمن، لكن تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائمًا للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديث».
الرواية شكل حديث نسبيًا في ثقافتنا العربية، فقد عرفته أوربا مع بداية الثورة الصناعية، عندما خرجت المرأة إلى مجال العمل، وبدأ الاحتكاك المباشر اليومي بينها وبين الرجل، وتولّدت شرارة الصراع بين الطرفين، لكنّ الشكل الروائي لم يصل إلينا إلّا في بواكير العشرين، وكان السائد بدلًا منها أشكال بدائية من السرد الشعبي، مثل سِيَر أبطال الأساطير، الهلالي سلامة، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وغيرها، أشكال من السرد جميعها شفاهية، يرويها رواة شعبيون على المقاهي، وهي أبعد ما تكون عن الشكل الحديث للرواية، لأنها مليئة بالخوارق، بينما الرواية هي - ببساطة - تعبير عن الواقع المعاش.
«زينب» تفتح الطريق
يرى النقاد أن القصة القصيرة هي شكل تجريبي يختزل الأزمنة الثلاثة في لحظة واحدة مركّزة، وتحتوي على أحداث استثنائية في عوالم غريبة، وربما تكون تعبيرًا عن جماعات مغمورة، بينما الرواية شكل تطبيقي، بجسد الواقع المعاش، حتى الرواية التاريخية نفسها هي مجرد قناع يرتديه الكاتب ليتحدث عن مجتمعه المعاصر، والرواية لأنّها شكّل مركب، تستطيع أن ترصد العلاقة بين المال والسلطة وأشياء أخرى في أيّ مجتمع، وهي قادرة على تتبّع مصائر الشخصيات من الميلاد حتى الموت، وتملك عددًا من الشخصيات التي توشك أن تكون حيّة، مثل شخصيات ديستوفسكي وبلزاك ونجيب محفوظ.
يختلف النقاد العرب، كعادتهم، حول ميلاد الرواية العربية، فالغالبية تميل لاعتبار رواية «زينب» هي الأولى، وقد صدرت في مصر عام 1913 بقلم فلاح مصري، وعندما نالت الرواية الإعجاب، وتحدثت عنها بعض الصحف أعاد الكاتب طباعتها، وأعلن عن اسمه، د. محمد حسين هيكل، وهو واحد من الباشوات المفكرين في ذلك الزمن، ومنذ ذلك الوقت تعاد طباعتها بانتظام، لكنّ فريقًا آخر ينسب هذا الفضل لكاتبة أخرى، هي لبيبة هاشم، التي صدرت لها عام 1904 رواية «قلب الرجل»، وهي كاتبة من لبنان عاشت بين بيروت والقاهرة، حيث أصدرت مجلة نسائية استمرت تسع سنوات، قبل أن تسافر مع زوجها إلى البرازيل وتنقطع أخبارها.
«قلب الرجل» هي الأقدم تاريخيًا، لكن هل تركت أثرًا؟ وكان د. هيكل مؤلف «زينب» من الشخصيات الوطنية البارزة، أنشأ جريدة السياسة التي جمعت كتاب عصره، وعلى رأسهم طه حسين، وألّف رواية أخرى بعنوان «هكذا خُلقت»، إضافة إلى كتابه الأشهر «حياة محمد»، ولهذا السبب انتبه الجميع إلى ما قدّمه في «زينب»، أدركوا هناك شكلًا جديدًا أضيف للأدب العربي، وفتح هذا المجال لطوفان من الروايات التي نشاهدها اليوم، وبدأ جيل جديد من الكتّاب يحاول تأصيل هذا النوع الأدبي في التربة العربية، حتى يكون عندنا كتابات جيدة قادرة على مناقشة قضايا العصر.
المتخيل الروائي
الرواية مشروع كبير في الكتابة يستغرق وقتًا وجهدًا، يمكن أن تكون البداية مجرد فكرة ذاتية تعتمد على حسّ الكاتب وثقافته الخاصة، لكن مع التوغل في أحداثها يجد الكاتب نفسه في حاجة إلى معين جديد وروافد إضافية من التاريخ والأساطير والحكايات الشعبية، إضافة إلى معلومات أخرى في السياسة والاقتصاد تساعده على فهم العالم بشكل أعمق حتى يتعرّض لمختلف القضايا، الرواية أيضًا في حاجة إلى مراجع وقواميس وإلى خرائط لو لزم الأمر.
يقول الروائي الكولومبي غابرييل جارسيا مـاركـيز (1972-2014) إنه كان يحتفظ بالقرب من مكتبه، بمجموعة من القواميس، منها قاموس عن أنواع الأسلحة، وعندما يعزم الكاتب أن يكتب رواية تاريخية، على سبيل المثال، فإنّ الأمر يستلزم قدرًا أكبر من الخيال، وهو ما نطلق عليه «المتخيل الروائي»، لأنّ الكاتب عليه أن يبتدع هذا العالم القديم بشخوصه وطقوسه ولغته، وأن يضع تصورًا كاملًا لمكان الأحداث قبل أن يصيبها التطور، كل شيء نسبي، كما يقال، لأنّه لا توجد حقيقة تاريخية مطلقة، وهناك من يقول إن التاريخ شيء لم يحدث والمؤرخ رجل لم يكن هناك، وعلى هذا الأساس فإنّ الرواية التاريخية يمكن أن تعدّ المرجعية الوحيدة على هذه الفترة التي يختارها الكاتب، وعليه محاولة أن يكون خياله أقرب ما يكون إلى منطق الواقعة التاريخية.
تيّار الواقعية
لا يكف الفن الروائي عن التطور، ومَن يتابع الرواية العربية، من أول طه حسين حتى عبدالله العروي، يجد أن كلّ واحد منهما يصنع روايته الخاصة، وقد وضعوا فيها الكثير من أحداث حياتهم وخبراتهم الشخصية، ومن المؤسف أن بعض أدباء الرواية العربية ممن وجدوا مجدهم في الرواية لم يولوا الاهتمام الكافي بالسينما التي ظل مستواها هابطًا، بينما الكتّاب الآخرون عوّضوا أنفسهم من خلال السينما ومسلسلات التلفـزيون، كان تركـيز الرواية في أول الأمر على الأبطال الذين يعانون القلــق والخوف، كانت أعمالهـم حافلة بالأشـبـاح والأرواح الهائمة التي لا تجــد لها مستقرًا أو اللعنات التي تلاحق الأبطال دون خلاص، لكنّ الرواية نضجت وسرعان ما تخلّصت من هذا الهراء، ليسود تيار الواقعية الذي مازال - بشكل أو بآخر - قائمًا حتى الآن، تحــولت الرواية إلــى نافذة نطل منها على الناس في الجانب الآخر، وتطورت الواقعية لتتغلغل في أعماق الشخصية، فهي تعيش لحظة الحاضر، لكن هذا لا يمنعها من تذكّر الماضي ومحاولة توقّع المستقبل، ورغم أن الرواية في المقدمة، فإنها تلقى منافسة شرسة من أشكال فنية أخرى، مثل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وألعاب الكمبيوتر.
الوثيقة الممكنة
السؤال الذي يمكن طرحه الآن، أين تقف الرواية العربية الآن؟ ولماذا ترصد لها الجوائز ويتم الاحتفاء بها بشكل أكبر دون غيرها من الفنون، وهل تستحق ذلك؟
الجواب ببساطة أن الرواية في عالمنا العربي هي الوثيقة الوحيدة الكاشفة، داخل وسط ضبابي يلفّه الغموض، ولا تعرف فيه أي حقيقة مؤكدة، كل الأسرار فيه مخفية، ولا يتم الكشف عن أي وثيقة مهما كانت قيمتها، الرواية فقط هي الوثيقة الممكنة، لقد حاولت الرواية منذ نشأتها أن تواكب الواقع العربي المغلق، وتفسّر قدر جهدها، أمام قارئها، العديد من الأحداث الضخمة وغير المفهومة، تعتمد أحيانًا على الأخبار المتناثرة في الصحف، وعلى الوثائق القادمة من الخارج، وعلى حسّ الكاتب بالمجتمع الذي يحيط به لتقدّم واقعًا مختلفًا ومغايرًا عمّا هو موجود في الكتب المدرسية، في ثلاثية نجيب محفوظ يرصد أحوال المجتمع المصري منذ ثورة 1919 حتى الخمسينيات، من خلال أجيال متعاقبة لأسرة من الطبقة الوسطى.
في روايات غسان كنفاني (1936-1972) يقدّم مأساة الأرض الفلسطينية التي فقدت، وأصبح لديه نوع من الهوس من أجل استعادة خريطة فلسطين القديمة، قبل أن يضع الاحتلال بصمته عليها.
وفي خماسية «مدن الملح» يرصد عبدالرحمن مـــنــيـف (2004-1933) الــتغيرات والتــحــولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة في المدن العربية التي تشكّلت في ظل الاكتشافات البترولية والثروة التي تدفقت عليها.
ويقدّم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل (1940-2018) رواية أشبه بالشهادة المكونة من سبعة أجزاء حملت عنوان «إحداثيات زمن العزلة» عن الأيام الكئيبة التي عاشتها دولة الكويت أثناء الاحتلال العراقي الغاشم، ويكتب إبراهيم نصرالله سلسلة من الروايات بعنوان «الملهاة الفلسطينية» ليقدّم صورة حية ونابضة للحياة اليومية للشعب الفلسطيني على أرض أجداده على مدى قرنين ونصف القرن من الزمن.
وتغوص حنان الشيخ، في «حكاية زهرة»، وغيرها من الروايات، في تفاصيل الحرب الأهلية المروعة التي التهمت أرواح اللبنانيين، وإلى المغرب ليقدّم الكاتب مبارك ربيع ثلاثية «درب السلطان» لإنصاف المدن المغربية التي تنمو منذ فجر الاستقلال حتى الآن.
تخطي حاجز اللغة
لا تكتب الرواية التاريخ، فهذا ليس دورها، لكنّها تحاول سد الكثير من الثغرات الموجودة فيه بسبب غياب المعلومات والوثائق.
لقد تتبّع الروائي قيام النهضة العربية وانحسارها، وتابع الانتصارات والهزائم بوعي وإدراك وتأثر، وكانت صفحاته مرآة للواقع العربي بكلّ ما فيه من إيجابيات وسلبيات، لم تتراجع أمام القضايا ذات الحساسية الخاصة، فالروائي سعود السنعوسي يتعرّض بشجاعة لمشاكل العمالة المنزلية الوافدة في الكويت من خلال رواية «ساق البامبو»، التي تحولت لاحقًا لمسلسل تلفزيوني، وكذلك الحديث عن الفساد السياسي والاجتماعي، كما صوّره علاء الأسواني في رواية «عمارة يعقوبيان»، والتعرّض لما يحدث داخل السجون من انتهاكات، كما في رواية «تلك العتمة الباهرة» للكاتب المغربي الطاهر بن جلون، وكذلك رواية «شرف» لصنع الله إبراهيم، والوقوف ضد الدكتاتورية كما في رواية «القنفد» لإسلام أبو شكير، قضايا كثيرة وحساسة لم تتردد الرواية العربية في ولوجها، وهذه إحدى ميزات الرواية، أنها تقول رأيها مهما كانت الأقنعة التي ترتديها.
يبقى أن وصولها إلى العالمية مرهون بتخطّي حاجز اللغة، وهذا الدور يجب أن تنهض به الدول من خلال إنشاء مراكز الترجمة التي تكون مهمتها الأساسية نقل الرواية العربية للغات الحية لزيادة رقعة انتشارها وبناء الجسور الحضارية مع الثقافات الأخرى.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ
أيضًا
الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً
وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق