رثاء المتنبي لجدته
لا يمكن أن نفهم شعر المتنبي حق الفهم إلا إذا عرفنا شيئًا عن حياة هذا الشاعر العظيم وعن روحه الوثابة واعتداده البالغ بشعريته، وهو اعتداد لا نجد له نظيرًا في شعر القدماء. ولد المتنبي في الكوفة حيث تحيط بمولده شكوك كثيرة، فهناك من يقول: «إنه ابن لأحد كبار أمراء الشيعة في الكوفة، وأن والده لم يرد الاعتراف به علنًا بحكم مكانته ومنصبه».
وهذا هو رأي الأستاذ محمود شاكر. أما طه حسين فقد رأى فيه مجرد ابن لرجل نكرة لا نعرف عنه شيئًا، لكن المؤكد أن المتنبي، وهو أحمد بن الحسين، ولد بالكوفة.
زعم بعض الرواة أن والد المتنبي كان يسمى عبدان، وأنه كان فقيرا، وأنه كان يسقي الماء، ولكن ليس في شعر المتنبي ما يشير إلى شىء من ذلك. كل ما نعرفه أنه ولد بالكوفة، وفيها تعلم القراءة والكتابة في صباه، ثم خرج إلى البادية وخالط فصحاء البدو، وأخذ عنهم اللغة، وعاد إلى وطنه بدويًا قحًا، ثم لازم الوراقين، وقرأ كثيرًا من الكتب، ثم رحل به أبوه إلى الشام وهو في نحو السادسة عشرة من عمره. وقيل إنه خرج إلى بادية السماوة حيث قبائل بني كلب، فأقام فيهم ينشد شعره، فعظم شأنه بينهم، وقويت فصاحته فيهم. وكان يختلف إلى بعض أمصار الشام. ويقال إنه ادعى النبوة، واتبعه من البدو خلق كثير، وخرج إليه أمير حمص من قبل الدولة الإخشيدية، فقبض عليه وسجنه وعذبه عذابًا شديدًا، ثم استتابه وأطلق سراحه، فخرج من السجن، وقد لصق به لقب المتنبي، وكان له كارها.
هكذا ظل اسمه أبو الطيب أحمد بن الحسين، لكن لقب المتنبي غلب على اسمه واسم آبائه. وكل ما نعرفه أن أباه جعفيّ وأمه من قبيلة كندة، وكل ما نعرفه عن أسرته هو احتمالات في احتمالات، فقد ذهب عدد من الدارسين المحدثين إلى أن شعور المتنبي بذاته لا يمكن إلا أن يجعله سليل أسرة علوية متنفذة، وأن أباه من المحتمل أن يكون في منزلة الأمراء. فكل ما في شعره من اعتداد بالذات وإباء وبحث دائم عن المعالي، وفخره المتزايد بنفسه، جعل الأستاذ محمود شاكر يستنتج أنه ولد لأحد أمراء الشيعة، وأنه لسبب أو آخر ترك مع جدته التي رعته بدل أمه، فأصبحت العلاقة بين الجدة والحفيد هي علاقة محبة خالصة ووفاء نادر.
ومن المؤكد أن هذه الجدة كانت تحبه كل الحب، وأنها عطفت عليه كل العطف، وصار أثيرًا عندها إلى درجة من المحبة أعمق من تلك المحبة التي تربط بين الولد وأمه، ولذلك لا يتردد في القصيدة التي يرثيها فيها بأن يسميها أمه، فهي أمه الحقيقية، فقد كانت تحبه كما لو كان هو ابنها الأوحد، وتغرقه من المحبة ما ظل أنيسًا له في مغامراته وارتحاله بين الأمراء، طمعًا في العطايا والثروة، ولكن بما لا يقلل من اعتداده بنفسه وإيمانه الدائم بأنه أرفع قدرًا من ممدوحيه الذين اضطره الزمن إلى مدحهم. ورغم أنه وجد بغيته في بلاط سيف الدولة الحمداني، فإنه سرعان ما وجد من الأعداء ما بغض إليه الحياة في بلاط سيف الدولة الحمداني، وكان من أكثر أعدائه لددًا في الخصومة وذمًا له عند سيف الدولة الحمداني نفسه، أبو فراس الحمداني، الشاعر الذي كان يشعر بالغيرة من عظمة شعــر المتنبي بالقيــــاس إلى شعـــــــــره. وقـــد وقـــف إلــى جانب أبي فراس، ابن خالويه النحوي. وكلاهما أفلح في النهاية في أن يوغر صدر سيف الدولة على المتنبي. ولم يجد المتنبي بُدًا من هجر بلاط سيف الدولة الذي أصبح يعامل المتنبي معاملة الأنداد، وكان هذا ما يسعد الشاعر من أميره، ويدفعه إلى الإخلاص في مدحه.
وبالفعل كتب المتنبي أعظم قصائد المديح في سيف الدولة واصفًا حروبه وانتصاراته على جنود الدولة البيزنطية. ومن المؤكد أن أيامه مع سيف الدولة كانت هي أجمل الأيام في حياة المتنبي القصيرة نسبيًا منذ أن ولد سنة 303 في مطلع القرن الرابع للهجرة، إلى أن قتل سنة 354 للهجرة دون أن يجاوز الخمسين عامًا إلا بعام، لكنه لم يمت إلا بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس.
المهم أن المتنبي في ظل حياة الرفاهية التي عاش فيها في بلاط سيف الدولة واقترابه الحميم من عائلته، وذلك إلى درجة أن الأستاذ محمود شاكر استنتج علاقة حب مكتومة بينه وأخت سيف الدولة. وكان دليله على ذلك القصيدة التي رثاها بها المتنبي. أما عن رثائه لجدته فلأنها هي التي رعته وربته وحمته بعد أن أودعه أبواه في حماها، وكانت تتشوق إليه على الدوام، وتتابع أخباره وتفرح لنجاحه وتحزن لأحزانه، يتبعه قلبها ودعواتها في كل مكان حل فيه. ويبدو أنه كتب إليها بعد إلحاح منها للاطمئنان عليه، فرد عليها بكتاب، فلما وصلها الكتاب، قبّلته وفرحت به فيما يقول العُكبري في شرحه لديوان المتنبي. ويبدو أن ذلك كان في الفترة التي ترك فيها سيف الدولة ذاهبًا إلى مصر. فلما بلغ المتنبي أن خطابه قد أصاب جدته بالفرح الغامر، إلى درجة لم يحتملها قلبها الضعيف، فكتب فيها هذه القصيدة. وهي قصيدة في الرثاء يعبر فيها عن مشاعره الصادقة إزاء فقد الجدة التي كان يرى فيها الأم التي لم يعرفها، والأب الذي سرعان ما تركه في رعاية جدته.
وسواء كان هذا الأب أميرًا شيعيًا أو سقاء في الكوفة، فإن الذي قام بتربية أحمد بن الحسين، هو جدته التي أصبحت أمه، ولذلك يكتب فيها هذه القصيدة التي أحب أن أقرأها معكم:
ألا لا أُرى الأحداثَ حمدًا ولا ذَمّا فَما بَطشُها جَهلًا ولا كفُّها حِلمَا
إلى مثلِ ما كانَ الفتى مرْجعُ الفتى يَعُودُ كمَا أُبْدى ويُكرِى كما أرْمَى
لَكِ الله مِنْ مَفْجُوعَةٍ بحَبيبِها قَتيلَةِ شَوْقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصْمَا
أحِنّ إلى الكأسِ التي شرِبَتْ منها وأهوى لمَثواها التّرابَ وما ضَمّا
بَكَيْتُ عَلَيها خِيفَةً في حَياتِها وذاقَ كِلانا ثُكْلَ صاحِبِهِ قِدْمَا
ولوْ قَتَلَ الهَجْرُ المُحبّينَ كُلَّهُمْ مضَى بَلَدٌ باقٍ أجَدّتْ لَهُ صَرْمَا
عرَفْتُ الليالي قَبل ما صَنَعَتْ بنا فلَمَا دَهَتْنى لم تَزِدْني بها عِلْمَا
مَنافِعُها ما ضَرّ في نَفْعِ غَيرِها تغذّى وتَرْوَى أن تجوعَ وأن تَظْمَا
أتاها كِتابي بَعدَ يأسٍ وتَرْحَةٍ فَماتَتْ سُرُورًا بي فَمُتُّ بها همّا
حَرامٌ على قَلبي السّرُورُ فإنّني أعُدّ الذي ماتَتْ بهِ بَعْدَها سُمّا
تَعَجَّبُ مِنْ خَطّي ولَفْظي كأنّها ترَى بحُرُوفِ السّطرِ أغرِبةً عُصْمَا
وتَلْثِمُهُ حتى أصارَ مِدادُهُ مَحاجِرَ عَيْنَيْها وأنْيابَها سُحْمَا
رَقَا دَمْعُها الجاري وجَفّتْ جفونها وفارَقَ حُبّي قَلبَها بَعدمَا أدمَى
ولم يُسْلِها إلاّ المَنَايا، وإنّمَا أشَدُّ منَ السُّقمِ الذي أذهَبَ السُّقْما
طَلَبْتُ لها حَظًّا، فَفاتَتْ وفاتَني وقد رَضِيَتْ بي لو رَضيتُ بها قِسْمَا
فأصْبَحتُ أسْتَسقي الغَمامَ لقَبرِها وقد كنْتُ أستَسقي الوَغى والقنا الصُّمّا
وكنتُ قُبَيلَ الموْتِ أستَعظِمُ النّوَى فقد صارَتِ الصّغَرى التي كانتِ العظمى
هَبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ منَ العِدَى فكيفَ بأخذِ الثّأرِ فيكِ من الحُمّى؟!
وما انسَدّتِ الدّنْيا عليّ لضِيقِهَا ولكنَّ طَرْفًا لا أراكِ بهِ أعمَى
فَوَا أسَفا ألّا أُكِبَّ مُقَبِّلًا لرَأسِكِ والصّدْرِ الذَي مُلأ حزْمَا
وألا أُلاقِي روحَكِ الطّيّبَ الذي كأنّ ذكي المِسكِ كانَ له جسمَا
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ
لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
لَئِنْ لَذّ يَوْمُ الشّامِتِينَ بيَوْمِهَا لَقَدْ وَلَدَتْ مني لأنْفِهِمِ رَغْمَا
تَغَرّبَ لا مُسْتَعْظِمًا غَيرَ نَفْسِهِ
ولا قابِلًا إلا لخالِقِهِ حُكْمَا
ولا سالِكًا إلا فُؤادَ عَجاجَةٍ ولا واجِدًا إلا لمَكْرُمَةٍ طَعْمَا
يَقُولونَ لى: ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ؟ وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى
كأنّ بَنيهِمْ عالِمُونَ بِأنَّنِي جَلُوبٌ إلَيهِمْ منْ مَعادِنه اليُتْمَا
وما الجَمْعُ بَينَ الماءِ والنّارِ في يدي بأصعَبَ من أنْ أجمَعَ الجَدّ والفَهمَا
ولكِنّني مُسْتَنْصِرٌ بذُبَابِهِ ومُرْتكِبٌ في كلّ حالٍ به الغَشمَا
وجاعِلُهُ يَوْمَ اللّقاءِ تَحِيّتي وإلا فلَسْتُ السيّدَ البَطَلَ القَرْمَا
إذا فَلّ عَزْمي عن مدًى خوْفُ بُعده فأبْعَدُ شىءٍ ممكنٌ لم يَجِدْ عزْمَا
وإنّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنّ نُفُوسَهُمْ بها أنَفٌ أن تسكنَ اللّحمَ والعَظمَا
كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي ويا نَفسِ زيدي في كرائهِها قُدْمَا
فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّنى ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا
ومن السهل أن يرى القارئ نبرة الحزن التي تتخلل الأبيات السابقة، ويمكن له أن يرى الفلسفة اللا مبالية بكوارث الحياة التي قلبت حياة المتنبي إلى هم وحزن في أغلب الأحوال، وقد عبر عن ذلك تعبيرًا لافتًا عندما قال في قصيدة أخرى:
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ
فهو هنا يبدأ قصيدته بموقف حيادى، إذ لا يمدح الكوارث أو الأحداث ولا يذمها، فإن الأحداث أو الكوارث إذا بطشت بنا، لم يكن ذلك جهلاً منها، وإن كفت عن الضرر لم يكن ذلك حلمًا منها؛ لأن الفعل في ذلك كله لله عز وجل. وإنما تنسب الأفعال إليها على سبيل المجاز والاستعارة. هكذا خلق الله الخلق وبدأهم على نحو جعل كل واحد من خلقه لا بد له من أن ينقص كما يزيد، فلا ذنب للمصائب حتى يذمها الشاعر أو يمدحها. وينتقل إلى جدته قائلاً في صيغة تعجب لافتة، واصفًا إياها بأنها مفجوعة بحبيبها، قتيلة شوق يشرفها ويشرف هذا الحبيب الذي قتل جدته شوقها إليه، كما لو كانت قد اشتاقت من تُثاب على شوقه وليس أجرها إلا بالصبر عليه، ولا يملك حفيدها إلا الصبر على ما أصابه من موتها، ولذلك يحن هذا الحبيب إلى كأس الموت التي شربت منها جدته، ويهيل على قبرها التراب الذي ضم جسدها الذي كان أحن عليها من الحياة التي عاشتها، فتحملت شوقها إليه واغترابه الدائم عنها.
وتصبح القصيدة أكثر ذاتية عندما نصل إلى البيت الخامس، فيحدثنا الشاعر عن بكائه على جدته في حياتها خوفًا عليها من الموت، ولكن الموت كان أقرب إليها من شوقه. وكعادة المتنبي يردف المعنى بما يؤكده في نوع من الحكمة التي يحملها البيت السادس، مؤكدًا أنه لو كان الهجر يقتل كل محب، لقتل بلدها. والمقصود هو أن البلد الذي كان يحبها لافتخاره بها، لكن الهجر يقتل بعض المحبين دون البعض الآخر. ونصل إلى البيت السابع الذي يشرحه القدماء بقولهم: «منافع الأحداث أن تجوع وأن تظمأ»، وهذا ضار بغيرها، لأن جوعها وعطشها، أن يهلك الناس، فتخلو منهم الدنيا، كقوله: «كالموت ليس له ريٌّ ولا شبع». وقد ذهب ابن فورجة إلى أن الضمير في «منافعها» في الجدة المرثية، يعني أنها كانت قليلة المطعم، تؤثر بطعامها على نفسها، وتجوع لينتفع غيرها، ثم جعل المصراع الثاني مفسرًا للأول، لكي يؤكد أن غذاءها في جوعها، وريها في عطشها؛ لأن سرورها بإطعام غيرها يقوم مقام شبعها وريها.
فرحة هائلة
وينتقل المتنبي بعد ذلك إلى الحديث عن نفسه، فيتحدث عن الليالي التي عرفها كما عرفته فازداد خبرة بها وقلّت دهشته منها، فلما أصابته هذه الليالي بفقد جدته لم يندهش؛ ذلك لأنه أعلم دائمًا بكل ما يمكن أن تصيبه به الليالي من الكوارث التي كانت تدفعه إلى سوء الظن الدائم بهذه الليالي التي لم يزده حزنه على جدته علمًا بما تصنع الأيام. وينتقل بعد ذلك إلى الأثر الذي أحدثه كتابه في جدته بعد حزن ويأس، فماتت سرورًا بخطابه إليها، بينما مات غمًا وهمًا من حزنه عليها. وإذًا، فحرام على قلبه السرور، فهو يرى أن الذي ماتت به جدته، هو سم من سموم الحياة التي لا تأتيه أبدًا بالفرج. ثم يعود إلى مشهد الموت نفسه، فيرى أن جدته تعجبت من خطه ولفظه في رسالته إليها، كأنها كانت ترى في أحرف الرسالة أغربة سوداء، فالجدة العزيزة لم تزل تقبّل كتابه، وتضعه على عينيها، حتى اسودّ ما حول عينيها وأنيابها بمداده، كما لو كان هذا المداد هو السم الذي قتلها من الفرحة الهائلة التي لم يحتملها قلبها. ولم ينقطع الدمع إلا بعد أن قطع أنفاسها، فيبست دموعها الجارية وجفت جفونها المليئة بالدمع، ففارق حب الحفيد قلبها بعد أن أدماه وأوقفه عن الخفقان، فتوقف القلب، ولم يذهب الأثر المفاجئ الذي يختلط فيه الفرح بالترح إلا بالموت، ذلك الموت الذي أنساها من تحب، وأذهب بحزنها مما هو أشد من الحزن، فلم يعد أمام الحفيد العاشق إلا أن يطلب السُقيا من الله بالمطر على قبرها. وينتقل بذلك إلى المفارقة التي تضم نوعًا من التضاد أو المقابلة بين الدعاء بالسُقيا للقبر بعد أن كانت السُقيا للحفيد هي الحرب. والحق أن البيت:
فأصْبَحتُ أسْتَسقِي الغَمامَ لقَبرِها وقد كنْتُ أستَسقي الوَغى والقنا الصُّمّا
فيه شيء من طرائق أبي تمام فيما يسميه أستاذنا شوقي ضيف بـ «نوافر الأضداد»، وهي النوافر التي يكملها البيت التالي:
وكنتُ قُبَيلَ الموْتِ أستَعظِمُ النّوَى فقد صارَتِ الصّغَرى التي كانتِ العظمى
حيث يلفتنا التقابل ما بين الشطر الأول من البيت, حيث كان الحفيد يستعظم فراقه عن جدته، فصار هذا الاستعظام هينا بعد موتها، إذ صارت حادثة الفراق عند موتها صغيرة، وكانت قبل ذلك عظيمة، فصار موتها أعظم من فراقها.
هكذا ننتقل إلى القسم الأخير من القصيدة، مسترجعين أن القسم الأول لم يكن ذاتيا بالمعنى البسيط، وإنما كانت أحزان الذات تختلط بنظرتها إلى العالم، تلك النظرة التي لا تخلو من تفلسف ومن نظرة متشائمة، يستوي عندها الحزن أو الفرح كما تستوي لديها المصائب والأحزان والأفراح. فكل ما في الحياة، من فرح أو حزن إلى زوال، أو كما يقول أبو العلاء بعد ذلك، وقد تأثر بالمتنبي كل التأثر:
وشبيهٌ صوت النعىّ إذا قِيـ س بصوت البشير في كل ناد
ونعود إلى قصيدة المتنبي لكي نرى قدرته الفنية البارعة على تجسيد المعنوى، خصوصًا عندما يتحدث مخاطبا جدته قائلا:
هَبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ منَ العِدَى فكيفَ بأخذِ الثّأرِ فيكِ من الحُمّى؟!
وما انسَدّتِ الدّنْيا عليّ لضِيقِهَا ولكنَّ طَرْفًا لا أراكِ بهِ أعمَى
فهذان البيتان يحملان من مشاعر الحب ومن الموهبة الشاعرية ما يلفت الانتباه، وما تتحول به المعنويات إلى محسوسات تثير الإعجاب والتعجب في آن، وإلا فما معنى أخذ الثأر من الحُمى؟! والثأر صراع في النهاية ضد البشر، ولكن الصراع ضد الحمى أو ضد الموت هو صراع محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ، كما يكتمل البيت الذي يردنا إلى إحساس الحفيد بضيق الحياة بعد أن ذهبت الجدة الحانية وتركته، فيلجأ إلى المقابلة بمعناها البلاغي، حيث يقابل بين انغلاق الدنيا على الكائن لضيقها الذي لم يحدث في حالة الشاعر، ولكن العين التي لم تعد ترى هذه الجدة حية نشطة محبة مقبلة بالابتسامة الحانية على الحفيد، هي حياة لا تستحق أن تُرى، ولذلك يحق للمتنبي أن يعبر عن حزنه البالغ، لأنه لم يكن موجودًا عندما ماتت هذه الجدة، فلم يجد الفرصة لينكب على رأسها مقبّلاً إياها، وعلى صدرها الذي امتلأ بالحزم والعقل، فلم يستطع أن يضمها إليه معبرًا عن حبه لهذه السيدة العظيمة التي لم يجدها سوى جثة مدفونة في قبر لم يُبق منها سوى روحها الطيب، الذي كان يتجسد في جسد زكي الرائحة وزكي السيرة العطرة في الوقت نفسه.
بيت القصيد
ثم نصل إلى بيت القصيد كما يقال، وهو البيت الذي يظهر فيه اعتداد المتنبي بنفسه التي كان يراها تعلو كل شيء، فيقول لجدته:
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
والبيت طبيعي من الشاعر الذي قال عن نفسه:
أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ
أَنـامُ مـلءَ جفونـي عَـنْ شوارِدِهـا ويسهـرُ الخلـقُ جَرّاهـا وَيَخْـتصِـمُ
وهو الذي قال في شبابه:
لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي
كما يقول في موضع آخر من ديوانه:
وَمَا الدّهْرُ إلا مِنْ رُواةِ قَصائِدي إذا قُلتُ شِعرًا أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّرًا وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
وهو نفسه الذي قال:
أيّ مَحَلٍّ أرْتَقي؟ أيّ عَظيمٍ أتّقي؟
وَكُلّ مَا قَدْ خَلَقَ اللّـ ـهُ وَما لَمْ يُخْلَقِ
مُحْتَقَرٌ في هِمّتي كَشَعْرَةٍ في مَفْرِقي
هذا المتنبي المتكبر الذي يصل اعتزازه بنفسه إلى درجة الغرور، هو نفسه الذي لم يملك إلا أن يقول في رثاء جدته:
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
وتمضي القصيدة إلى نهايتها مكررة هذه النبرة المتعالية للذات التي لا تستعظم إلا نفسها، ولا تقبل على نفسها الضيم، وترفض أي حكم غير حكم الله، أما هي في علاقتها بالبشر، فهي تتغرب وتتوحد ولا تستعظم غير نفسها في دروب الطريق القاسي الذي اختارته لنفسها، وفي مسالك الحرب التي اختارت أن تمضي في غبار معاركها. وينقل المتنبي عن الآخرين سؤالهم إياه، من أنت؟ وما تبتغي من الدنيا؟، فيجيب عليهم: «ما أبتغي أعظم من أن أسميه». فهو لا يكف عن السفر والاغتراب؛ لأنه يبحث عن تحقيق حلم عزيز المنال. وهو يعرف أن الآخرين يكرهونه حسدًا لما وهبه الله من موهبة عظيمة، ولما عنده من قدرة تجمع بين الأضداد، ولا تتردد في مواجهة الصعاب التي لا يقدر عليها سواه، فهو قادر على الجمع في يديه بين الماء والنار، كما هو قادر على أن يجمع في ذهنه بين أعلى درجات الحظ وأعلى درجات الجد والاجتهاد والمعرفة، ولذلك يمضي في متاهة الحياة، متوحدا، مستنصرًا بذبابة سيفه، فهو يطلب النصرة بالسيف، ذلك الذي يوقع به الظلم على كل من حاربه من أعدائه. هكذا يجعل السيف تحيته للأعداء عند اللقاء، وإلا لم يكن المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
عزم شديد
ولا غرابة في ذلك، فمن لم يكن عنده عزم شديد لا يمكن أن يصل إلى شيء، فوجود الممكن مع غياب العزم أبعد في الوقوع من وجود عزم مع بعد الهمة أو المطلب. وإذا كان الإنسان يحتاج إلى العزم لنيل القريب، فالعزم على نيل البعيد أكثر ضرورة وأهمية. وإذا فعل الإنسان ذلك لن يمنعه شيء من تحقيق غاياته. ولا غرابة في ذلك، فالمتنبي من قوم كأن نفوسهم تأنف العار، وتستنكف أن تبقى مجاورة للحم والدم. فهم قوم يحبون القتال ويسارعون إلى الحرب ويبذلون أنفسهم دون خشية شيء حتى الموت، بل يطلبون الموت طلبًا للبقاء في الذاكرة وأحاديث الناس.
هكذا نصل إلى البيت الذي يمثل ذروة من ذرى هذه القصيدة الجميلة:
كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي ويا نَفسِ زيدي في كرائهِها قُدْمَا
فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّني ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا
وهما بيتان يمثلان ذروة القصيدة، حيث يقدم المتنبي نفسه إلى دنياه متحديًا إياها إذا شاءت تسعده، فلتفعل، وإلا فلا لوم عليه أو عليها. المهم ألا تعبر به سالمة لا يتحقق فيها كل إمكانيات الحضور، والأكثر أهمية أن تظل في نفسه وفي صدره مهجة لا تقبل الضيم أو الظلم. وينثر العكبري المعنى الأخير للبيت بقوله: «لا بقيت بي ساعة لا أنال فيها العز، ولا غبرت( مرت) علي ساعة لا أكون عزيزا، ولا صحبتني نفس تقبل الذل، يدعو على نفسه». والحق أن المتنبي لا يدعو على نفسه كما يقول العكبري، وإنما يفخر بنفسه الأبية العالية التي لا تقبل إلا المرتبة الأولى، وإلا فلا، فهي نفس حرة لا تقبل إلا الحرية، وهي نفس أبية لا تقبل إلا ما يرضى كبرياءها، ولا تقبل في أي زمن إلا ما يحقق حضورها الأكمل، فهي نفس تأبى الظلم. هذه النفس الأبية لا تقبل حتى لحظات ضعفها التي يمكن أن تدفعها إلى التنازل، فإما أن توجد هذه الذات في تمام حضورها، وإلا فالرفض الحاسم لما يمكن أن تكون عليه هذه الذات من هوان حال على نفسها أو غيرها.
قد نقول إن المتنبي تحدث عن نفسه بقدر ما تحدث عن جدته، ولكن علينا ألّا ننسى الجزء الفلسفي في هذه القصيدة التي يؤكد مطلعها استواء المصائب مع الأفراح والأحزان مع الأفراح، فكل شيء عند النفس الكبيرة التي عركت الحياة ينتهي إلى نتيجة واحدة هي الموت. وهذا هو المعنى الذي يسير فيه أبو العلاء المعري على طريق المتنبي، خصوصا عندما يقول:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعىّ إذا قِيـ
سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْـ نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
ونحن نعرف من تقاليد التاريخ الأدبي في الشعر العربي، أن أبا العلاء كان مفتونًا جدًا بشعر المتنبي إلى الدرجة التي كان يطلق فيها على شعره: «معجز أحمد». والواقع أن قصيدة المتنبي في رثاء جدته، هي إحدى عيون الشعر العربي الذي ينبغي أن يدرس وأن يعاد درسه تفسيرًا وتأويلاً بكل الطرق النقدية الممكنة. ولذلك بدأت بما أذكره من هذا الشعر كي أنتقل منه إلى غيره من القصائد التي أسست مكانة المتنبي، وجعلته عند البعض أعظم شعراء العرب قاطبة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
لماذا تكون الجبال أكثر برودة من الأماكن الأخرى
إرهاق العمل وكيف يقتلنا الروتين
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق