الخميس، 16 يونيو 2022

• نفثة بديعة من سِحْر المتنبي


سِحْر المتنبي

مما وصلنا عن حبيبنا رسول الله قوله: «إن من البيان لسحراً»، صدق رسول الله، ولا شك في أن المتنبي هو من كبار السحرة في عالم البيان، فقد أودع في بيانه من ضروب البلاغة والبيان ما يندر أن نراه لدى شاعر آخر، فضلاً عن أن الله قد جمع له مع موهبته البيانية الفذة، قدرته الفائقة على توظيف تلك الموهبة، في التعبير عن مختلف المعاني.

 وأبدع بشكل خاص في صياغة معاني الحكمة، حتى أحصى النقاد في ديوانه مئات الأبيات، التي ذهبت أمثالاً، يرددها الناس على مر  العصور، وذلك لجمال معانيها، وحسن بلاغتها، وسحر بيانها.

يقول أبو البقاء العكبري في شرحه لديوان المتنبي: «وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد أن لأبي الطيب نوادر لم تأتِ في شعر غيره، وهي مما تخرق العقول»، ويضيف بعد أن يذكر عشرات الأمثلة: «وإنما ذكرناه مجملاً ليسهل أخذه وحفظه، ولو تصفحت دواوين المجيدين المولدين والمحدثين لم تجد لأحد منهم بعض هذا إلا نادراً، ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء».

ومن نفثات سحر المتنبي البياني، قوله في بيتين فريدين رائعين، جمع فيهما حصافة الحكمة وجمال البيان:

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي     المجد للسيف ليس المجد للقلم

اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به     فإنما نحن للأسياف كالخدم

ولو تأملنا في هذين البيتين، نجد أن روعتهما لا تقتصر على المعنى الجميل، ولا على الحكمة البالغة، بل أيضاً على طريقة المتنبي في إيصال هذا المعنى، فقد بدأهما بحرف الغاية «حتى»، متبوعاً بكلمة «رجعت»، ليقول للسامع إن الحكمة التي سيتلوها هي نتيجة خبرة طويلة ومعاناة شديدة، ورحلات عديدة، رجع بعدها بهذه الحكمة، ثم لم يشأ أن يقول المعنى بشكل مباشر، بل جعله على لسان أقلامه، هي التي تقول، فجعل الأقلام أحياء شاخصة تتكلم وتحكي خبرتها، وجعلها بصيغة الجمع، فلم يقل «قلمي» بل قال «أقلامي»، وذلك للدلالة على اشتمالها على كل أنواع العلوم، فكل العلوم والمعارف تعترف بأنها ما لم تكن محاطة بشوكة تحميها، وقوة تنصرها، وسلطان يتعهدها، فلا تستطيع أن تكون مؤثرة، كما أنه لم يقل «تقول لي»، فالفعل يدل على حدث ربما كان عارضاً، بسبب تجربة معينة قد لا تتكرر، ولكنه قال «قوائل» بالصيغة الاسمية، التي تدل على الثبوت والديمومة، فهي دائما قوائل، ومعترفة بفضل القوة على العلم في كل وقت وحين،  مهما كانت الظروف، وليس بسبب عارض اختبره الشاعر.

ومن أكثر الأمور روعة في هذين البيتين، أن حقيقة فضل السيف على القلم، تعترف بها الأقلام، فلو كان الكلام بلسان السيف لقال السامع: «السيف يطري نفسه وقد يكون زعماً لا صدق فيه، ذلك لأن مادح نفسه كاذب ولو صدق»، ولو كان الكلام بلسان الشاعر لقال السامع: «ذاك رأي الشاعر قد يصيب وقد يخطئ»، أما أن يكون الاعتراف بلسان الأقلام لمصلحة السيوف، فلا يسع السامع إلا أن يقبل المعنى، لأن المهزوم يعترف لخصمه ويقر بتفوقه وسبقه، وهل هناك أقوى أثراً من شهادة للمليحة تشهد بها ضرتها؟

ومليحة شهدت لها ضراتها      والفضل ما شهدت به الأعداء

ومن جميل البلاغة، أن المعنى جاء وكأنه إنكار على من يدعي أن المجد للقلم، فبدأ بإثبات المجد للسيف، ثم عاد فنفى أن يكون المجد للقلم، ولو كان ترتيب الكلام بشكل معاكس لما شعرنا بهذا المعنى.

هذا وإن الشاعر لو سكت بعد تقرير تلك الحقيقة، أي لو سكت عند قوله «المجد للسيف ليس المجد للقلم»، لكنا اتهمناه بإنكار أهمية العلم والأدب وسائر المعارف، ولكنه فطن لذلك، فاستدرك في البيت الثاني، وأكد أنه لا بد من الأقلام، لا بد من العلم والمعارف، ولكن من بعد التمكين لها بالقوة والسلطان، ولله دره عندما قال «أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به»، ولم يقل، «بعد القتال به»، ولو قال ذلك، لما زاد على أن جعل السيف أداة للقتل وللبطش، ولكنه لما قال عن السيف «بعد الكتاب به»، جعله كالقلم، أداة لكتابة الحضارة والمجد والتاريخ، وليس أداة قتل وبطش، وما أحسن السيف إذا وضع في موضعه الصحيح، لنصرة الحق وحماية الحضارة، وما أشد سوءه إن كان أداة قتل وكفى، وقد جعله المتنبي بكلمة واحدة في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، هي كلمة «الكتاب» بدل «القتال»، ليطلق بذلك العنان لخيال السامع، حتى يتخيل ما يمكن أن يكتبه السيف، فهو أداة  حضارية، لا وسيلة قهرية.

على أنه رغم ذلك لم يغمط حق الأقلام وقدرها، أي حق العلوم والسياسة والأدب وغيرها، فكلمة «أبداً» في قوله «اكتب بنا أبداً»، تدل على أنه لا بد من القلم، دائماً وأبداً، ولكن بحماية القوة والسلطان، ولم يحُطَّ من قيمة القلم بجعله خادماً مطلقاً للسيف، بل قال «كالخدم»، فمكانة الأقلام وما ترمز له عظيمة، ولا يليق بها أن تكون خدماً للسيف، ولكنها «كالخدم»، تدعمه وتنصره وتسهل أمره وتيسر له بلوغ أهدافه، ولو قال على لسان الأقلام: «نحن للسيوف خدم»، لكان في ذلك انتقاص من قيمة الأقلام وما تمثله.

صدق رسول الله ، «إن من البيان لسحراً» .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًاقصة                                    

عندما يصبح الأهل محتاجين إلى رعاية أبنائهم

فوائد قراءة القصص للأطفال قبل النوم

سبع خطوات للتعاطف مع الذات عند الشعور بالاكتئاب

سيكولوجية السلوك المستدام

هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق