السبت، 9 يوليو 2022

• مي وجبران بين المدّ والجزر أو الحب الملتبس


جبران ومي

رسائل جبران ومي زيادة نعمة على الأدب والشعر بشكل عام، وفن الرسائل بشكل خاص، فقد قدم هذا النسيج العاطفي العلائقي الإنساني الاجتماعي سمطاً من الأدب الجميل الراقي، الذي كان يتجول بين القاهرة ونيويورك، حاملاً المشاعر والأحاسيس والقصص والحِكم، وغير ذلك من صنوف المعارف والآداب...

 فإلى أي حد لعب هذا النسيج الأدبي العاطفي دوره في حياة كل من مي وجبران؟

استعرت العلاقات العاطفية برغم البعد الشاسع بين الكاتبة الفلسطينية - اللبنانية مي زيادة، والأديب اللبناني المقيم في نيويورك آنذاك جبران خليل جبران، وقد ترجمت هذه العلاقات بمجموعة الرسائل التي تبادلها الحبيبان على مدى عشرين عاماً تقريباً، ولم تنقطع سنة واحدة، وفي علم الذين يحسنون تفسير الأحلام، كان أول منام يراه جبران منذ الوهلة الأولى مقلقاً ومتعباً، يحمل القادم المتاعب والصعاب، يقول جبران في رسالة بعثها لها:

«يا صديقتي مي، استيقظت على حلم غريب ورأيتك تقولين كلمات حلوة ولكنْ بلهجة موجعة، الأمر الذي يزعجني في هذا الحلم هو أني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً، وهذا نذير شؤم، إن هذا يوحي بحصول شيء سيئ في المستقبل». وبقراءة عامة لرسائل جبران ومي، تتضح طبيعة هذه العلاقات التي انتهت بموتها، وإذا كان نصيبهما ألا يلتقيا في الحياة، فلربما يلتقيان في العالم الآخر، وكم دعته لزيارة القاهرة «تعال يا جبران، زُرنا في القاهرة، لماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك، تعال يا صديقي تعال، فالحياة قصيرة، وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والحب، إلا أن جبران لم يستجب».

ولو تتبّعنا سياق الرسائل لرأينا في معظمها تقريعاً أو لوماً أو موقفاً من مي تجاه جبران، علاوة على إشارات من ردودها تظهر أنها تخاف الحب، تقول في إحدى الرسائل «لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي».

لقد كان الحب بينهما جافاً جارحاً بل مستغرباً بعض الأحيان، وتظهر الحيرة والقلق والضياع في تقاسيم مي زيادة منذ الرسالة الأولى، فهي عائمة فوق بحر من القلق والحيرة، وقد رافق هذا الأسلوب معظم رسائل جبران.

كانت الرسائل ميداناً يكشف فيه جبران عن مشاعره الدفينة، ففي نفسه قلق حيرة وشك. وبرغم أن كليهما أديب وشاعر وفنان، إلا أنهما لم يستطيعا تحقيق الحلم الذي رسماه على الورق وفي المخيلة، وظل حلماً في البال.

كيف بدأ التواصل بينهما؟

كانت مي منطلق التعارف، إذ خطت له أول رسالة بعد ذيوع صيته في أمريكا، تُعَرِّفُ فيها عن نفسها وتود التعرف إليه، ومما خاطبته في هذه الرسالة سيرة حياتها وخواطر عن نتاجها النثري والشعري وأسلوبها في الكتابة، كان ذلك في 16 مارس 1912م، وقد بادل جبران الجميل بجميل، فبعث لها برسالة جوابية شاكراً اهتمامها، ومطرياً على حسن ذوقها، وأردف مع الرسالة نسخة من كتابه الصادر آنذاك «الأجنحة المتكسرة».

كانت مي آنذاك في السادسة عشرة وجبران في التاسعة عشرة، هكذا بدأ قطار التعارف «وانطفأت سكته عندما توفي جبران في نيويورك سنة 1931م»، وبدأت الرسائل تتوالى بينهما منذ ذلك التاريخ، والتي كانت نعمة على الأدب العربي وعلامة مضيئة في تاريخ الشعر المهجري. حتى أن معظم الأدباء والمفكرين يبالغون في وصف علاقة جبران بمي ويعتبرونه فارس القلب والمخيلة وفتى أحلام لا يضارع. ويدحض هذه الفرضية وقائع شتّى، منها: أن مي وبعد رسالة عاطفية من جبران يعرض عليها فيها الزواج، قائلاً لها بالفمّ الملآن: أنا ضباب يغمر الأشياء ولا يتحد وإياها، ومشكلتي بل مصيبتي هي أن الشباب وهو حقيقي يتوق إلى ضباب آخر، يتوق إلى سماع قائل يقول: «أنت لست وحدك نحن اثنان، أنا أعرف من أنت»، ثم تابع عارضاً عليها مشروع الزواج، لكنه فوجئ بموقف صاعق يتناقض مع ما كان يتوقعه منها، فقد سطّرت له جواباً اعتذرت فيه عن عدم قبول عرضه الزواج منها، وقالت له، أنت القريب الذي كنت لي أباً وأخاً وصديقاً، ثم تدعوه إلى زيارة القاهرة، قائلة: لماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد»؟.

كانت محصلة رسائل جبران موجات عاطفية كموج البحر، صاخباً حيناً وهادئاً حيناً آخر، إلاّ أنه ليس إلا زبد يتكسر على الصخور والمنعطفات، كان يرسل ما يكتبه مستمزجاً رأيها، وتلك خصيصة وتقدير منه إليها، كان يتحدث لها عن نفسه، وهو يرى أنهما التقيا، إنما بين الكلمات، كما في مخاطبته لها: ألا تذكرين ذهابنا معاً إلى المعرض، وانتقالنا من صورة إلى صورة، هل نسيتِ كيف سرنا ببطء في تلك القاعة الواسعة، نستسقي ما وراء الألوان والخطوط من الرموز؟ هل نسيتِ ذلك «إنه الذهاب واللقاء الروحيين»؟ أنتِ حاقدة ناقمة عليّ، ولك الحق ومعك الحق، وما عليّ سوى الامتثال، وواضح كم تحمل هذه الكلمات من مرارة داخلية.

كان حبهماً جارحاً ومستغرباً، وتظهر الحيرة والقلق والضياع في كثير مما كتبته مي، ومن يستعرض الرسائل ير هذا الواقع جلياً، ويبدو أن كل هذا الحب الذي يدّعيانه مسايرة ربما، فالرسائل المتبادلة لم تكن كافية لتُحَقّقَ معجزة الزواج، ومن يتأمل بعض أقوالها له ير صدق هذه التوجهات.

في الرسالة الأولى يقول جبران معاتباً: غير أنني لم أفهم الأسباب التي دعتكِ إلى استخدام الشر ضدي، فهلا تكرمت بإفهامي؟

وفي الرسالة الرابعة يقول جبران مخاطباً مي: حديثك لي يتمايل بين العذوبة والتعنيف.

 وفي الرسالة الخامسة يقول: أنتِ حاقدة عليّ يا مي، ولكِ الحق ومعك الحق، إن ما يعرفه الحاضر يجهله الغائب.

وفي الثامنة: ما اكتفت صديقتي، بل ظلت واقفة لي بالمرصاد، فلم أقل كلمة إلا وذيّلتها بالتعنيف، ولم أحدق بشيء إلا وأخفته وراء القناع، ولم أمدّ يداً إلا وثقبتها بمسمار، وبعد ذلك قنطت والقنوط يا مي عاطفة خرساء.

وفي الصفحة 108 يقول لها: لا يا مي، ليس التوتر في اجتماعاتنا الضبابية بل في اجتماعاتنا الكلامية، الله يسامحكِ، لقد سلبتني راحة قلبي، ولولا تصلبي وعنادي لسلبتني إيماني، يجب ألا نتعاتب، يجب أن نتفاهم.

حيرة وقلق

ويقول لها في الصفحة 117 مستسلماً لما هو فيه: فلنتخاصم ما شاء الخصام، فأنت من إهدن وأنا من بشرّي.

وليس معنى ما أشرنا إليه أن جميع رسائل مي وجبران على هذا المنوال، فثمة رسائل يعبق منها الحب والرواء والانسجام، يقول جبران لمي في إحدى الرسائل: ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها! فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي، ويسير مترنماً في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورنيوس تقرب البعيد وتبعد القريب.

وفي رسالة متعددة الأهداف والمشاعر، يخاطب جبران صديقته مي قائلاً، ولعلها تلخص مشاعره العميقة وما يختلج في فؤاده من أسرار بحيث أن الحيرة والقلق لم يغادراه في معظم رسائله لمي: لم يكن سكوتي في الأمس سوى سكوت الحيرة والالتباس، لقد جلست مرات لأحدثك وأعاتبك ولكن لم أجد ما أقوله لكِ يا مي، لأنني كنت أشعر أنك لم تتركي سبيلاً للكلام، ولأنني أحسست بأنك تريدين قطع الأسلاك الخطية التي تغزلها يد الغيب. كنت تحدّقين وتهزين رأسك وتبتسمين ابتسامة مَن يجد لذة في تلبك وتشويش جليسه (72).

إن هذه الرسائل بما اشتملت عليه من صِدام دائم، علاوة على ما فيها من غنى عاطفي ومشاعر حسيّة متبادلة، وعدا عن قيمتها الأدبية والمعرفية، فهي تصوير لهذا التماثل والتشابه بين أدب المهجر وأدب المقيم، كما أنه ترجمة لمستوى الأدب العربي آنذاك.

والمتابع للعلاقة الروحية والفكرية والأدبية، يرى أن مي كانت تسعى إلى توظيف المراسلة بينها وبين جبران، كي تجعلها عاملاً في تطورها الفكري والأدبي، ولم تكن تتوقع أن تقع أسيرة كلماته، لكن ما إن أحسّت أن عواطفها بدأت تتحرك تجاه جبران حتى أخذت بالتهرب منها، وقد أنتجت مي في مرحلة علاقتها بجبران كتباً كثيرة، منها «أزاهير حلم بالفرنسية وباحثة البادية» عام 1920م، و«كلمات وإشارات» عام 1922م، و«المساواة وظلمات وأشعة» عام 1923، و«الصحائف» عام 1924م.

علاوة على أنها كانت كثيرة السفر طلباً للعلم والثقافة، فقد زارت بريطانيا وإيطاليا برغم وضعها الصحي الصعب.

وما من شك أن نشاطاً بهذا المستوى كان عائقاً أمام حياتها العاطفية، بالإضافة إلى مجلسها الأدبي الأسبوعي الذي كانت حريصة على أن يبقى منبرها فاعلاً وحيوياً، أضف إلى ذلك نشاطها الأدبي المتمثل في مقالاتها بالصحف اليومية والمجلات العربية، كالمقطم والأهرام والزهور والمحروسة والهلال والمقتطف، وهي بذلك خُلقَتْ أديبة وماتت أديبة، وتزوجت الأدب والفكر ولم تفضل أحداً عليهما، ومما ورد عنها في هذا الشأن قولها:

«أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وكتبي وأدواتي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثالية»، لذلك كان جبران يحبها ويعتز بها.

الخوف من الحب

 يقول بعد أن أهدته كتابها «باحثة البادية»: أنتِ يا مي صوت صادح في البرية، أنت صوت رباني يبقى حتى نهاية الزمن، وهي بناظره روح جميلة.

كانت محصلة رسائل جبران ومي موجات عاطفية كموج البحر، صاخبة حيناً وحيناً هادئة، وهذا يتناسب مع قولها الذي أشرنا إليه سابقاً «ما معنى هذا الذي أكتبه، إني لا أعرف ماذا أعني به، لكني أعرف أنك محبوبي، إني أخاف الحب».

 ربما هنالك أسباب نفسية جسدية حياتية خاصة جعلت من الحب عند مي مأزقاً لا تقترب منه ولا تبتعد عنه.

كان موت جبران سنة 1931 على مي ثقيلاً، علاوة على فقد والديها وصديقها يعقوب صروف، القشّة التي قصمت ظهر البعير، فأظلمت الدنيا في وجهها واعتزلت الناس، وأصيبت بيأس العوانس واتُهمت بالجنون وأُدخلت مستشفى بريز في بيروت ثم مستشفى العصفورية، ولما تعافت قليلاً عادت إلى القاهرة، لكن المرض عاودها، فأدخلت مستشفى المعادي في القاهرة حيث توفيت سنة 1941م.

تُرى ما الذي كان يخيفها من الحب وهي القائلة عنه:

«قل لي أنت ما هو وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى، فإني أثق بك وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك يحرسك ويحنو عليك.

غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجِدَ فيها بنت مثلي لها جبران واحد».

حال الحب مع مي كالفراشة والشمعة، فهي تدور حولها وتخاف إن التصقت بها أن تحترق، وأظن أن هذه هي مأساة مي وسرها الذي لا يعرفه إلا هي وحدها دون جبران.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًاقصة                                    

اسم المولود الجديد... كيف تختارينه

الوالدان وضرورة الانتباه لاستخدام الأطفال للإنترنت

تأثير الثقافة الرقمية في المنظومة التربوية

8 عادات غريبة عن الأطفال حول العالم

تقليل استخدام الهواتف الذكية أفضل للصحة العقلية

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق