اللغة العربية لا تموت
تتبوأ المسألة اللغوية أخطر المنازل بين المؤسسات البشرية، واستيعابها للأبعاد الرمزية للوجود الإنساني يجعلها الأكثر التصاقاً بالنواحي الحميمة للإنسان.
وعبر التاريخ
التصقت اللغة بالمقدّس،
فارتبط كلّ دين
بلسان انتشر بانتشار
ذلك الدين وانحسر
بانحساره. وإننا نجد
اليوم أنّ اللغات
التي ارتبطت بنصوص
مقدسة هي عموماً
لغات انحصر استعمالها
في حدود السياقات
الطقوسية التعبدية وفي
السياقات البحثية لاسيما
الفيلولوجية
منها.
وإزاء هذه
الوضعية تبدو اللغة
العربية ذات وضعية
استثنائية من حيث
استمرار استعمالها على
نحو تصاعديّ، فحتى
الأحداث الكبرى مثل
هجمات الحادي عشر
من سبتمبر عام
2011 على برج
التجارة العالمي في
أمريكا، فإنها كانت
ذات أثر مغاير
للانتظارات الممكنة للمتابعين؛
إذ تضاعف عدد
المقبلين على «العربية»، وهو
أمر يستدعي الدراسة
من منظور علميّ
وصفي لا بخلفية
معيارية قائمة على
الانتصار للسان العربي.
إنّ للغة
العربية وضعاً أبستيمولوجياً
ذو خصوصية بين
الألسنة البشرية، ويمكن
أن نحدد ملامح
هذه الخصوصية في
ثلاثة معطيات مهمة. أما الأول
فآنيٌّ سنكروني، ويتمثل
في وضع اللغة
العربية داخل المشهد
اللغوي الكوني، وأما
الثاني فتاريخي دياكرونيّ،
ويتعلق باستثنائية اللغة
العربية من حيث
تعميرها بين غيرها
من الألسنة البشرية. وأما الثالث
فاستشرافي، ويتلخص في
ممكنات القادم.
ويتلخص المنظور
الآني للغة العربية
في مكونات المشهد
اللغويّ الكوني، حيث
يقدّر الدارسون عدد
اللغات في العالم
اليوم بأنه بين
5000 و6000 لغة،
وتشير الإحصاءات التي
تقدمها المنظمات الدولية
إلى أن لغة
ينقرض استعمالها كلّ
حوالي 14
يوماً، أي موت
حوالي 25
لغة في السنة،
ويشير المتخصصون إلى
أنّ حوالي 600
لغة أخذت طريقها
التدريجي نحو الانقراض،
وهذا النسق سيفضي
إلى انقراض حوالي
نصف اللغات المتداولة
اليوم.
بُعدٌ كوني وبُعد عربي
إنّ في
هذه المعطيات ما
يشكّل الوجه الآنيّ
من المسألة اللغوية
في بعديها الكوني
العامّ والعربي الخاص،
ويمثّل هذا الوجه
امتداداً يكمله وجه
آخر من المشهد
اللغوي، وهو الوجه
الزماني التطوّري.
ومن هذه
الناحية نجد أنّ
معدّل تعمير الألسنة
البشرية يناهز الخمسمائة
سنة، فما بلغ
من اللغات هذا
العمر فإن الأصل
فيه أن يخرج
من دائرة الاستعمال،
ويكون امتداده في
اللهجات المتفرعة منه
لتحل مكانه، وهذا
الأمر هو توطئة
ما نروم مساءلته
من أمر اللغة
العربية في رحلتها
عبر القرون التي
عمّرتها، والتي لا
نجد لغة من
لغات الدنيا قد
عاشت نظيرها.
ويتضافر الوجهان
الآنيّ والزمانيّ في
استشراف الممكنات المحتملة
للغة العربية في
مستقبلها، وهو أمر
نرى منذ مقدمات
بحثنا أنّه من
المواضيع التي يجب
التعامل معها بغير
التواكل على أنّ
لسان العرب هو
لغة القرآن الكريم،
وأنّ لهذا اللسان
رباً يحميه، وسنرجئ
هذا القسم الاستشرافيّ
إلى آخر ورقتنا.
إنّ هجرة
اللغات من المسائل
اللسانية الدقيقة التي
واكبت بواكير البحث
اللسانيّ في القرن
التاسع عشر، على
أنّ المسألة كانت
يحتويها في القرن
التاسع عشر منظور
يختلف عن راهنه
اليوم، فالدراسات اللسانية
اليوم تشير إلى
أنّ العمر الافتراضيّ
للألسنة البشرية يناهز
ما معدله خمسمائة
عام، فلا نجد
حالياً من اللغات
المستعملة لغة يعود
عمرها إلى أكثر
من هذا المعدّل،
وهو الأمر الذي
شكّل مدار لسانيات
القرن التاسع عشر،
التي نحت منحى
تاريخياً مقارناً أفضى
إلى تأسيس شجرة
الألسنة البشرية مع
الألماني شلايشر (1882/1934).
والحقّ أن
الانتباه إلى مسألة
التطور في اللغات
البشرية هو من
الكليات التي، وإن
غدت مستقرة في
إطار نظريّ متكامل
في القرن التاسع
عشر، فإنها من
الأسس الدقيقة التي
تبلورت على نحو
واضح في التراث
اللغوي العربي، وتجلى
ذلك في سياقات
نظرية تدرج فيها
العرب من النظر
في لسانهم المحلي
إلى صياغة قوانين
لغوية عامة، فتوصلوا
إلى صياغة مجموعة
من الكليات اللغوية
كالذي عبّر عنه
ابن حزم بقوله:
«من تدبّر
العربية والعبرانية والسريانية
أيقن أن اختلافها
إنما هو من
نحو ما ذكرنا
من تبديل ألفاظ
الناس على طول
الأزمان، واختلاف البلدان
ومجاورة الأمم، وأنها
لغة واحدة في
الأصل».
والمتواتر في
أمر اللغات أنّ
اللغة إذ تبلغ
عمراً معيّناً ويتسع
استعمالها تطرأ عليها
عبر التاريخ طوارئ
حياة متكلميها، وبتفرقهم
وانفتاحهم على غيرهم
تنشأ لهم عادات
لغوية جديدة، وقد
عبّر ابن حزم
عن هذه الفكرة
بمنظور وصفيّ متجرد
من كلّ انتصار
للسان العربي، يقول
ابن حزم: «الذي وقفنا
عليه وعلمناه يقيناً
أن السريانية والعبرانية
والعربية، التي هي
لغة مضر لا
لغة حمير، لغة
واحدة تبدلت بتبدّل
مساكن أهلها، فحدث
فيها جرش كالذي
يحدث من الأندلسي
إذا رام نغمة
أهل القيروان، ومن
القيرواني إذا رام
نغمة الأندلسي، ومن
الخراساني إذا رام
نغمتهما.
ونحن نجد
من إذا سمع
لغة فحص البلوط،
وهي على مسافة
ليلة واحدة من
قرطبة، كاد يقول
إنها غير لغة
أهل قرطبة. وهكذا في
كثير من البلاد».
تبدل اللغة
ويعيد ابن
حزم هذا التغير
والتغاير إلى أنّ
الكيانات الاجتماعية ليست
كيانات مغلقة، وإنما
هي تتجاور على
سبيل التفاعل والتشارك،
وعلى ذلك الأساس
يصوغ ابن حزم
قانوناً لغوياً يؤيده
بأمثلة من لغة
عصره، فيقول: إنه
بمجاورة أهل البلدة
بأمة أخرى تتبدل
لغتها تبدلاً لا
يخفى على مَن
تأمله.
ونحن نجد
العامة قد بدلت
الألفاظ في اللغة
العربية تبديلاً وهو
في البعد عن
أصل تلك الكلمة
كلغة أخرى ولا
فرق، فنجدهم يقولون
في العنب «العينب»، وفي
السوط «أسطوط»، وفي
ثلاثة دنانير «ثلثدا».
فإذا تعرّب البربري
فأراد أن يقول
الشجرة قال «السجرة»، وإذا
تعرب الجليقي أبدل
من العين والحاء
هاء فيقول «مهمداً».
إنّ اللساني
المتأمل في تاريخ
العربية اليوم يستثيره
سؤال جوهري هو:
وفق أي ضوابط
يمكن أن نفسر
استثنائية اللغة العربية
بين الألسنة البشرية،
فظلت تستعمل وتؤدي
وظيفتها في عصر
اختفت فيه الألسنة
القديمة من أخوات
العربية، أو انسلخت
عدا غدت مسخاً
من أصل؟
وإذ نثير
هذا السؤال، فإن
المثال الذي يستدعيه
سياق البحث هو
اللغة العبرية التي
نهضت في أواسط
القرن العشرين لغة
تكاد تكون منقطعة
عن العبرية القديمة
في أبنيتها وخصائصها
الأساسية.
إن استمرار
اللغة العربية حية
فاعلة ذات حظوة
هو أمر يتنوع
التعامل معه بحسب
الخلفيات الثقافية ووجهات
النظر العلمية؛ والأيسر
على من يهتم
بالأمر أن يؤوّل
تعمير اللغة العربية
بأنّ لها رباً
يحميها، وهو تأويل
لا يُلزم إلا
من آمن به
أو كان يصدر
عن نفس خلفية
العربي المسلم، أما
من كان يصدر
عن غير تلك
الخلفية فقد يكون
له في المسألة
رأي آخر. وتقديرنا أنّ
للمسألة مقاربة أخرى
أكثر وجاهة وانسجاماً
مع المنظور اللسانيّ
الوصفيّ.
واللغة العربية
ليســــت استثنــاء بيــن
اللغات من حيث
القوانين العامة التي
يشتغل بها اللسانيون
فيما غدا مصطلحاً
عليه بمصطلح «الكليات اللغوية»، ولكنّ
تحقق هذه الكليات
وكيفيـــــة
جريانه على اللغات
هو الذي يختلف
من لسان إلى
آخر، ومثــــال ذلــــك
أنه لا لغة
تشذ عن أنّ
الأصل في الألسنة
البشرية هو المشــــافهة،
وأن الكتابة هي
حدث طارئ في
حياة كل لغة.
فعلى هذا
النحو إنما ننشد
خصوصية اللسان العربيّ
في كيفية تحقق
قوانين اللغة فيه
لا في انفلات
اللسان العربيّ عن
هذه النواميس، وهو
الخيار المنهجي الأوفق،
لاسيما إذا اعتبرنا
أنّ كلّ الإجابات
التي تصدر عن
خلفية دينية لا
تلزم إلا من
يتبنى الخلفية الدينية
منوالاً تفسيرياً في
دراسة الظواهر.
تغييرات مجهرية
ومن النواميس
التي ظلت صامدة
في كلّ المقاربات
التاريخية أنّ شرط
البقاء والاستمرار لكل
الظواهر والكيانات يتمثل
في التطوّر والتكيّف،
وبغير هذين الشرطين
لا يتحقق للكائن
الاستمرارُ والحياة. فلذلك إنما
يتضح سرّ استمرار
«العربية» من
خلال التبصر العميق
بما يتحقق به
التطوّر والتكيف في
اللغة العربية دون
أن تبلغ درجة
المسخ والفسخ التي
طالت ألسنة أخرى
كـ «العبرية».
يفيد مفهوم
التطوّر في النظرية
اللسانية تحقق صفة
التغير في اللغة
انطلاقاً من الانتقال
من وضعية لغوية
أ إلى وضعية
لغوية ب، على أنّ
التغيرات التي تطرأ
على اللغة هي
تغييرات مجهرية لا
يلتقطها الإدراك المباشر،
وإنما يستشعرها ويدركها
التبصر المجهريّ الذي
يتوسل بأدوات البحث
اللازمة، ذلك أنها
لا تحصل في
حيّز زمنيّ يدرك
بيسر، فضلاً أنّ
اللغة لا توجد
مجردة عن الإنسان
ومؤسساته الاجتماعية، فيعسر
أن يكون الإنسان
ناظراً وموضوع نظر
في آن.
وإذا أراد
الباحث أن ينظر
الآن في مسار
حياة اللغة العربية
وحركتها عبر التاريخ،
فإنه سيجد أنّ
لسان العرب لم
يشذّ عن قوانين
التطوّر التي تحتكم
إليها الألسنة البشرية،
وإنما خصوصية اللغة
العربية أنها تطورت
حتى بلغت حالتها
الراهنة بامتثالها لمجموعة
من الخصائص الأساسية
هي في المنظور
اللسانيّ الشرط الذي
أمّن لـ «العربية»
بقاءها على نحو
وسط بين الحياة
والاستمرار من ناحية،
والتطور والتجدد من
ناحية ثانية.
ويمكن إجمال
هذه الخصائص في
أربعة معطيات؛ أولها
الارتباط بالنصّ، والثاني
هو التطوّر الداخليّ،
والثالث هو احتوائية
الدين واللغة. وهي معطيات
جسّدت للغة العربية
سياق حركتها وحيويتها
عبر التاريخ. وهو ما
يقتضي أن نفصّل
القول فيه.
أمّا من
حيث ارتباط العربية
بالنصّ، فأساسه أنّ
للنصوص قيمة مرجعية
مركزية في تاريخ
الشعوب واللغات، ولئن
كانت اللغة حدثاً
طارئاً في تاريخ
اللغات، فإنّها تظلّ
سلطة مرجعية، حتى
إن المتكلمين إذا
اختلفوا حول أمر
من المنطوق أو
المكتوب عادوا فيه
إلى النصوص المكتوبة
لفصل فيما اختلفوا
فيه.
ومن المفارقات
أنّ اللغة التي
ترتبط بنصّ مقدّس
ينتهي بها الأمر
إلى الموت، إذ
تجد اللغة نفسها
بين طرفين متجاذبين؛
أولهما نواميس الحياة
التي تتطلب التطوّر،
والثاني هو مواضعات
المتكلمين إزاء قداسة
النصّ الديني الذي
يسعى إلى إقرار
الوجود الجماعيّ وتثبيته
على قيم تعايش
محددة. فلذلك يكتسب
النصّ قيمة مرجعية
أساسية من حيث
هو بمنزلة البوصلة
التي تحيل على
ثابت به يتحدد
ما سواه.
على هذا
الأساس تجد أنّ
اللغات التي ارتبطت
بنصّ مقدَّس لم
يتواصل استعمالها إلا
في السياقات الشعائرية،
ولذلك تجد كثيراً
من مرددي تلك
النصوص في طقوسهم
يرددونها من دون
إدراك لمعناها، وإنما
يغدو المعنى موضع
اهتمام في السياقات
المخبرية البحثية.
إزاء هذه
المعطيات العامة، يحتل
القرآن الكريم، من
حيث هو النص
المرجعي للمسلم في
دينه وللعربي في
لغته، مكانة خاصة.
فهذا النصّ
المرجعُ هو ثابتٌ
ثبْــــــت في حقيقته
وقيمه، ولكنّ البناء
اللغويّ لهذا النصّ
ورد بخاصية مهمة
هي أنه لم
يرد بلغة أيّ
من القبائل العربية
بشكل حصريّ، فكان
من مقتضيات ذلك
أن قارئه يجد
فيه سعة في
الدائرة المرجعية للغة. وهو أمر
متحقق على مدرجين؛
أولهما التنوع داخل
دائرة اللغة العربية،
وذلك فيما أصبح
يسمى في المصطلح
القرآني «القراءات».
ويسمى في المصطلح
اللغويّ «لغات».
أما المدرج الثاني
فيتمثل في أنّ
في القرآن الكريم
ما ليس من
كلام العرب، وذلك
فيما يعني أن
القرآن - وإن نزل
بالعربية - فإنه ليس
للعرب وحدهم، وإنما
هو لكلّ من
يدخل الإسلام من
العرب ومن غيرهم. وقد جسد
هذا الأمر موضوع
مبحث مهمّ ضمن
علوم القرآن هو
غريبه.
مطلق التطوّر ومنتهى الانغلاق
إنّ هذه
الحركية الداخلية في
النصّ القرآني تؤول
إلى خصوصية مهمة
هي تضمن النصّ
لحركية داخلية قائمة
على التنوع تحاكي
الحركية الخارجية القائمة
على التغيّر.
ولكنّ الحركية
المسيّجة بنصّ تنضبط
لحدود النصّ، في
حين أنّ الحركية
التي تنساق للتاريخ
هي حركية تؤول
إلى انسلاخ عن
الأصل، وهو شأن
اللغات عموماً في
خضوعها لنواميس التطوّر. فبين مطلق
التطوّر ومنتهى الانغلاق
اكتسبت اللغة العربية
خصوصية اللغة المحمية
من المسخ والموت
بنصّ يشرّع للتغير
والتطوّر بمعيار التنوع
اللغوي واللهجي، لا
بمطلق نواميس التطور
اللغوي، وهو ما
يشكّل الآلية الثانية
في تأمين استمرار
اللغة العربية عبر
الزمن، وهي الآلية
التي سمّيناها آنفاً
«التطوّر الداخليّ
للغة».
إنّ الأصل
في التطور أن
يكون خارجياً لأنه
واقع في الزمن،
وهو ما عرّفناه
سابقاً بأنه انتقال
اللغة في مستوى
لغوي منها من
الوضعية (أ) إلى الوضعية (ب).
أما التطور
الذي نعنيه في
هذا المقام، فالتطور
الذي يتضمنه النصّ
القرآني، فقد نزل
هذا النصّ منجَّماً،
ولكنه حين اكتمل
نزوله أصبح يعامل
لدى المسلم المتعبد
به والملتزم بمضامينه
بمنزلة النصّ الذي
اكتمل في لحظة
تلقي هذا المسلم
عبر المكان والزمان
ليكون جسماً لغوياً
واحداً.
فعلى هذا
الأساس نجد أن
النحاة قد تعاملوا
مع النصّ القرآني
في كلّيته ومن
حيث هو نصّ
حيّ في احتوائه
على الاستعمال اللغوي
الواحد وعلى غيره
من الاستعمالات، فكأنّ
هذا التنوع استباق
لما يمكن أن
تنتهي إليه اللغة
في لحظة معينة
من تطورها.
وفي هذا
المعطى ما يجعل
السياقات الخارجة عن
الأصل ذات قيمة
اعتبارية ونظرية مهمة،
لأنها تنسّب القاعدة. وتقديرنا أنّ
لهذه المسألة بعدين؛
أولهما أن الاستثناء
الطارئ على القاعدة
يعزز حيويتها، والثاني
أنه يبرهن على
العقل النحويّ الخلاق
الذي استنبط من
التعدد اللهجيّ نحواً
مشتركاً. وإنما يعي
الباحث بأهمية هذه
العملية حين يقارنها
بمسار عكسي يقع
اليوم فيما أصبح
يسمى «التلهيج»، حيث
يريد البعض إحلال
اللهجات المتعددة محلّ
الفصحى الواحدة الموحّدة.
إنّ خصوصية
التطور بالمعنى الذي
نذهب إليه هنا
هو أنه مختلف
عن الأصل في
ظاهرة التطور كما
يدرسها اللسانيون؛ إذ
يتحقق التطور في
التقدير العاديّ في
محور الزمن، أي
بالتتابع. أما في
النصّ القرآنيّ فإنّنا
نجد مفهوماً آخر
للتطوّر هو الذي
نجد اللساني السويسري
فردينان دي سوسير
يذكره في دروسه،
وهو مفهوم «التغاير» كمقابل
للتغيّر.
والفرق بينهما
أنّ التغيّر هو
انتقال في اللغة
من وضع (أ) إلى
وضع (ب)، أما التغاير
فتزامُنٌ بين الاستعمالين (أ و ب). والظاهرتان
على مستوى من
اللطف يجعل التمييز
بينهما ملبساً في
حالات عديدة.
إنّ «ارتباط اللغة
بالنص» و«التطوّر الداخليّ
للغة» هما عاملان
يجمعهما في العربية
أمر على درجة
عالية من الخصوصية،
وهو ما يمكن
أن نسميه «احتوائية الدين
واللغة»، فالترابط
بين اللغة العربية
والدين الإسلاميّ يؤول
إلى أنّ المسلم
يتعامل مع النصّ
القرآنيّ باعتباره نصاً
متعالياً على الخصوصية
العربية، فالذي يعتنق
الإسلامَ يعنيه من
القرآن ما يعني
العربيَّ.
ولذلك فإنّ
للغة العربية قيمة
اعتبارية لدى كل
مسلم، وذلك على
أساس سبب من
ثلاثة أسباب، فإمّا
من منطلق العروبة،
وفي ذلك قد
يكون العربيّ مسلماً
أو غير مسلم،
وإما من منطلق
المسلم الدارس للعربية
المتفقه فيها، ومن
هؤلاء العالم المتبحر
ومنهم مجرد المستعمل
المتعبد، وإما مسلــم
يقــــرأ الــــقرآن ويتعـــبد
به، ولكنه لا
يفهم من لفظه
إلا اللمم.
وليست العلاقة
طردية بين تقديس
«العربية» والتبحّر
فيها، فإنك تجد
للعربية في ضمائر
المسلمين غير العرب
منزلة قد ترتقي
إلى القداسة، آية
ذلك أنّ كثيراً
منهم يحفظ القرآن
ويحرص على حسن
تلاوته وإن لم
يفهم من معانيه
إلا المتواتر المتداول
من روح الدين
الشائعة بين المسلمين
سلوكاً ومعاملة.
إنّ هذه
الدرجات الثلاث في
التعامل مع «العربية»
هي ما يجعل
لها مجال تداول
واسع وفي مستويات
مختلفة؛ فهي للبحث
والنظر لدى المتخصص،
وهي للتواصل والتفاهم
لدى المتكلم بها
لغةً أمّاً، وهي
للتعبد لدى المسلم
المتعبد، على أنّ
هذه المستويات قد
تجتمع في الفرد
الواحد. ومن كلّ
ذلك يتحقق للغة
العربية مجال تداول
واسع عبر الزمان
والمكان وبتعدد المتكلمين،
وهو أمر يتضافر
وروح الدين الإسلاميّ
في انفتاحه وكونيّته
التي تؤول بدورها
إلى كونية اللغة
التي نزل بها
كتابه وبها يُصلّى.
ومن الخلاصات
الأساسية التي نخلص
إليها من هجرة
«العربية» عبر
الزمان والمكان أنّ
اللغة العربية تحقق
هوية منفتحة بالضرورة،
وذلك بحكم ترابطها
الوثيق بالإسلام والقرآن. وهذا الترابط
الوثــــيق هو ما
لم نجد إلى
اليوم استثماراً حقيقياً
فيه، فالعربية هي
لسان ما يناهز
نصف المليار من
العرب، ولكنهــــا كذلك
لغة أضعاف هذا
العدد من المسلمين
الذين يتعبدون بالقرآن
الكريم، ويتطلعون إلى
تعلّم هــــذه اللغة.
فإن لم
يكن من الواجب
الديني أن يسعى
المسلم العربيّ إلى
تعليمهم لغة القرآن،
فإنّ من مجالات
الاستثمار الممكنة أن
يسعى إلى تطوير
المناهج التي تيسر
تعليم العربية وتعزز
انتشارها، وقد يكون
من المحرج حضارياً
أن تهاجر شعوب
أخرى إلى لسان
العرب، في حين
يهجر كثير من
العرب لغتهم الجامعة؛
إما إلى لهجاتهم
المحلية الضيقة أو
إلى بدائل لغوية
تفرضها عليهم وضعيات
اقتصادية أو ثقافية.
فقد غدا
من المسلَّمِ به
اليوم أنّ اللغة
هي عماد مفهوم
أساسي غدا ذائعاً
متداولاً في السياقات
السياسية والاقتصادية والبحثية
هو مفهوم القوة
الناعمة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
خطوات لتعليم طفلك
الذكاء العاطفي
7 خطوات لتعليم طفلك
أهمية الوقت وإدارته
لماذا ترتبط الجدات
بأحفادهن أكثر من أبنائهن
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق