ابن رُشد
تميزت الفلسفة الإسلامية في الأندلس بالتركيز على فكرة التوحد وفقاً لعبارة ابن باجة، أو الغربة أو الاغتراب بلغة اليوم. والاغتراب، وفقاً للفيلسوف الأندلسي الأول، لا يعني بالضرورة رحيل الفيلسوف عن مجتمعه، بل قد يعني في المقام الأول أن ينأى الفيلسوف بنفسه عن الاندماج الكامل في الحياة الاجتماعية وينصرف إلى ما يمليه العقل وحده.
ولم تكن
تلك الفكرة جديدة
في تاريخ الفلسفة،
فلها أصول عريقة،
ولكن يبدو أن
التركيز اشتد عليها
في فلسفة الأندلس
بسبب الاضطهاد الذي
تعرض له الفلاسفة
في المشرق وظل
يهددها في الأندلس.
يضاف إلى
ذلك أن دراسة
فلاسفة الأندلس الثلاثة( ابن
باجة، ابن طفــــيل،
وابن رشد) من هذه الزاويــــة
تحقــــق فوائـــد كثيرة
من بينها أنهم
كانــــوا يدافعـــون عن
الفلسفة، فقد اتخذت
فكرة الــــتغرب بمعنى
الانصراف إلى ما
يقوله العقل شكل
استعراض لماضي الفلسفة
في المشرق، بهدف
الدفاع عنها بناء
على توافقها مع
الشريعة، فكأن الفلاسفة
الثلاثة كانوا يدركون
أنهم أصبحوا في
الموقع الأخير على
الساحة الفلسفية، وأن
عليـــــهم إعادة النظر
في منجزات الفلسفة،
والتدليل على أهميتها وترسيخ
مكانتها في المجتمع
الإسلامي.
نرى ذلك
في قصة حي
بن يقظان لابن
طفيل، التي يستعرض
فيها من خلال
سيرة البطل الخرافية
فلسفة ابن سينا
الإشراقية كتوليفة من
عناصر أرسطية وأفلاطونية
وأفلوطينية،
ويدلل بذلك على
أن الحكمة المؤلفة
التي يستخلصها البطل
في نهاية المطاف
تتطابق مع الشريعة.
والقول بالتطابق
بين الفلسفة والشريعة
كان هو طريقة
ابن طفيل في
الدفاع عن الفلاسفة
بطريقة رمزية، ودفع
تهمة الكفر عنهم
كما وجهها الغزالي
إليهم.
مصير سيئ
أما ابن
رشد، ثالث الفلاسفة
الأندلسيين،
فقد فضّل أن
يخوض معركة الدفاع
عن الفلسفة، وأن
يواجه خصومها في
العلن.
وهذا الموقف
البطولي فرض عليه
أن يكون هو
المغترب الأكبر، فقد
أُحرقت مؤلفاته ونفي
عن بلاده، ثم
تغرب مرة أخرى
عندما انتقلت أعماله
إلى أوربا مترجمة
إلى اللاتينية، وكان
له فيها أتباع
يوصفون بأنهم ارشديون
لاتينيونب، وخصوم عتاة
من علماء اللاهوت،
على رأسهم القديس
توماس الأكويني، وهناك
تضاعفت غربة الفيلسوف
العربي بعد أن
تنكر له الأوربيون
ورموه بأشنع التهم
وأساءوا فهمه عن
قصد أو غير
قصد، وأغفلوا في
النهاية ذكره وتجاهلوه.
ويبدو أن
المصير السيئ الذي
لقيه ابن رشد
في بلاده وفي
أوربا على السواء،
يرجع أساساً إلى
شرحه على مؤلفات
أرسطــو. كان يريد،
مثله مـــثل ابن
طفيل، أن يثــبت
ألا تعــــارض بيــــن
الفلسفة والشــريعة الإسلامية،
وقـــــد اعترف في
فصل المقال بأن
بعــــض أوجـــه التباين
تظهر على السطح
أحيانا، وأن الأمر
يقتــــضي عـــــندئذ اللجوء
إلى التأويل، أي
تفسير نصوص الشريعة
على نحو يكشف
عن حقيقتها أو
باطنها.
فمن شأن
عملية التأويل إذا
مورست بطريقة مشروعة
- وفقاً لشروطها وفي
نطاق حدودها الصحيحة
- أن تكشف عن
الاتفاق العميق بين
باطن الشريعة وظاهرها،
فللشرع حقيقة باطنة
- وهي عقلية وخاصة
بالراسخين في العلم
أو الفلاسفة - وظاهر
تقتضيه مخاطبة مختلف
الفئات بلغة مناسبة.
مفهوم العلم الإلهي
إن كتاب
فصل المقال عمل
تمهيدي يعرض فيه
المؤلف بإيجاز برنامج
عمله. أما شرحه
على مؤلفات أرسطو،
فهو العمل الذي
ينفذ فيه الجزء
الأكبر والأهم من
هذا البرنامج، ويتميز
بأهمية استثنائية لأنه
شرح نقدي صارم،
فقد اقتضى استعراض
وتمحيص كل الشروح
السابقة التي وصلت
إلى الشارح، كما
اقتضى تخليص أرسطو
من العناصر الأفلاطونية
والأفلوطينية
الدخيلة التي شابت
مذاهب فلاسفة مسلمين،
مثل الفارابي وابن
سينا وابن باجة
وابن طفيل، وأدى
الشرح على هذا
النحو إلى إبراز
الطابع العلمي لفلسفة
أرسطو، وهو ما
يعني أنها تستند
إلى الموجودات كما
هي متاحة لوسائل
الإنسان المعرفية العادية
بداية من الحواس،
كما أدت إلى
تحديد نقاط التباين
بين الشريعة والفلسفة
العلمية.
كما نتبين
من خلال الشرح
الرشدي أن هناك
طريقة أخرى للتدليل
على التوافق العميق
بين العلم والإيمان،
طريقة تختلف عن
تأويل النصوص الشرعية؛
فهي تقتضي تنقيح
الفلسفة - فلسفة أرسطو
على وجه التحديد
- وتطعيمها عند الضرورة
بمفاهيم إسلامية بحيث
تتواءم مع الإسلام.
ومثال ذلك
أن هذه الفلسفة
العلمية كما شرحها
ابن رشد تخلو
من دليلين أساسيين
في الإسلام: دليل
العناية ودليل الاختراع( أي
إيجاد الكائنات)، وعندئذ لجأ
ابن رشد إلى
إدراج هذين الدليلين
في الفلسفة عن
طريق عنصر من
داخلها هو مفهوم
العلم الإلهي؛ فهذا
العلم الذي يرى
أرسطو أنه منحصر
في نطاق الذات
الإلهية يصبح عن
طريق التنقيح علماً
خلاقاً لا يعتمد
على تأثير الكائنات
كما يحدث في
علم البشر، بل
يوجدها ويعنى بها
ويسخّرها لخدمة الإنسان.
الشريعة والفلسفة
يتبين من
برنامج ابن رشد
عند تنفيذه أنه
يتألف منطقياً من
جزءين؛ جزء سلبي
أو نقدي يكشف
فيه عن أوجه
التباين بين الشريعة
والفلسفة الأرسطية ذات
الصبغة العلمية، أو
لنقل يفصل فيه
بين مجال للإيـــمان
ومجال للعلم؛ وجزء
آخر إيجابي أو
بنّاء يسعى إلى
تحقيق التوافق عن
طريق التأويل (تأويل النصوص
الشرعية )أو تنقيح
مذهب أرسطو من
دون تعسف - أي
من داخله - بقدر
المستطاع.
وقد يقال
في نقد ابن
رشد إن الحلول
التي قدمها في
مجال التوفيق وتحقــيق
التصالح جاءت موضعية
ومتفرقة، ولم تجمع
وتنسق في إطار
عمل واحد ومنظم،
وذلك لأنها جاءت
في سياق من
الشرح أو الجدل
في أعـــمال متفرقة.
وقد يلتمس
له العذر، فيقال
إنه لم تتح
له بسبب ضخامة
هذا البرنامج فسحة
من العمر وفضل
من الطاقة لتنظيم
آرائه في إطار
واحد ومتكامل.
وأيا كان
الأمر، فإن غلبة
الشرح والجدل في
برنامج ابن رشد،
وضيق المكان المخصص
للبناء المنظم، أتاحا
لكل من أتباعه
(الرشديين
اللاتينيين)
وخصومه (علماء
اللاهوت المسيحيين) في أوربا
فرصة قراءته قراءة
جزئية وتبسيطه تبسيطاً
مخلاً عن قصد
أو غير قصد،
وهو ما استغل
في تشويه سمعته،
واستبعاده في النهاية
من الذاكرة الجماعية.
وقد قصروا
انتباههم بصفة عامة
على آرائه في
مجال النقد وإبراز
التباين بين الفلسفة
والشريعة، وأغفلوا جهوده
الإيجابية البناءة، أي
إنهم ركزوا على
الجزء المخصص في
عمل ابن رشد
للفصل بين العلم
والإيمان، وأغفلوا الجزء
المخصص لوصل الطرفين.
تشهير وتجاهل
ينبغي أن
يكون لدينا وضوح
كامل بشأن هذه
الحقيقة، لأنها استغلت
في التشهير به
في حملة عدائية
شاملة، وفي إخفائه
عن الأنظار في
النهاية.
إن الكشف
عن الطرق الأوربية
في الاستجابة لما
فهموه أو أساءوا
فهمه من البرنامج
الرشدي يساعد، برغم
كل شيء، على
اكتشاف تأثيره الذي
سرى في الثقافة
الأوربية تحت ستار
من التشهير والتجاهل.
وقد تجنوا
عليه إذن، ولكن
من الممكن أن
يقال من ناحية
أخرى إنهم حسناً
فعلوا. فلعلهم عندما
بسطوا آراءه على
ذلك النحو واقتصروا
على الجانب النقدي
من عمله أخذوا
أفضل ما فيه. وذلك أن
هذا الجانب هو
ما أصبح قوة
دافعة في نطاق
الثقافة الغربية فحرّك
المياه الراكدة ودفع
العقول إلى الاستجابة
عن طريق التجديد. ومن ثم
كان سعي القديس
توماس الأكويني إلى
احتواء العلم الأرسطي
في توليفة فلسفية
لاهوتية اتجاهاً محافظاً
له ما له
وما عليه؛ ومن
ثم كانت جهود
المتمردين أو الثوريين
من أجل الإطاحة
بالنظام القديم وإنشاء
نظام جديد.
لقد أحدث
ابن رشد الشارح
الناقد تصدعاً كانت
له آثار بعيدة
المدى وعظيمة الفائدة
في تلك الثقافة.
وتجلى تأثير
ابن رشد بصفة
خاصة في جانبين،
الجانب الأول أن
استخلاصه لمذهب أرسطو
- الطبيعي النزعة والعلمي
بهذا المعنى - وفصله
عن مجال الإيمان
أطلق حركة استقلال
العلم التي توجت
بثورة العلم الحديث،
فلم تحل عملية
الاحتواء التي أجراها
الأكويني في رأب
التصدع وتفاقمه. بل وقد
يقال إن عمل
الأكويني على إعادة
الساعة إلى الوراء
وفرض هيمنة اللاهوت
وسلطة الكنيسة أسهم
في تأجيج التمرد
وإشعال الثورة. وظهرت بدايات
التصدع في مواقف
الرشديين اللاتينيين، وبخاصة
عندما أخذوا بنظرية
ازدواج الحقيقة أو
وجود مجالين لها
- مجال للإيمان ومجال
للعلم - وأخفوا بها
انحيازهم للمجال الأخير. وكانوا بذلك
هم الرواد في
حركة استقلال العلم،
وجاءت بعدهم موجات
أخرى من التمرد
انتهت بالثورة العلمية
الحديثة.
حملة شعواء
نظراً لأن
هذا الجانب من
تأثيــــر ابن رشد
ذو طابع عام
وأساسي، فقد كــــان
ولايــزال خافياً، ولم
يحظ بالانتباه الكافي
حتى يومنا هذا.
ولا يستثنى
من ذلك إلا
علماء اللاهوت الأوائل
- وعلى رأسهم القديس
توماس الأكويني - الذين
تنبّهوا للخطر في
بداياته وسارعوا إلى
درئه، كما رأينا
في عملية الاحتواء.
وقد ظل
ذلك الجانب خافياً،
لأن أولئك العلماء
حجبوه عن طريق
القيام بعملية الدفاع
على مستوى من
العمق الاستراتيجي وراء
سلاح تكتيكي يهدف
إلى صرف الأنظار
عنه وتغييبه. وكان هذا
السلاح هو تسليط
الضوء على ما
يسمى بنظرية وحدة
العقل التي نسبوها
إلى ابن رشد
في صورة محرفة. فقد تنبه
الأكويني مرة أخرى
إلى أهمية القضية،
ولكنه لم يتخذ
في هذه الحالة
موقفاً دفاعياً بهدف
احتواء الخطر، بل
وجد عندئذ فرصة
سانحة للهجوم على
ابن رشد ونبذه
بوصفه شارحاً لا
يعتمد عليه في
فهم أرسطو، وعدواً
للمسيحية، لأنه وفقاً
لادعاء الأكويني أثبت
وحدة العقل بالنسبة
إلى كل البشر،
والتزم من ثمّ
بنفي تعدد الأفراد
وخلود الروح.
وكان ذلك
بداية لحملة من
معاداة االشيطانب العربي،
وكانت حملة بلا
نظير في تاريخ
اضطهاد الفلاسفة، فقد
كانت شاملة وامتدت،
وبقيت آثارها عبر
القرون.
وحقيقة الأمر
أن ابن رشد
لم يسلم بوحدة
العقل ببساطة - أي
إنه لم يقبلها
من دون تحفظات
وشروط - بل اعترض
عليها وطرحها كمعضلة
على نفسه وعلى
الثقافة الأوربية. فنظرية العقل
الواحد بالنسبة إلى
جميع البشر كانت
تتعارض في رأيه
مع تعدد الأفراد
من حيث الفكر
والوجود، ولكنها من
ناحية أخرى تعد
بحل مشكلة خلود
الروح. وقد سعى
ابن رشد إلى
معالجة القضية بوصفها
معضلة تتطلب الحل.
كما أن
الثقافة الأوربية استقبلت
القضية بهذه الصفة،
رغم تحريفها واستغلالها
في صورتها المحرفة،
كسلاح تكتيكي لتشويه
سمعة الفيلسوف وصرف
الأنظار عن مساهمته
في استقلال العلم.
ولكن ظهور
الكوجيتو الديكارتي( قضية
أنا أفكر إذن
أنا موجود)
في القرن السابع
عشر، يدل على
أن تأثير ابن
رشد سرى وتغلغل
في أعماق الثقافة
الأوربية، وكان فعالاً
مرة أخرى. وذلك أن
الأنا الديكارتية - الذات
المفردة - لا تفهم
إلا كردّ على
ابن رشد وحل
قاصر للمعضلة التي
طرحها فيما يتعلق
بتعدد الأفراد، لأنه
يثبت وجود الفرد
ديكارت، ويهمل وجود
كثرة من الأفراد.
ومعنى ذلك
أن ابن رشد
الشارح الذي فصل
بين الإيمان والعلم
لم يــطلق حركة
استقلال العلم فقط،
بل دفع أيضاً
العقول الأوربية في
طريق العمل على
إثبات تعدد الأفــــراد،
فلم يكن الحل
الديكارتي القاصر آخر
الحلول، بل تعددت
الاستجابات للمعضلة الرشدية،
وكانت هناك حلول
أخرى أفضل وأنجع،
وهو ما يثبت
أن تأثير ابن
رشد امتد وكان
فعالاً عبر القرون.
وكانت المعضلة
التي طرحها في
القرن الثالث عشر
بمنزلة المخاض العسير
لفكرة الفرد الذي
لا يوجد إلا
في مجتمع من
الأفراد ..
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
تصوير
الطفل يهدد صحته النفسية وقدرته على النضج
مقدار
الحرية التي يجب أن تمنحيها لأبنائك المراهقين
الكافايين
والاكتئاب: تأثيرات سلبية وإيجابية
علامات
التوحد عند الأطفال في الشهر الثامن
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق