الثلاثاء، 10 يناير 2023

• نابوليون وتاليران والهروب الماكر


استدرِج الآخرين لفعل ما تريد

حين تجعل الآخرين يفعلون ما تريد تكون لك السيطرة عليهم، والأفضل أن تغري خصومك ليأتوا إليك متخلين عن خططهم الخاصة، استدرجهم إليك بالمكاسب لتكون أوراق اللعبة في يدك ثم هاجمهم وافرض عليهم شروطك.

في عام 1814 اجتمعت القوى العظمى في أوروبا في مؤتمر فيينا لتقسيم ما تبقى من الإمبراطورية المنهارة لنابليون بونابرت. كان الابتهاج يملأ المدينة والحفلات من أروع ما رواه التاريخ، لكن كان ظِلُّ نابليون المهيب يرفرف على المباحثات، وبدلاً من أن يحكموا بإعدامه أو نفيه تم إرساله إلى جزيرة إلبا غير بعيدٍ عن شاطئ إيطاليا.

حتى وهو حبيسُ جزيرة كانت قوة شخصية نابليون ومَكْرِهِ تُوَتِّرُ الجميع، أراد النمساويون تدبير قتله ولكنهم رأوا أن في ذلك خطورة شديدة. ورفع الكسندر الأول القيصر المؤقت لروسيا حِدَّةَ التوتر حين صاح بعد أن عَلِمَ بتمرد جزءٍ من بولندا على وصايته قائلاً «أنا على وشك أن أُفْلِتَ المارد»، وكان الجميع يعرفون أنه يقصد نابليون، ومن بين كل رجالات الدولة الحاضرين وحده تاليران وزير الخارجية السابق لنابليون ظل محتفظاً بهدوئه ولا مبالاته كأنه يعرف شيئاً لا يعرفه الآخرون. كانت حياة نابليون في جزيرة إلبا نسخاً مستهزئاً من مجده السابق، فقد سمحوا له باعتباره «ملكاً» لإلبا أن يحتفظ بحاشية مصغرة تتكون من طباخ واختصاصيةِ ملابسٍ وعازف بيانو رسمي وعدد قليل من رجال البلاط، كان القصد هو الاستهزاء بنابليون، وتصوروا أنهم نجحوا في ذلك.

لكن في شتاء ذلك العام وقعت سلسلة من أحداث غريبة ومُشَوِّقة لدرجة تجعلها تستحق أن تُروى في مسرحية. كانت السفن البريطانية تحيط بجزيرة إلبا وكانت مدافعها تحاصر كل المخارج المحتملة، لكن بطريقة ما استطاعت سفينة على متنها تسعمائة شخص أن تأخذ نابليون وَتَفِرَّ به إلى البحر، وطاردتها السفن البريطانية لكن لم تلحق بها، استثارَ هذا الهروبُ المستحيل دَهْشَةَ شعوبِ أوروبا وَفَزَعَ رجالِ السياسة المجتمعين في فيينا.

كان من الآمن لنابليون أن يغادر أوروبا هرباً، إلا أنه لم يَكْتَفِ بالعودة لفرنسا بل ليِزَيِدَ الأمور غرابةً زَحَفَ بجيشه الضئيل إلى باريس آملاً أن يَسْتَرْجِعَ العرش، وَنَجَحَتْ إستراتيجيتُه، وَتَجَمَّعَ الناسُ من كل طبقات الشعب وأرتموا تحت قدميه، وبسرعة خرجَ جيشٌ من باريس يقوده المارشال تاي للقبض على نابوليون، لكن حين رأى الجنود قائدَهم السابق غيَّروا ولاءَهم وانضموا إليه، وَتَمَّ تنصيب نابليون إمبراطوراً من جديد وتَضَخَّمَ جيشه ثانية بالمتطوعين، واشتعلتْ فرنسا بحماسةٍ تُقارب الهذيان وتمردّت الجموع في باريس وهرب الملك الذي كان قد تولى الحكم بعد نابليون.

حَكَمَ نابليون فرنسا لمائة يوم بعد ذلك، استفاقَ الناس خلالها بسرعة من الهذيان. أَفلستْ فرنسا واستنزفتْ مواردها، ولم يكن لدى نابليون أية حلول، وفي يونيو من نفس العام هُزِمَ نابليون نهائياً في معركة واترلو، وفي هذه المرة كان أعداؤه قد تَعَلَّمُوا الدَّرسَ: حكموا بنفيه إلى جزيرة سانت هيلانه القاحلة على شاطئ أفريقيا من بعيد، ولم تَعُدْ لديه أيُّ إمكانيةٍ للهرب.

لم تعرف تفاصيل هرب نابليون الدرامي من جزيرة إلبا إلا بعد ذلك بسنوات. قبل أن يقدم نابليون على هذه الخطوة الكبيرة كان زُوّاره يُخيِّرونه بأن شعبيته في فرنسا أعلى من أي وقت مضى وأن الناس سيتضامنون معه مرة أخرى، أحد هؤلاء الزوار كان قائد جيوش النمسا الجنرال كولر والذي أقنع نابليون أنه لو هرب ستُرحب سلطات أوروبا ومنها بريطانيا بعودته للعرش، واستنتج نابليون أن الأسطول الإنجليزي سيسمح له بالفرار، والحقيقة أن هروبه قد ثم في وضح النهار على مرأى من عدسات المراقبة لدى الإنجليز. ما لم يعلمه نابليون هو أن رجلاً واحداً كان وراء كل هذه الأحداث ويمسِك بكل خيوطها، وأن هذا الرجل هو وزير خارجيته السابق تاليران، وأنه لم يفعل ذلك لاسترجاع أيام المجد السابق بل لِسَحْقِ نابليون نهائياً. كان تاليران يُعارض قبل ذلك بفترة طويلة تهديد طموح نابليون لاستقرار أوروبا واعترض حين حكموا عليه بالنفي إلى جزيرة إلبا، وكان يؤمن بأن أوروبا لن تنعم بالسلام ما لم يتم نفي نابليون إلى مكان بعيد، لكن أحداً لم ينصت إليه.

التعليق :

بدلاً من محاولة فرض رأيه قام تاليران بالانتظار والترقب والعمل بهدوء وفي النهاية كسب إلى صفه كاسلراي ومترينيخ وزيري خارجية انجلترا والنمسا. عمل الرجال الثلاثة معا على إغراء نابليون بالهرب، بل أن وسوسة كولر له بالمجد الذي سوف يلقاه كانت جزءاً من الخطة. تصرف تاليران كمقامر محترف وأعد لكل شيء مسبقاً وكان على ثقة من أن نابليون سيقع في الفخ الذي نصبه له، وكان واثقاً أيضاً أن نابليون سيقود فرنسا لحرب لن تستمر نتيجة ضعف البلاد لأكثر من أشهر قليلة.. قال أحد الدبلوماسيين في مؤتمر فينا كان يعلم أن تاليران هو مخطط هذه الأحداث وأنه «أشعل النيران في المنزل ليخلصه من الطاعون».

الخلاصة: يقول أوتوفون بسمارك حين أضع الطعم لصيد الغزلان لا أطلق السهام على أول ظبي يأتي ليتشممه؛ بل أنتظر إلى أن يأتي القطيع بكامله.

المصدر: THE 48 RULES OF POWER, ROBERT GREEN

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

نصائح لتطوير اللغة عند طفلك المتأخر

كيف أتعامل مع طفلي الحساس جداً

عادات يومية تقوّي الروابط بينك وبين أبنائك

كيف تزيد حركة الطفل معدل ذكائه

الأمراض النفسية عند المراهقات

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق