متلازمة «آسبرجر»
تُعتبر متلازمة «آسبرجر» أحد الاضطرابات النمائية التي تصيب الأطفال في مراحل عمرية متقدمة، ويحدث نتيجة اضطراب في الجهاز العصبي؛ حيث يؤثّر سلبًا على وظائف المخ في الطريقة التي يتم من خلالها جمع المعلومات ومعالجتها بواسطة الدماغ، مما يُسّبب خللًا أو عجزًا في التفاعل الاجتماعي واللغة والتواصل غير اللفظي.
وهو يتشابه بشكلٍ عام مع التوحد في بعض الأعراض والمُسبّبات؛ وهناك الكثير من الفرضيات التي تدرّس كنظرياتٍ مسبّبة له دون الجزم بإحداها، وتتنوّع بروتوكولات العلاج ما بين علاجٍ دوائي وسلوكي ووظيفي.
تُنسب هذه المتلازمة للطبيب النمساوي هانز آسبرجر Hans Asperger الذي اكتشفها عام 1944م، ووصفها بأنها أحد اضطرابات الشخصية، وأنّها تتشابه في أعراضها مع اضطراب التوّحد الذي وصفه الطبيب الأمريكي ليو كانر kanner Leo عام 1943م، وهو أول من وضع وصفًا منهجيًا للتوّحد عند الأطفال، وقد أطلق الطبيب آسبرجر على الأفراد الذين يعانون من هذه المتلازمة اسم Autistic Psychopaths، وتعني الجائحين ذوي التوّحد. وقد ذكر آسبرجر أن هذه المتلازمة تظهر عند الكبار وليس فقط الأطفال، وأشار إلى أنها ليست مرضًا بل جزء من تكوين الفرد يُولد به، أي له أساس جيني.
وتُعدّ الطبيبة الإنجليزية لورنا وينج Wing Lorna أول من أطلق مصطلح متلازمة آسبرجر عام 1981م عندما نشرت دراساتها عن بعض الحالات معتمدة في محاكاتها الشخصية على دراسة هانز آسبرجر عام 1944م، ونظرًا للتشابه بين كل من التوّحد وآسبرجر من حيث بعض الأعراض، فكان يُطلق على الحالات التي تعاني من هذا الاضطراب؛ توّحد البالغين Adult Autism لظهور أعراضها في سن متأخرة على العكس من التوّحد، كما كان يطلق عليها إعاقة التوحد الخفيف Mild لسرعة استجابتها للتدخل العلاجي؛ حيث لا يصاحبها تأخُّر لغوي ولا تخُّلف عقلي على عكس التوّحد، وخلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كان يُطلق على حالات متلازمة آسبرجر مصطلح الشخصية الفصامية Schizoid Personality، وأطلق عليها في البداية اسم سيكوباتية الذاتوية Autistic Psychopath . وقد أدى هذا التقلب في تصنيف تلك الحالات، إلى قصور برامج وسائل الرعاية الطبية والتربوية والاجتماعية اللازمة، واستمر الحال على هذا النحو من التدخل حتى وردت متلازمة آسبرجر كاضطراب مستقل ضمن إعاقات النمو البشري بالدليل العاشر لتصنيف الأمراض الخاص بمنظمة الصحة العالمية 1994م.
الأعراض والمسببات
تتعدّد الخصائص والأعراض المميّزة لمتلازمة آسبرجر وتختلف من حالة لأخرى، وتشترك أعراضه مع العديد من الأعراض المعروفة للتوّحد لكنها تظهر أقل شدة، وكلاهما يشترك في عجز شديد في التواصل الاجتماعي، والحقيقة فإنه يندر أن نجد في حالات آسبرجر حالتين متماثلتين بدرجةٍ كبيرة من حيث الأعراض والخصائص. أما عن أسبابها، فلا يوجد سبب واضح حتى الآن على الرغم من أن الدراسات والأبحاث تدعم احتمال وجود أسس جينية للمتلازمة؛ فالبعض يُرجع أسبابه للعوامل الوراثية.
وتتميّز حالات آسبرجر باختلالات كيفية ونوعية في التفاعل الاجتماعي والتواصل غير اللفظي وحصيلة محدودة من الأنشطة والاهتمامات والمشاركة الوجدانية وفهم العواطف والانفعالات والتعبير عنها، مع وجود تأخر ملحوظ في النمو اللغوي أو الوظيفة المعرفية أو الاعتماد على الذات، ومن أهم الخصائص السلوكية لحالات آسبرجر والتي يمكن تصنيفها لأعراض خاصة باللغة والكلام كصعوبات في استخدام الضمائر بشكلها الصحيح واضطراب في تكوين الجمل، وفي فهم مضمون الكلام المسموع والمقروء واستيعابه، ولغة لفظية تتسم بالرتابة والتكرار الممل والتكلف والسطحية والتفكُّك، وبعض الصفات الصوتية في الكلام كالمط والتطويل في نطق الألفاظ، والتفوُّه ببعض العبارات غير الواضحة وغير المتناسقة، كما يمتاز مصابو آسبرجر بأنهم كثيرو الكلام بحماس حول موضوعات ليست لها أهمية تذكر، وينتقلون في الحديث من موضوع لموضوع مختلف فجأة ومن دون أي اعتبار لمتابعة الآخرين لحديثهم ولا ينتظر سماع تعليقهم على ما يقولون، وأعراض خاصة بالتفاعل الاجتماعي المتبادل تتمثّل في عدم إدراكهم وفهمهم لمشاعر الآخرين.
الفرق بين التّوحد والآسبرجر
في الحقيقة إنّ متلازمتي آسبرجر والتوّحد تشتركان في أعراض متشابهة للدرجة التي تدفع العديد من العلماء باعتبارهما متلازمة مرضية واحدة.
ويرى الكثير من الباحثين أنّ آسبرجر هو أحد أشكال طيف التوّحد؛ حيث يتشابه معه في الأساس البيولوجي للاضطراب والآثار المترتبة على نمو المخ والعقل غير أن المظاهر السلوكية لعرض آسبرجر تكون مختلفة نوعًا ما، ودائمًا ما ينظر الباحثون إلى عرض آسبرجر على أنه درجة خفيفة من التوّحد، كما أن التوّحد يظهر في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل بينما لايكتشف الآسبرجر إلا بعد السنة السادسة وما فوق من عمر الطفل، وهذه المتلازمة تختلف عن غيرها من اضطرابات طيف التوّحد من ناحية الحفاظ النسبي على استمرارية تطوير الجوانب اللغوية والإدراكية لدى المريض، فيُعد الآسبرجر أرقى مدى وظيفي في سلسلة الاضطرابات النمائية النافذة، فالأطفال ذوو متلازمة آسبرجر غالبًا ما تكون لديهم قدرة معرفية تتراوح بين المتوسط إلى فوق المتوسط، وهم على عكس الأطفال ذوي اضطراب التوّحد لا يوجد لديهم تأخير إكلينيكي ملحوظ في اللغة وفي تكوين حصيلة لغوية، بينما يتمتّع الآسبرجر بحصيلةٍ لغوية لا بأس بها مع أنهم يعانون من صعوبات في التخاطب والتعبير، كما أن الطفل التوحدي منغلق على نفسه تمامًا بينما طفل الآسبرجر يحس بمن حوله ويتعرف عليهم لكنه يعجز عن تكوين علاقات، لذلك دعا بعض الباحثين والمصابين بالآسبرجر إلى تغيير الموقف القائم تجاه المرض، قائلين بأنه ليس مرضًا وإنما عبارة عن (اختلاف) بين المصابين بهذه المتلازمة وغيرهم من أفراد المجتمع، أكثر من كونه (إعاقة).
لذلك أصبح مسمّى آسبرجر لا يخيف العديد من الآباء على اعتبار أنّ هذا الاضطراب يصاحبه نوع من القدرة الخارقة أو العبقرية؛ فهم يتمتعون بدرجةٍ عالية من الذكاء، وقد اكتسب المصابون بمتلازمة آسبرجر شهرةً كبيرة، وتمت كتابة العديد من القصص والروايات عنهم، فعلى سبيل المثال الكاتب الإنجليزي مارك هادون؛ الشاعر والروائي المتخصّص بأدب الطفل في روايته The precarious incident of the dog in the night time أو الحدث الغريب لكلب أثناء الليل، فيصف في الفصل الثاني من هذا الكتاب طفل آسبرجر بأنه يُمثل إحدى شخصيات رواياته معبرًا عن قدراته الخارقة من خلال شخصية Christopher John Francis Bonne.
آسبرجر وبروتوكولات العلاج الحديثة
في الحقيقة لا توجد علاجات مؤكّدة حتى الآن، حيث إن المسبِّبات أيضًا غير معروفة، وتتنوّع الاجتهادات في أشكال وبروتوكولات العلاج المقترحة لمرضى التوحد بشكلٍ عام ومتلازمة آسبرجر بشكلٍ خاص ما بين العلاج الدوائي والسلوكي والوظيفي؛ ويهدف التدخل إلى تحسين الأعراض والتخفيف من حدتها والأداء الوظيفي. ويشكّل العلاج السلوكي الركيزة الأساسية في العلاج؛ حيث يتم التركيز على معالجة العجز في مهارات التواصل والأفعال الروتينية المتكرّرة والمهارات الجسدية.
هناك بعض بروتوكولات العلاج الحديثة للتكيّف مع أعراض متلازمة آسبرجر منها على سبيل المثال؛ تمرين المرآة، وذلك للتدرّب على المهارات الاجتماعية لتحسين التفاعل مع الآخرين، ويتم ذلك بالوقوف أمام المرآة وإعادة المحادثات التي لم يستطع المشاركة فيها. أيضًا من الطرق العلاجية تمارين التنفّس والاسترخاء عن طريق إغماض العينين والتنفُّس العميق قبل الذهاب إلى أي لقاء اجتماعي لمدة خمس دقائق، ويمكن للمريض الذهاب إلى مكان يجد فيه بعض الخصوصية ويكرّر التمرين حال شعوره بالإجهاد أو القلق خلال اللقاء، فضلًا عن التمارين الحسية الحركية؛ وذلك بتركيب المجسّمات باستخدام الألعاب المختلفة، أو اللعب بقطع المكعبات أوالعلاج بالرسم والتلوين والمعروف بفن المانديلا، أو بحل بعض المسائل الرياضية والمعادلات، مما يُعطى شعورًا بالاسترخاء والراحة، فضلًا عن العلاج الجسدي والرياضي؛ حيث إن الرياضة والجهد البدني يُقلّلان الشعور بالقلق والتوتُّر، ويعطيان حالة من الثقة.
العلاج الهرموني
هو أحدث بروتوكولات علاج متلازمة آسبرجر؛ حيث يُعتبر العلاج بالهرمونات أحد أشهر الطرق العلاجية المقترحة ضمن هذه البروتوكولات، وتُعتبر الهرمونات مواد كيميائية يتم إنتاجها في الغدد الصماء وتُفرز بالدم مباشرةً، ولها تأثيرٌ كبير على صحة وعمل جسم الإنسان؛ فهي تتحكّم في معظم الوظائف الرئيسية لجسم الإنسان وتؤثر على حالته النفسية والمزاجية؛ حيث يعمل هذا العلاج على تحسين مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي لديهم، لذلك يمكن أن يكون العلاج بالهرمونات مفتاح التخلُّص من اضطراب التوحد مستقبلاً، ولعل من أشهر أمثلة هذه الهرمونات؛ هرمون الفاسوبريسين Vasopressin وهو هرمون نيوروبيبتيدي يُعزّز عمل الناقلات العصبية، مِما يساعد بدوره الخلايا والناقلات العصبية في الدماغ ويُحفّزها على التواصل مع بعضها البعض، وبالتالي يزيد من مهارات التواصل الاجتماعي بين الإنسان ومحيطه الذي يعيش فيه وهرمون الأوكسيتوسين Oxytocin، ولوحظ مدى تأثير الأوكسيتوسين في الناحية النفسية للإنسان خصوصًا في توليد الشعور بالثقة، ويُعدّ انخفاض مستوى هرمون الأوكسيتوسين عند البعض السبب في انعدام مشاعر العطف أو التعاطف والمشاركة الوجدانية والتبلُّد، وقد لوحظ أن معدل هرمون الأوكسيتوسين لدى أطفال طيف التوحد ASD منخفض عن ذويهم الأصحاء، وقامت الأبحاث بتجارب لقياس نشاط الدماغ في حالة استنشاق هذا الهرمون لتجربة الاستفادة منه في علاج بعض الأمراض النفسية مثل الرُهاب الاجتماعي ومرضى التوحد، ووجد أنّه يُقلّل من المخاوف الاجتماعية، ويحثّ على التفاؤل ويزيد من احترام الذات ويبني الثقة؛ حيث نجح هرمون الأوكسيتوسين في تحقيق هدفه من خلال تعزيز الإشارة إلى الناقل العصبي «غابا» (حمض غاما-أمينوبيوتريك)، وهرمون السيروتونين Serotonin؛ وهو الهرمون المعروف بهرمون السعادة، وهو ناقل عصبي أحادي الأمين تنتجه الخلايا العصبية، وهو مسؤول عن نقل الرسائل بين الخلايا العصبية وإنتاج الاستجابات المختلفة، ويُعتبر بمنزلة الهرمون الرئيسي الذي يعمل على استقرار الحالة المزاجية للإنسان ومشاعر الفرح والسعادة، ويساعد على الشعور بمزيد من النشاط والطاقة ، ويزيد من الإيجابية والاسترخاء وغيرهما من الهرمونات. وتعتبر الغدة النخامية المسؤول الرئيسي في عمل معظم هذه الهرمونات وضبط نسبتها في الجسم، ويجب مراعاة التوازن في نسب هذه الهرمونات ومتابعة نسبها بالقياسات الدورية في الدم، فالدقة في معدلاتها ضروري لتوازن حالة الجسم النفسية خاصة للأطفال المصابين بحالات آسبرجر بشكلٍ خاص وأطفال طيف التوحد بشكلٍ عام.
وأخيرًا؛ فمما لا شك فيه أن أطفالنا فلذات أكبادنا نسعى دائمًا للارتقاء بحالتهم الصحية والنفسية، وتعزيز التواصل الاجتماعي وتنمية مهاراتهم المختلفة للاندماج في المجتمع وممارسة حياتهم الطبيعية وتقبُّل المجتمع لهم.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
كيف أجعل طفلي مستقلاً دراسياً؟
نصائح لكي يذاكر الطفل دروسه بمفرده
تعديل سلوك الأطفال في البيت والمدرسة
قصة ملهمة: محمد من السنغال يعيش في سويسرا
أفكار لترتيب ألعاب وكتب الأطفال
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق