السبت، 8 يوليو 2023

• اصنع لنفسك الهوية التي تُكسِبك السَّطوة


القاعدة 25 من كتاب 48 قانون للقوة

الحكمة:

لا تقبل بالأدوار التي يفرضها عليك مجتمعك، بل حَقِّقْ لنفسك كياناً جديداً بابتکار هويةٍ تجذب إليك إعجاب الناس واهتمامهم. واحرص على أن لا تجعل جمهورك يملّ منك أبداً. تَحَكَّمْ بصورتك لدى الآخرين ولا تترك للآخرين أن يحددوا لك تَصَوُّرَك عن نفسك.

استخدام الأساليب المسرحية في الحديث والحركة سوف يزيد من سطوتك ولن يراك الناس بعدها بشراً عادياً بل أقرب للأساطير.

مراعاة القاعدة 1:

أَتَتْ أُولى اختراقات يوليوس قيصر نحو قمة المجتمع الروماني في عام 56 ق. م.، حين تولّى منصب أمين عام الخزائن أي الموظف المنتخب للإشراف على توزيع الغِلال وتمويل الاحتفالات الشعبية.

وقد تَحَقَّقَتْ شهرته لدى الجماهير بعد أن نَظَّمَ باقتدارٍ سلسلةً من الاحتفالات المُبهرة والمكلفة من صيد الحيوانات البرية وعروض المجالدة والمنافسات المسرحية، وكان يدفع بعض تكاليف هذه الاحتفالات من ماله الخاص.

أصبح اسم يوليوس قيصر مرتبطاً في أذهان الجماهير بهذه الأحداث التي يعشقونها، وبعد أن تَرَقّى إلى منصب القنصل كانت جماهيريته واشتهاره بأنه رجل المهرجانات العظيم الأساس الذي بَني عليه سطوته.

في عام 49 ق. م. کانت روما على شفا حربٍ أهلية بين قائديها المتنازعين قيصر وبومبي، وفي ذروة التوتر واحتدام الصراع ذهب قيصر الذي كان مُدمناً على ارتياد المسارح لحضور أحد العروض، وأثناء عودته إلى معسكره ضَلَّ طريقه وتاه في الظلام. كان قيصر قد أقام معسكره خارج الحدود على ضفة نهر الروبيكون الذي يفصل إيطاليا عن بلاد الغال (التي هي بالتقريب فرنسا وبلجيكا الحاليتين)؛ لأن عبوره النهر وعودته بقواته إلى إيطاليا كانت تعني بدء الحرب فوراً مع بومبي.

عَرَضَ قيصر على قادة قواته الخيارين بأداءٍ مسرحيّ يُشبه أسلوب هاملت الذي صاغه شكسبير بعد ذلك بكثير، وأنهي مناجاته بإشارة إلى البعيد حيث كان يظهر شبحياً في الظلام جنديٌ يعبر جسراً فوق النهر ويطلق نداءً بالبوق، صاح بهم قيصر: «لنأخذ ذلك كإشارة من الآلهة ونذهب إلى حيث تأمرنا؛ أي إلى الانتقام من أعدائنا المنافقين. حُسِمَ الرأي ونُفِّذَ المكتوب».

كان قيصر يتكلم إلى جنرالاته وينظر في عيونهم بثبات كأنه نذيرٌ من السماء. كان قبلها يعلم أن قرارهم لم يكن قد استقر بعد على مناصرته، لكن بيانه وبلاغته أخذا بألبابهم وبَثّا فيهم الحماس والرغبة في عدم إهدار المزيد من الوقت. لم يكن أي أسلوب آخر ليؤدي نفس الأثر، فقد تسارع الجنرالات لنصرته وعبروا نهر الروبيكون وفي العام التالي قضوا على بومبي ليصبح قيصر حاكماً أوحد وديکتاتوراً على روما.

في المعارك كان قيصر يبرع دائماً في لعبِ دور القائد، فكان لا يقلّ مهارةً عن أي فارس من جنوده في امتطاء الجواد، ويتفاخر بتجاوزهم جميعاً في الشجاعة والثبات. كان يهاجم في مقدمة الصفوف بحيث يراه جنوده في قلب المَعمَعة يثبتهم بحماسه، وكان يضع نفسه دائماً في مركز الصفوف فتبرز سطوته لأتباعه رمزاً يوحدهم ومثالاً يحتذون به. كان جيش قيصر أكثر جيوش روما إخلاصاً لقائده، وكان جنوده تماماً كعامة الناس الذين حضروا مهرجاناته يجدون أنفسهم مأخوذين بشخصيته ومتوحدين مع غاياته.

بعد هزيمة بومبي تصاعدت المهرجانات وبلغت حدوداً لم تشهدها روما من قبل، وأصبحت سباقات المركبات أكثر روعة وأصبحت المجالدة أكثر إثارة حيث انضم النبلاء إلى القتال، وأقام عرضاً تمثيلياً هائلاً لحرب بحرية في بحيرة اصطناعية. كانت العروض تُقام في كل الساحات الشعبية في روما، وبُنِيَ لها مسرحٌ ينحدر بشدة أسفل صخرة تاران. تدافعت الجموع من كل الإمبراطورية لحضور المهرجانات، وكانت خيام الزوار تُغطّى الطرق المؤدية إلى روما. وفي عام 45 ق. م. ولكي يجعل عودته من حملته إلى مصر أكثر إجلالاً وسحراً، أتى معه بكليوباترا، وأقام احتفالات أكثر أبداعاً وكلفة.

لم يكن المقصود بهذه الاحتفالات مجرد إلهاء الشعب بل كانت تعزز بقوة من إحساس الجماهير بشخصية قيصر وجعلته يبدو لهم أقرب إلى الأساطير، كان قيصر يُتقن التَّحَكُّمَ بصورته لدى الناس، وكان دائم الانتباه لها والحفاظ عليها. لم يكن يظهر أمام الجموع إلا في رداءات قرمزية رائعة، ولم يكن في مقدور أحد أن يفوقه في المهابة والوقار، وكان معروفاً أنه يختال بمظهره. وقيل أن ما كان يُحبّه في تكريم الشيوخ والشعب له أنهم كانوا يلبسونه أكاليل الغار يخفي بها صلعته. كان قيصر خطيباً مُفَوَّهاً، يوجز الكثير من المعاني في القليل من الكلام، ويعرف اللحظة التي ينهي فيها خطبته لِيُحقِّق أكبر تأثير، ولم يكن يفوته أبداً أن يفاجئ الجماهير ويستثير حماسهم بإعلان شيء جديد في كل مرة يخاطبهم.

أثارت محبة الجماهير الشديدة لقيصر الكراهية والخوف لدى منافسيه، وفي منتصف مارس من عام 44 ق. م. أحاطت به جماعة من المتآمرين داخل مجلس الشيوخ يقودها بروتوس وكاسيوس وظلوا يطعنونه إلى أن فارق الحياة. وحتى في موته ظلّ قيصر محافظاً على حِسِّه المسرحي فسحب رداءه وغطى به وجهه وترك الجزء الأسفل ينزلق إلى قدميه حتى لا ينكشف جسده ويموت بكرامة. وعلى حسب رواية المؤرخ اليوناني سويتينيوس؛ كانت كلماته الأخيرة موجهة إلى صديقه القديم بروتوس حين كان يهم بطعنه الطعنة الثانية، فقال وكأنه ممثل يؤدي مشهداً ختامياً في مسرحية: «حتى أنت يا بني».

التعليق:

كان المسرح الروماني احتفالاً مخصصاً لعامة الناس، تحضره جموعٌ لا يمكن لنا اليوم أن نتخيلها؛ يحتشدون في ساحات هائلة تضحكهم فظاظة الكوميديا وتثير أشجانهم حساسية التراجيديا. ظهر المسرح وكأنه يركز هَمَّ جوهر الحياة، وكانت له سطوة كسطوة الدين على الرجل البسيط.

لعل يوليوس قيصر أول شخصية عامة تدرك العلاقة بين المسرح والسطوة، وربما كان ذلك ناتجاً عن هوسه الشخصي بالدراما، ولكنه ارتقى بهذا الهوس ليصبح هو نفسه ممثلاً على مسرح الحياة، فكان يلقي كلماته وكأنها من نص مكتوب، ويحكم لَفْتاتِه وحركاته مركزاً باستمرار على تأثيرها في الحاضرين. وكان يستعين بإدهاش الناس ولَفْتِ أنظارهم، ويستفيد من الأداء المسرحي في خُطَبِهِ، وكان كالمخرج يُنَسِّقُ مشهدَ ظهوره في أعين الجماهير. كان أداؤه سلساً وبسيطاً يسهل على العوام فهمه، وكانت شهرته وتأثيره في الناس يتجاوزان كل الحدود .

يوليوس قيصر مثالٌ مُتقنٌ لما يفعله القادة وأصحاب النفوذ، وعليك أنت أيضاً أن تتعلم أن تستفيد من الأساليب المسرحية لترفع بها من قدر أفعالك وتأثيرها، كأن تستثير الدهشة أو التشويق أو التأثر لدى الآخرين، وأن تتوحد مع الرموز التي يعتزون بها. عليك أيضاً أن تقتضي بقيصر في التنبه باستمرار لجمهورك والتعرف على ما يَسَرُّهُ وما يُنَفِّرُه، وأن تضع نفسك في مركز الانتباه وأن تلفت الأنظار ولا تسمح لأحد أن يبرز عليك أو يقلل من مكانتك مهما كان الثمن.

مراعاة القاعدة 2:

في عام 1831 هَجَرَت امرأةٌ شابةٌ اسمها "أورور دوبين دو ديفان" زوجَها وأُسرَتَها في الأقاليم وانتقلتْ إلى باريس سَعيَاً إلى العمل ككاتبة، وكانت ترى أن الزواج أسوأُ عليها من السجن، لأنه لا يترك لها الوقت أو الحرية لمتابعة ما تُحِبُّ، ورأت أنه يمكنها في باريس الحصول على الاستقلال والربح من الكتابة.

لكن بمجرد أن وصلتْ إلى باريس واجهتها الحقائق المريرة، وعَلِمَتْ أنها لكي تنال حريتها في باريس عليها أن تجني الكثير من المال، وأن فرصتها الوحيدة كامرأة للحصول على المال تكون بالزواج أو ممارسة الدعارة، ولم تستطِع أيُّ امرأة قبلها أن تحترف الكتابة أو تجني منها مالاً، فالنساء كُنَّ يكتبنَ كهواية ويغطي نفقاتهن زوجٌ أو ميراث. الواقع أنه حين تقدمت دوديفان بكتاباتها إلى أحد الناشرين قال لها «سيدتي، عليك أن تنتجي أطفالاً لا أدبا».

وفي النهاية وحين رأت دوديفان أن حُلمها في باريس يقارب المستحيل تَوَصَّلَتْ إلى استراتيجية تُمَكِّنُها من تحقيق ما لم تحققه امرأة قبلها، اتخذت لنفسها هويةً جديدة غَيَّرَت نظرة الناس لها. كانت أي امرأة قبلها لا تستطيع أن تتجاوز الدور المحدد لها وهو أن تصبح كاتبة من الدرجة الثانية تنشر موضوعاتٍ لا يهتم بها إلا النساء، ورأت دو ديفان أنه عليها لكي تتجاوز هذا الدور أن تقلب الأمور رأساً على عقب: أي أن تتخذ هويةَ رجل.

في عام 1832 قَبِلَ ناشرٌ شراءَ أُولى رواياتها الهامة "إنديانا" والتي قررت أن تنشرها باسم مستعار هو «جورج ساند». لم يشكّ أحدٌ في باريس أن كاتب هذه الرواية الرائعة ليس رجلاً. كانت دوديفان قبل أن تبتكر شخصية «جورج ساند» ترتدي ملابس الرجال أحياناً لأنها كانت تجد القمصان وسروايل ركوب الخيل أكثر راحة، ولكن بعد أن أصبحت شخصية عامة أخذت تبالغ في هذا المظهر فبدأت ترتدي المعاطف الطويلة والقبعات الرمادية والأحذية الثقيلة وربطات العنق الأنيقة، وأخذت تدخن السيجار وتتبسط في أحاديثها كالرجال ولا تتحرج من أن تفرض رأيها على الأحاديث أو أن تدلي بتعليقات وقحة.

افتُتِنَت الجماهير بهذه الكاتبة الغريبة المرأة / الرجل، وعلى عكس غيرها من الكاتبات تقبلتها بينهم زمرةُ الفنانين الرجال، فكانت تدخن وتشرب معهم بل أقامت علاقات مع أشهر الفنانين في أوروبا من أمثال موسيه وليست وشوبان. كانت هي التي تبدأ بالتَّوَدُّد إليهم وهي التي تهجرهم في النهاية، فقد كانت عازمة على أن تستمر في نَيْلِ تحررها وفي فرض صورتها.

كل من تقربوا من ساند عرفوا أن شخصية الرجل كانت مجرد درعٍ تحمي بها نفسها من النظرات الفضولية للجماهير، فكانت تستمتع في حياتها الخارجية بلعب هذا الدور إلى أقصى حد، ولكن في حياتها الخاصة كانت تحتفظ بشخصيتها الحقيقية. وكانت تعلم أن التكرار يجعل الناس يملّون من شخصية جورج ساند، ولذلك حرصت أن تُجَدِّدَ هَوِيَّتها من آنٍ لآخر، فتَخَلَّتْ عن إقامة العلاقات مع المشاهير وبدأت تنخرط في السياسة وتقود المظاهرات وتستنفر الطلاب على المطالبة بالتطور والتغيير، ولم يستطع أحد أن يضع حدوداً للشخصية التي صنعتها. وحتى بعد موتها ونسيان الناس لرواياتها بفترة طويلة، ظلت هذه الشخصية الأسطورية تفتن الناس وتلهمهم.

التعليق:

أثناء حياة شهرتها ظل الجمهور والفنانون الآخرون يشعرون مع ساند أنهم بصحبة رجل حقيقي، لكن في مذكراتها ومع المقربين منها من أمثال جوستاف فلوبير كانت تعترف أنها لا تحب أن تصبح رجلاً وأنها تتخذ هذا الدور فقط للاستهلاك الجماهيري، وكل ما كانت تريده هو أن تحظى بالقدرة على تحديد شخصيتها بنفسها وأن تتمرد على الحدود التي فرضها عليها المجتمع، لكنها لم تستطع تحقيق ذلك بكونها نفسها بل بارتدائها قناعاً يمكنها أن تغيره حسب رغبتها، وهو قناع كان يجلب إليها الشهرة والمكانة.

تذكر دوماً: المجتمع الخارجي يعمل على أن يفرض عليك دوراً في الحياة، واستسلامك لهذا الدور يدمر حياتك، ويحد سطوتك بالحدود القليلة من الحرية المسموح بها لهذا الدور الذي اخترته أو أجبرت على اختياره. لكن على عكس ذلك نرى الممثل يستطيع أن يؤدي أدوراً كثيرة ويستمتع بسطوة التَّلَوُّن، وإن لم تستطع أنتَ أن تتمتع بتلك الحرية فعليك على الأقل أن تتخذ هوية جديدة من صنعك؛ هوية لا يضع حدوداً لها ولك محيطك الذي تملؤه الأحقاد والحسد. هذا هو التمرد الخلاق الذي يجعلك قادراً على صنع من تكون.

هذه الهوية الجديدة سوف تحميك من العالم الخارجي ببساطة لأنها ليست «أنت»، بل مجرد رداء للتنكر تضعه وتخلعه بإرادتك، ولا يجرحك تجريحه، وهي هوية تمنحك دوراً في المسرحية وتجعل من في آخر الصفوف ينتبهون لك ويستمعون إليك ومن في المقدمة يعجبون بجرأتك وإصرارك.

ألا تسمع الناس في المجتمعات يقولون عن شخص أنه ممثل جيد؟. هم لا يعنون بذلك أنه يجيد التعبير عن ما يشعر به ويرغبه بل يقصدون أنه يجيد المحاكاة دون أن يشعر بشيء (دينس ديدنو 1713-1784).

مفاتيح للسطوة:

الشخصية التي أنت عليها لم تولد بها وليست بالضرورة حقيقتك، فإضافة إلى سماتك الموروثة توجد البصمات التي يتركها الوالدان والأصدقاء والرفاق في تشكيل شخصيتك. المهمة الخلاقة التي تواجه أصحاب السطوة هي أن يتحكموا بهذه العملية وأن لا يسمحوا للآخرين أن يحددوا لهم شخصياتهم. اصطنع الشخصية التي تجلب لك السطوة. تشکيلك لذاتك وكأنها قطعة من الصلصال هو أهم وأمتع الأمور في الحياة، فهي تشعرك بأنك فنان حقيقي؛ فنان يبدع صنع نفسه.

تأتي فكرة صناعة الذات من عالم الفن. لآلاف السنوات لم يكن يُسمح إلا للملوك ورجال الصفوة الكبار حرية تشكيل صورتهم الجماهيرية وتحديد هويتهم الخاصة، وكذلك لم يكن إلا للملوك والسادة الكبار أن تُرسم لهم صور فنية وأن يُعَدِّلوها بإرادتهم، أما باقي البشر فلم يكن لهم إلا لعب الأدوار التي يحددها لهم المجتمع ولم يكن لهم أي وسيلة تمنحهم الوعي بذاتهم.

يمكننا أن نلحظ هذا التحول في لوحة لاس مينيناس لفيليسكيز التي رسمها عام 1656 حيث يظهر الفنان في الجانب الأيسر من اللوحة وهو يرسم لوحة يحجبها ظهره فلا نرى محتواها، وبجانبه تقف إحدى الأميرات ووصيفاتها وأحد أقزام البلاط كلهم يراقبون اللوحة التي يرسمها الفنان، أما الأشخاص الجالسين للرسم فلا نراهم مباشرة ولكن يظهر لهم انعکاس صغير في مرآة معلقة على الحائط الخلفي - إنها ملك وملكة إسبانيا جالسين في المقدمة محجوبين عن الناظر.

تعكس اللوحة بداية تَغَيُّرٍ فارقٍ في آليات السطوة وفي الطريقة التي يُحَدِّد بها الشخص مكانته في المجتمع، لأن فالسكيز الفنان يظهر أوضح بكثير من الملك والملكة، فهو بمعنى ما أعلى منهما سطوةً لأنه هو الذي يتحكم بالصورة- أي بصورتها. تَمَرَّدَ فالسكيز على دور الفنان المتذلل والمحتاج وجَعَلَ من نفسه رجل سطوة. الحقيقة أن أول من استطاع في الحضارة الغربية من غير النبلاء والملوك أن يَتَحَكَّمَ بصورته بحرية هم الفنانون والكُتّاب ثم أتي بعدهم رُوّاد الأناقة والبوهيميون، واليوم تتوغل صناعة الذات في كل طبقات المجتمع وأصبحت مثالاً يتطلع إليه الكثيرون. وكما فعل فالسكيز عليك أن تسعى إلى الحصول على سطوة تحديد مكانتك في اللوحة وأن تصنع لنفسك صورتها الخاصة.

أول خطوة في صناعة الذات هي الوعي بنفسك وأن تنظر لنفسك كممثل يتحكم بمظهره وانفعالاته. وكما يقول ديدرو فإن الممثل السيء دائما هو الممثل الصريح، فالأشخاص الذين يعيشون بقلوب مفتوحة على المجتمع يراهم الناس مملين ومزعجين، فصراحتهم ليست صادقة ولذلك لا يأخذهم الآخرون بجدية. ومن يبكون ويشکون آلامهم صراحة على الملأ يحصلون مؤقتاً على التعاطف، ولكنه تعاطف يتحول سريعاً إلى ضِيق واحتقار من هوسهم بأنفسهم، ونراهم يعلنون آلامهم لجلب اهتمام الآخرين بهم، ويُنَشِّطُ ذلك جزءاً خبيثاً من أنفسنا يَوَدُّ حرمانهم من تحقيق مرادهم.

الممثل الجيد هو من يستطيع أن يتحكم بنفسه، ويمكنه أن يظهر صريحاً وصادق المشاعر حين يريد، ويمكنه أن يحرك الدموع والتأثر لدى الآخرين دون أن يدمع هو أو يتأثر، فهو يفرز المشاعر خارج نفسه في أشكال يسهل على الجمهور هضمها. أما التمثيل باستدعاء التأثر ويعني أن تستشعر ما تقوله حتى يصدقك الناس فهو قاتل في الحياة الواقعية، فلا يستطيع أي حاكم أو قائد أن يؤدي دوره إن كان كل ما يعبر عنه من مشاعر حقيقياً. لذلك عليك أن تتعلم أن تتحكم بنفسك وأن تتعلم لدونة الممثل بأن تغير تعبيراتك دون أن تتغير مشاعرك، وأن تجعل وجهك قابلاً للتشكل بالتعبير الذي يستثير المشاعر التي تريدها من الآخرين.

الخطوة الثانية في صناعة الذات هي تحوير لاستراتيجية جورج ساند: أي أن تبتكر شخصية لا تُنسى وتُجبر الآخرين على الانتباه لها وتُبرزك بين كل المؤدين الآخرين على المسرح. تلك كانت خطة إبراهام لينكولن. كان لينكولن يعلم أنه لم يسبق أبداً للأمريكيين أن انتخبوا للرئاسة رجلاً من النوع الريفي الخشن، وأنهم سوف يرحبون به إن تقدم للانتخاب. على الرغم من أن هذه الصفات كانت طبيعية لديه إلا أنه أكدها بطريقة الملبس والقبعة واللحية (فلم يكن أي رئيس قبله ملتحياً) ، كما أنه أول رئيس يستخدم التصوير الفوتوغرافي لنشر صورته لدى الجماهير ليؤكد لديهم الانطباع بأنه «الرئيس الريفي الخشن».

إلا أن المسرح الجيد لا يقتصر على مشهد واحد بارز أو على لحظة واحدة مؤثرة، فالتأثير المناسب ينكشف بمرور الوقت ويعتمد على الإيقاع والتوقيت. وأهم عناصر الإيقاع في المسرح هو التشويق، ورأينا كيف كان هوديني مثلاً يستطيع أن يهرب من الأغلال خلال ثوانٍ ولكنه كان يطيلها إلى دقائق ليجعل الجمهور يتعرق من الترقب.

السر الذي يمكنك من إبقاء جمهورك في حالة ترقب يكمن في ترك الأحداث تنكشف ببطء والانتظار حتى اللحظة المناسبة ثم التدخل فجأة وتسريعها بنسق وإيقاع تتحكم فيها أنت. وقد استفاد الحكام العظام من أمثال نابليون وماو تسي تونج من هذا التوقيت المسرحي لإبهار شعوبهم أو إلهائهم، كما اكتشف فرانكلين روزفلت أهمية الترتيب والإيقاع في إخراج الأحداث السياسية لإحداث التأثير المطلوب.

في عام 1932 وقت انتخاب روزفلت لرئاسة الولايات المتحدة كانت البلاد تمرُّ بأزمة مالية عصيبة وكانت البنوك تنهار بمعدلات مُنذرة، وبعد فوزه مباشرة بدا وكأنه اختفى عن الساحة ولم يُدْلِ بأي تصريحات عن خطته أو تشكيله للحكومة، ورفض أن يتقابل مع الرئيس السابق هوبرت هوفر لمناقشة عملية انتقال السلطة، وأثناء تنصيبه للرئاسة كانت البلاد في حالة قلق شديد.

في احتفال تَسَلُّمِه السلطة غَيَّرَ روزفلت من إيقاعه تماماً، فألقى خطاباً قوياً وبَيَّنَ أنه سيقود البلاد في اتجاه جديد تماماً، وأنه سوف يتخلص من جُبْنِ وَتَرَدُّدِ سابقيه. من هذه اللحظة تَسارَعَ بشكلٍ لا يُصَدَّقُ معدل خُطَبِهِ وقراراته العامة، كاختيار الوزراء والتشريعات الجريئة، وأصبحت مرحلة التَّسارُعِ التي تَلَتْ تعيينه تُعرف باسم فترة المئة يوماً.

ويعود جزءٌ من نجاح هذه الفترة في تغيير الحالة المزاجية للبلاد إلى مهارة روزفلت في اللعب بالإيقاع والتناقض الدرامي، فكان يترك الجماهيرَ في حالة تَشَوُّشٍ ثم يفاجئهم بسلسلة من التحركات الجريئة والتي كانت تبدو لهم كأنها من وَحيِ اللحظة لأنه لم يكن يُمَهِّدُ لها.

عليك أنت أيضاً أن تفعل کا فعل روزفلت بأن تصنع لحناً للأحداث وأن لا تكشف أوراقك دفعةً واحدة بل تضع لها ترتيباً وإيقاعاً يضفيان عليها تأثيراً درامياً.

الدراما الجيدة تخفي الأخطاء، كما يمكنها أيضا أن تشوش العدو وتخدعه. أثناء الحرب العالمية الثانية كان الكاتب المسرحي برتولت بريخت يعمل كاتباً للسيناريو في ستوديوهات هوليوود، واستدعته لجنة مكافحة الأنشطة المعادية لأمريكا للمثول أمامها بتهمة مناصرة الشيوعية، وكان المطلوبون الآخرون قد قرروا إهانة أعضاء اللجنة بالتعبير عن غضبهم واحتقارهم للاتهامات، أما بريخت فقد اختار أن يتبع أسلوبا أكثر حكمة، قرر أن يتلاعب بأعضاء اللجنة كما يلعب العازف بأوتار الكمان، فيسحرهم ويسخر منهم في آن واحد. أخذ يتدرب على ردوده واستجاباته، ودعم المشهد بمحسنات بلاغية مثل تدخينه للسيجار ونفث دخانه أثناء الاستجواب لأنه كان يعرف أن أعضاء اللجنة يحبون السيجار. الحقيقة أنه استطاع أن يضلل اللجنة بالردود الملتبسة والمضحكة والمراوغة التي أتقنها بالتدريب. وبدلاً من أن يعنفهم بالتوبيخ المباشر والمنفعل أخذ يضللهم بعرض أخرجه جيداً وفي النهاية أطلقوا سراحه وبرأوا ذمته.

اللفتة النبيلة هي أحد التأثيرات الدرامية الأخرى التي يمكنك أن تستخدمها، وهي فعل تأتي به في ذروة الصراع ليرمز إلى تفوقك أو إلى جرأتك. كان عبور قيصر لنهر الروبيكون -حيث يسيطر خصمه ليحضر عرضاً مسرحياً- لفتة نبيلة انبهر بها جنوده وجعلتهم يرون فيه بطلاً أسطورياً لا يهاب الموت.

عليك أيضا أن تقدر أهمية لحظة دخولك ولحظة خروجك من ساحة المسرح. في المرة الأولى التي التقت فيها كليوباترا بيوليوس قيصر في مصر، جاءته تلتف في بساط جعلت خدمها يبسطونه بحيث تنكشف تحت قدميه، وقد تخلى جورج واشنطن مرتين عن السلطة في ذروة مجده وازدهاره (مرة حين كان جنرالاً والأخرى حين رفض أن يتولى الرئاسة لفترة ثالثة)، وأثبت بذلك أنه يعرف كيف يُقَدِّر لكل لحظة أهميتها الدرامية والرمزية. عليك أنت أيضاً أن تتقن الدخول والخروج في ساحات السطوة وأن تخطط لكليهما جيداً.

تذكر أن المبالغة في الأداء تضر ولا تنفع، فهي تظهر بأنك تتكلف وُتجهد نفسك من أجل الحصول على انتباه الناس إليك. اكتشف الممثل المسرحي ريتشارد منذ بداياته المهنية أن وقوفه ساكناً تماماً على المسرح كان يلفت اليه الأنظار ويبعدها عن الممثلين الآخرين، الأهم ليس ما تفعله ولكن الكيفية التي تفعله بها، فرشاقتك وصمتك المهيب تفيدك على المسرح الاجتماعي أكثر من المبالغة في إظهار نفسك والتحرك الفارغ جيئة وذهاباً.

أخيراً، تَعَلَّمْ أن تلعب أدواراً مختلفة وأن تَتَخَيَّرَ الدَّورَ الذي تقتضيه اللحظة، أن تُغَيِّرَ قناع تعبيراتك بتغير الموقف، وأن تجعل وجهك بليغاً في اتخاذ التعبير الملائم. كان بسمارك يُتقن هذه اللعبة، فقد كان ليبرالياً مع الليبراليين ومتشدداً مع المتشددين، ولم يكن أحد يستطيع أن يُحَدِّدَ حقيقته، وما لا تستطيع أن تحدده لن تستطيع أن تهدده.

"بروتياس" رب البحار عند الإغريق يستمد سطوته من قدرته على تغيير شكله بإرادته وحسب ما تقتضبه لحظته، حين حاول مينيلاوس أخو أجامنون أن يُمسك به حول بروتياس نفسه إلى أسد فثعلب فنمر فخنزير بري فماء جار وأخيراً إلى شجرة مورقة.

اقتباس من معلم: کن لكل رجل ما يحب أن يراه، عالماً مع العلماء وزاهداً مع الزاهدين، فذلك يُكسِبك قلوبَ الجميع لأن الطيور على أشكالها تقع. تَعَرَّف على طباع من تُقابلهم وتَعَلَّم كيف تُعامِل الجاد والمَرِح معاً، وأن تُغَيِّر مزاجك بحكمة حسب ما يقتضيه الموقف. (بالتسار جراتسيان 16011658).

عکس القاعدة:

ليس هناك عكسٌ لهذه القاعدة الأساسية، فالمسرح السيء لا يكون إلا مسرحاً سيئاً. فحتى إظهار طبيعتك يتطلب فناً أي تمثيلاً. والأداء السيء لا يؤدي بصاحبه إلا إلى الإحراج. بالطبع عليك أن تتجنب المبالغة والهستيرية في الأداء، ولكن هذا هو واقع المسرح السيء في كل الأحوال، فهو يخالف القواعد العريقة للمسرح التي تشدد على إحكام الأداء.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

  إقرأ أيضاً:

قصة وحكمة: إلعب دور الرجل الودود أحياناً

قصة وحكمة: ابذل كل تركيزك لإخفاء حِيَلك

قصة وحكمة: لا تسمح لإحد أن يتفوق عليك

قصة وحكمة: تَمَرَّد على القيود المفروضة عليك

قصة للأطفال: زهرة اللّيلك

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق