القاعدة 27 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السطوة)
الحكمة:
لدى البشر رغبة لا تقاوم في الإيمان بشيء - أي شيء، وعليك أن تجعل من نفسك رمزاً ملهماً لآمالهم واعتزازهم بأنفسهم؛ بأن تقدم لهم سبباً أو قضية يبذلون أنفسهم من أجلها... قَدِّم لهم أفكاراً تسثير حماستهم بكلمات توحي ولا تُحَدِّد، تُبَشِّر ولا تُنَفِّر. اجعل شغفهم وشاعريتهم يتفوقان على المنطق والواقعية، اصنع لهم طقوساً يؤدونها واطلب منهم أن يبذلوا التضحيات باسمك، فحين تضعف عقيدة الناس وإيمانهم سيمنحك مذهبك سطوةً عليهم لا تحدّها حدود.
علم الشعوذة - خمس خطوات بسيطة تجذب إليك الأتباع:
عند
بحثك الذي لا غنى عنه عن الطرق التي تكسبك أكبر سطوة بأقل مجهود، ستجد أن أكثرها
فعالية هو أن تصنع لنفسك طائفة من الأتباع. كثرة الأتباع تفتح لك باباً واسعاً
لأنواع من الخداع تظهرك فوق البشر. حينها لن يمجدك الناس فحسب بل يصدون عنك أعداءك
ويتنافسون في جذب أتباعٍ جدد إلى طائفتك الفتية، وسوف تأخذك هذه السَّطوة إلى أفق
جديد، ولا يكون عليك بعدها أن تكافح أو أن تتحايل لِيُنَفِّذوا لك ما تريد، بل
سيفعلون كل ما تتمنى بعشق وتقديس يجعلك في عيونهم مُنَزَّها عن الخطأ.
قد
تظن أن جذب الأتباع إليك معضلة فوق قدراتك لكنها في الحقيقة أبسط كثيراً مما تظن،
لأننا كبشر تحكمنا رغبة مفرطة في الإيمان بأي شيء، وذلك يجعلنا ساذجين للغاية بشأن
ما نريد أن نصدق: ذلك أننا ببساطة لا نتحمل الفترات الطويلة من الشعور بالخواء
والتَّشَكُّك الذي يأتي مع غياب الإيمان، وحين يَعرض علينا أي شخص صيحةً جديدة، أو
ترياقاً للشفاء من أمراضنا، أو وسيلة للثراء السريع، أو أحدث ما أنتجه العلم
سيجدنا كالأسماك التي تتقافز من الماء لابتلاع الطعم، إذا نظرت في التاريخ فستجد
أخباراً عن آلاف الصيحات والمذاهب التي أخذ الناس ينجذبون إليها أفواجاً، وبعد حين
تبدو لمن يسمع بها فجة وساذجة رغم أنها في وقتها كانت تبدو لأتباعها نبيلة
وروحانية بل أنهم قد يرونها قريبة من الوحي الإلهي.
رغبتنا
في الإيمان تجعلنا نبتدع أبطالاً وقديسين ومذاهب نعتنقها، فلا تجعل هذه السذاجة
تضيع هباءً، بل استغلها لصالحك، اجعل من نفسك البطل أو القديس الذي يلتف الناس
حوله ويمجدونه.
كان
المشعوذون الأوروبيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر بارعين في فنون جذب
الأتباع إليهم. كانوا مثلنا يعيشون في زمن تحولات: كان الدين يفقد سطوته، والعلم في تصاعد، وكان الناس
متعطشين للالتفاف حول مناصرة قضية أو غاية أو معتقد جديد. حينها بدأ المشعوذون يُرَوِّجون
للترياق الشافي من كل الأمراض والخيمياء التي تحقق الثراء. كانوا يتنقلون من مدينة
إلى مدينة يستهدفون التجمعات الصغيرة إلى أن اكتشفوا بالصدفة الحقيقة المذهلة عن
الطبيعة البشرية - وهي أنه كلما زاد حجم الجماعة التي تلتف حولك أصبح من الأسهل
عليك أن تجعلهم ينخدعون بك.
كان
المشعوذ يقف فوق صندوق خشبي وتتوافد إليه الجموع للاستماع لما يقول، وفي ظل
الجماعة تسيطر على الناس المشاعر ويغيب العقل. لو تحدّث المشعوذ إلى كل منهم على حِده
لرأوا أن ما يقوله أَسْفَهُ من أن يُصدِّقه أحد، لكن وسط الحشود تأخذهم النشوة
العميقة لحضور الجماعة ويصبح من المستحيل على أي منهم أن يتناءي بنفسه ليفكر فيما
يقال، وأي خلل في ما يطرحه المشعوذ يرتقه حماس الجماهير، وتتنقل الحراسة والشغف
بين الجموع کالعدوى فيخرصون كل من تسول له نفسه أن يتشكك أو يشكك الآخرين. تأمل
المشعوذون هذه الآليات عبر عقود من الممارسة والتكيف التلقائي مع المواقف التي
تستجد فأتقنوا علم جذب الحشود والسيطرة عليهم، واستطاعوا أن يجعلوا من الحشود أتباعاً
ومن الأتباع طوائف تؤمن بما يملونه عليهم.
قد
نظن أن حِيَل المشعوذين لم تعد تثير إلا سخرية الناس في وقتنا الحاضر، لكن الحقيقة
هي أنه لا يزال بيننا آلاف من المشعوذين يستخدمون الطرق التي ظل أسلافهم
يستخدمونها لقرون، لم يتغير إلا أساء ترياقهم ومظاهر طوائفهم. اليوم نجد أمثال
هؤلاء المشعوذين في كل مجالات الحياة - كالتجارة والسياسة والفن. ربها يستخدم
الكثيرون من هؤلاء أساليب المشعوذين دون أن يعرفوا شيئاً عن تاريخها، لكن عليك أنت
أن تكون منظماً ومنهجياً في مساعيك وأن تتبع الخطوات الخمس التالية التي أتقنها
أسلافنا المشعوذون بالتجربة لجذب الأتباع وتكوين الطوائف:
الخطوة 1: اجعل كلامك
بسيطاً ويحتمل أكثر من معنى.
لكي تتخذ من الناس أتباعاً عليك أولاً أن تلفت انتباههم إليك، ولن يتحقق لك ذلك
بالأفعال، لأن من السهل قراءتها وتفسير مقاصدها، لذلك عليك بالكلمات لأنها مبهمة
وخادعة. احرص على أن تشتمل لقاءاتك وأحاديثك وخطبك الأولى إلى الناس على عنصرين:
أولاً أن تعدهم بإحداث تحولات كبيرة في حياتهم، وثانياً أن يَتَّسِم كلامك
بالالتباس التام والمراوغة. هذا المزيج سوف يطلق لدى من يستمعون إليك أشكالاً
متنوعة من الأحلام المسترسلة، وستجد كل منهم يربط بين ما تقول على طريقته ليرى ما
يريد أن يراه.
لكي
يكون لهذا الالتباس جاذبية لدى الناس عليك باستخدام الكلمات الرنانة التي تثير
الشغف والحماس، ولكن دون أن تلتزم بمعنى محدد؛ يمكنك مثلاً أن تُطلق على الأمور
العادية تسميات شاعرية خلابة، كما يمكنك أن تدعم ما تقول بالأرقام والإحصاءات
واصطلاحات تبتدعها لتصف بها أفكارك المبهمة. كل ذلك سوف يضفي الانطباع بتعمقك
وتخصصك في الموضوع الذي تعرضه. بنفس الطريقة عليك أن تجعل مذهبك يبدو حديثا
وأفكارك متقدمة بحيث يصعب على معظم الناس فهم ما تقول. إن أتقنت صياغة هذا المزيج
من التبشير بالتحولات الحالمة واستخدام المفاهيم الفضفاضة التي تستثير حماسة الناس
وليس إدراكهم للواقع، يصبح من السهل عليك أن تأسرهم إليك فتتكون منهم طائفة تتبعك
وتلتزم بأفكارك.
صحيح
أنك إن بالغت في الإبهام والالتباس لن يقتنع بك أحد، إلا أن الأخطر عليك أن تكون
محدداً، إن أوضحت للناس بالتفصيل الفوائد التي يحصلون عليها من اتباع أفكارك فسوف
يطالبونك بالوفاء بما وعدتهم به.
على
مناشدتك للناس أن تتصف إضافة إلى الإبهام بالبساطة؛ ذلك أن أغلب مشكلات الناس لها
أسباب معقدة كالمخاوف العميقة والظروف الاجتماعية المتشابكة، وهي جميعاً أمور
تتجاوز الحاضر وتضرب بجذورها بعيداً في الماضي ويصعب عليك أن تحصرها أو تتفهمها،
كما أن أغلب الناس لا يكون لديهم الصبر أو النِّيّة للتعرف
على الأسباب الحقيقية لمشكلاتهم، ويحبون من يخبرهم بحلول سهلة تخلصهم من همومهم.
عليك أن تبتعد عن التفسيرات المعقدة للواقع وأن تستخدم الحلول البدائية والعلاجات
الشعبية التي ابتدعها أسلافنا واستخدموها لقرون، أي الترياق السحري الذي يشفي من
كل الأسقام.
الخطوة 2: خاطب الحواس
والأبصار وليس العقل والتفكير. بعد أن يبدأ الناس في
الالتفاف حولك يتهددك خطران قد يصيبان جماعتك وهما الملل والاستهزاء بأفكارك:
الملل يصرف الناس عنك، أما الاستهزاء فيمنحهم الفرصة في النأي بأنفسهم والتفكر
بعقلانية فيما تعرضه عليهم بعيداً عن الضبابية التي أحطتَ بها أفكارك ويرونها على
حقيقتها. عليك إذن أن تُسري عن الضجرين وأن ترد ضربات المستهزئين.
أفضل
الطرق لفعل ذلك هي بالتعلم من المسرح أو ما يشبه المسرح: عليك أن تحيط نفسك بمظاهر
الترف وأن تبهر أتباعك بما يخلب أبصارهم ويفتن عيونهم؛ لن يغطي ذلك على أي خلل في
مذهبك فحسب بل يجذب إليك المزيد من الإعجاب والأتباع، خاطب كل الحواس: غازل أنوفهم
بالروائح العطرة والبخور واطرب أسماعهم بالموسيقى المهدئة، واستخدم اللوحات
والرسوم البيانية زاهية الألوان. عليك حتى أن تداعب عقولهم بأحدث ما أنتجته
التكنولوجيا لتضفي على مذهبك مسحة علمية زائفة طالما أن ذلك لن يحفز عقولهم
ويجعلهم يتفكرون. استعن بالأمور الغريبة والطريفة: استعرها من الثقافات البعيدة
واستخدم الأزياء غير المألوفة لخلق جو مسرحي لتجعل الأمور والأفعال العادية
والمألوفة تبدو وكأنها مقدمات لتحقيق شيء خارق واستثنائي.
الخطوة 3: تَعَلَّم من
الأديان الراسخة كيف تنظم جماعتك. حين تتزايد
أعداد أتباعك يكون عليك أن تصنع لهم هيكلاً أو نظاماً. تعلم من الأديان الكبرى
التي كان ولا يزال لها سطوة راسخة على أعداد هائلة من البشر حتى في عصرنا الحالي
الذي يدعي العلمانية. ربما قد فقد الدين كمؤسسة الكثير من سطوته ولكن أنشطته وممارساته ما زال لها نفس السحر
والتأثير. ليس هناك نهاية للفوائد التي يمكنك أن تجنيها من المشاعر والروابط
الروحانية التي تصنعها الأديان. اصنع لأتباعك نوعاً من الممارسات والطقوس وضع لهم
مراتب وألقاب سامية حسب إخلاصهم لأفكارك، واطلب منهم بَذْلَ التضحيات التي تملأ
خزائنك بالأموال وسطوتك بالوسائل. تَصَرَّف کَمُلْهِمٍ لِتُرَسِّخَ داخلهم الإحساس
بِسُمُوِّ وقداسة مذهبك لأنك لن تستطيع أبدا أن تكسبهم بالقوة أو الطغيان، لذلك
عليك أن تكون أقرب للواعظ أو المرشد الروحاني أو العارف الملهم أو الطبيب الذي
يشفي نفوسهم او آياً ما تريد أن تصف به نفسك لتخفي به سطوتك الحقيقية خلف ضباب من
الروحانية والقداسة.
الخطوة 4: تَکَتَّم
على مصدر دخلك.
بعد أن تنامت جماعتك وأصبح لها ما يشبه الهيكل وبدات خزائنك تمتلئ بأموال تابعيك،
احرص على أن لا تظهر متعطشاً للمال ولما يمنحه لك من سطوة، ولذلك عليك أن تخفي
مصادر دخلك.
يُمَنِّي
أتباعك أنفسهم بانهم باتباعهم لك سيفيض عليهم الخير من كل اتجاه، وإحاطتك لنفسك
بمظاهر الترف تُقَدِّم لهم الدليل الحي الذي يُشعرهم بصدق مذهبك. لا تظهر لهم أبداً
أن مصدر ثروتك هو ما يمنحونه لك من أموالهم بل اجعلهم يظنون أنك حققت ذلك من صواب
تفكيرك وستجدهم يقلدونك في كل تحركاتك أملاً في أن ذلك سيحقق لهم ما تحقق لك، وسوف
يعميهم حماسهم في تقليدك عن حقيقة الشعوذة التي حققت بها ثروتك.
الخطوة 5: اصنع لجماعتك
عدواً يوحدهم ويبغضونه. بعد أن بدأت جماعتك في
التضخم والازدهار، وأصبحت بين الناس كالمغناطيس تجذب إليك الكثير من الأتباع، يكون
عليك أن تحرص أن لا يصيبها الركود والتفكك بفعل الوقت والملل. لكي تبقي عليهم
موحدين عليك أن تفعل ما فعلته كل الأديان والمذاهب من قبل: أي أن تخلق لهم آلية
نحن – ضد... هم.
اجعل
أتباعك يشعرون أنهم رفاق مميزون في جماعة لها رسالة وتوحدهم معاً برابطة من
المساعي المشتركة، ولكي تُقَوِّي من هذه الرابطة ازرع في أذهانهم مفهوم العدو
الحاقد الذي يرغب في القضاء عليهم وعلى طريقتهم المثلى، وبذلك يمكنك أن تصف أي
خارجي يحاول أن يكشف الزيف والشعوذة في مذهبك بأنه أحد الحاقدين الذين يتآمرون
عليكم.
إن
لم تجد عدواً اصطنع عدواً. امنح لأنصارك شيطاناً يرجمونه بالحجارة حتى تقوي روح
الأخوة والترابط بينهم. عندها ستكون قد منحتهم مبادئ يؤمنون بها ويناصرونها وكفاراً
جاحدين يقاتلونهم.
مراعاة القاعدة 1
في
عام 1653
ادّعي فرانسيسکو جويسب بوري وهو شاب من ميلانو في العشرين من عمره أن رؤيا تَكَشَّفَت
له، وطاف بالمدينة يُخبر الجميع أن الملاك ميخائيل اصطفاه ليكون القائد العام
لجيوش بابا جديد سيحكم العالم ويُعيد إليه الروح والنقاء. وأنَّ الملاكَ قد منحَه
القُدرة على رؤية ما في أنفس الناس، وأنه سيكشف له قريباً سِرَّ حَجَر الفلاسفة -
وهي مادةٌ بَحَثَ عنها الكثيرون اعتقاداً أنها تُحَوِّلُ المعادن الرخيصة إلى ذهب،
وَصَفَ معارفُ وأصدقاءُ بوري التَّغَيُّرات التي حدثت له بعد الرؤيا؛ فقد تَخَلّى
عن تَعَلُّقِهِ الشديد بالخمر والنساء والقمار، وتَفَرَّغَ لدراسة الخيمياء، ولم يَعُد
يتحدث سوى عن الغيبيات والبِدَع.
كان
تَحَوُّل بوري سريعاً وإعجازياً، وبدأت كلماتُه تِقِدُ بالحماسُ، وأخذ الناسُ
يتوافدون عليه ويتبعون طريقته، لكن من سوء حظّه أن محاكم التفتيش بدأت تَتَنَبَّهُ
إليه هي الأخرى وكانوا يلاحقون أي شخص يخوض في البدع. جعله ذلك يهجر إيطاليا ويَجولُ
في أنحاء أوروبا من النمسا حتى هولندا يقول للجموع «مَن يتبعني تُكتَبُ له السعادة
الأبدية». كان يجذبُ الأتباعَ أينما حَلّ، وكان أسلوبه بسيطاً: كان يتحدث عن رؤياه
بعد أن زخرفها وأتقنها، وكان يعرض على كل من يُصَدِّق به (وكانوا كثيرين) أن «يرى»
ما في أعماق أنفسهم، وبعدها يُحَدِّقُ في تابعه الجديد
لدقائق يبدو خلالها مأخوذاً بنشوة الوَجْدِ، ثم يقول
للسائل عن درجة التنوير في أعماقه، وإن رآه واعداً يُضيفه إلى قائمته المتنامية من
الحواريين، وكان ذلك تشريفاً جَدِّيّاً لمن يؤمن به.
كان
للطائفة سِتُّ درجات من الروحانية ينالها الحواري حسب ما يري بوري في روحه، ويمكن
للشخص أن يرتقي بها بجهده وتفانيه للطائفة. كان بوري الذي أخذ الناس يطلقون عليه «صاحب
السُّموّ» و«الطبيب الجامع»، يطلب من أتباعه أقصى درجات التقشف، وكان يأمرهم بأن
يمنحوه كل مالهم وممتلكاتهم، ولم يعارضوه لأنه كان يعدهم بأن «دراساتي في الخيمياء
تقترب من اكتشاف حجر الفلاسفة الذي سيمنحنا جميعاً كل ما نتمناه من الذهب».
بعد
أن تَضَخَّمَتْ ثروته أخذ بوري يُغَيِّرُ من نَمَطِ حياته، وأصبحَ يستأجر أفخم
الشقق في المدينة التي يعمل بها ويملأها بأروع الأثاث والكماليات التي بدأ في
اقتنائها، وكان يَتَجَوَّلُ في المدينة في مركبةٍ مُزَيَّنَةٍ بالجواهر تَجرُّها
ستةُ خيول دهماء رائعة الجمال. لم يكن بوري يَستَقِرُّ طويلاً في مكان واحد، وقبل
أن يختفي كان يقول لأتباعه أنه ما زال هناك الكثير من الأرواح الشاردة تنتظر منه
أن يَضمها للقطيع، وكانت شُهرته تَتَرَسَّخُ بغيابه، وأصبح صِيتُه يملأ الآفاق رغم
أنه لم يُحَقِّق أبداً لأتباعه أيَّ شيء ملموس في عالم الواقع.
كان
العميان والعجزة واليائسون ينتظرون قدوم بوري لأن الشائعات أظهرته قادراً على
الشفاء، وجعله رفضه أن يأخذ مقابلاً لخدماته يبدو رائعاً في أعين الناس، بل ادَّعى
البعض منهم أنه قد حَقَّقَ معجزات في الشفاء. لم يكن بوري يفعل أكثر من التلميح
إلى إنجازاته تاركاً لخيال الناس أن يُضَخِّمَها إلى أبعد درجات الخرافة. مثال
لذلك ثروة بوري التي كانت آتية في الحقيقة من الأموال التي تهبها له الجماعة
المنتقاة من حوارييه الأثرياء، لكنه جعل الناس يظنون أنه قد أوجد بالفعل حجر
الفلاسفة. ظَلَّت الكنيسةُ تلاحقه وأخرجته من المِلَّة بِتُهَمِ الهرطَقَة وممارسة
السِّحر، لكنه لم يَرُدّ على ذلك سوى بالصمت الوقور، وزاد ذلك من شهرته وحماس
الناس له لأنهم رأوا أنه لن يُضطهدَ
أحدٌ إلا إن كان عظيماً، وتساءلوا كم من الناس مثلاً قد فهم حكمة السيد المسيح في
عصره. لم يكن على بوري أن يدافع عن نفسه، بل أن أتباعه هم من أطلقوا على البابا
اسم الدجال.
تنامت
سَطوة بوري إلى أن أتى يومٌ كان يغادر فيه مدينة أمستردام بعد أن أقام فيها لفترة
هارباً بأموال ومجوهرات هائلة إئتمنه عليها الناس، حيث كان يدّعي أنه يستطيع أن
يزيل بتركيز عقله التشوهات عن الماس. حينئذ أصبح مطارداً واستطاعت محاكم التفتيش
أن تَلحق به لينهي العشرين عاماً الأخيرة من عمره سجيناً في روما، إلا أن قناعة
أتباعه بقدراته الخارقة كانت من القوة لدرجة أن الأثرياء من المؤمنين به ظلوا
يزورونه في السجن حتى يوم وفاته، ومن بينهم کريستينا ملكة السويد، وظلوا يمدّونه
بالمال والعتاد ليتمكن من مواصلة بحثه حول حجر الفلاسفة الذي أغرى الكثيرين وخدعهم.
التعليق:
من
الواضح أن بوري قبل أن يُكَوِّن طائفته كان قد توقف أمام اکتشاف مصيري: كانت حياة
الفسوق والشهوات قد أرهقته وقرر أن يتخلى عنها ويخلص نفسه للغيبيات التي كان
اهتمامه بها حقيقياً، ومن المؤكد أنه اكتشف أنه حين يصف خبرته هذه للناس كانت
أعداد كبيرة من كل الطبقات تحب أن تسمع المزيد عنها حين يصفها بروحانية ووجد صوفي،
وتمل منه حين يشرح بواقعية ما سببته له العربدة من إرهاق بدني ونفسي، وقتها اكتشف
السَّطوة التي يمكنه أن يحصل عليها حين يبرر التغير الذي حدث له بأنه نفحة من
السماء ويقظة الروح المتعطشة للإيمان، ولحظتها أيضا ابتكر رؤياه الزائفة وعرف أنه
كلما عظمت الرؤيا وزادت التضحيات التي يطلبها من الناس يزداد تصديقهم لقصته
وتعلقهم بها.
تَذَكَّر
أَنَّ: الناسُ لا تعنيهم الأسباب الحقيقية التي تُغَيِّرُ حياتهم، ولا يُحِبُّون
أن يقول لهم أحدٌ أن أسباب النجاح والفشل تكمن في الجهد الشاق أو أي شيء آخر معتاد
مثل الإرهاق والملل والاكتئاب، ويرغبون في الاعتقاد بشيء حالم يَسمو فوق خبراتهم
البشرية العادية، ويَطمئنون لمن يحكي لهم عن رعاية الملائكة وتَفَوّق الروح على الجسد. قَدِّم لأرواحهم ما يروي
ظَمَأَها، احكِ لهم عن تَحَوّلات حدثت في حياتك بفعل الإيمان وروعة الإحساس باللّطف
الإلهي وستجدهم يتبعونك وينصتون لك. تَفَهَّم ما يتعطشون له؛ فالقائد الملهم
والطبيب الروحاني هو من يعكس رغبات أتباعه ويعلو بهم إلى الأحلام التي تفوق
واقعهم، وكلما كان الوهم الذي يُقَدِّمُه لهم أقوى وأجرأ يزداد انجذابهم له وسطوته
عليهم.
مراعاة القاعدة 2:
في
منتصف 1700
انتشرت الشائعات في أنحاء أوروبا عن طبيبٍ سويدي شعبيّ اسمه "مايکل
شوباخ" يمارس نوعاً مختلفاً من الطب: كان يستخدم الطاقات العلاجية للطبيعة
لتحقيق شفاء معجز للأمراض المستعصية. بسرعة بدأ الأثرياءُ من أنحاء أوروبا
يتوافدون طلباً للعلاج من الأسقام الشديدة والبسيطة إلى قرية "لانجنو"
في جبال الألب التي كان "شوباخ" يعيش ويعمل بها. كانوا خلال خوضهم في
الأراضي الجبلية الوعرة يتأملون الآفاق الساحرة للطبيعة وحين يصلون إلى "لانجنو"
يشعرون أن شيئاً بالفعل قد تَغَيَّرَ في نفوسهم وأنهم في طريقهم للشفاء.
كان
"شوباخ" الذي كان الناس يطلقون عليه «طبيب الجبال»، يملك صيدليةً صغيرة
في المدينة، وكان المشهد عندها مهيباً: كانت جموع الناس من مختلف الدول تحتشد داخل
الحجرة الصغيرة التي كانت جدرانها مغطاة بالزجاجات الملونة المليئة بالأعشاب
العلاجية، وبينما كان أطباء ذلك العصر يصفون أَشرِبةً مريرة الطعم تحمل أسماء
لاتينية غير مفهومة (كما هو الحال في عصرنا الحالي) كانت علاجات "شوباخ"
تحمل أسماء مثل «شراب السعادة» أو «زهرة القلب الرقيقة»، أو «طارد الأشباح»، وكان
طعمُها جميعاً حلواً وممتعاً.
كان
الزوار ينتظرون طويلاً لمقابلة «طبيب الجبال»، لأنه كان مشغولاً أغلب الوقت بفحص
عينات البول التي يأتي له بها من كل أنحاء أوروبا ثمانون مراسلاً، وكان "شوباخ"
يَدَّعي أنه يستطيع أن يُشَخِّصَ مرضك بنظرة بسيطة إلى بولك، ومن اضطلاعه على وَصْفِكَ
المكتوب لحالتك (ومن الطبيعي أنه كان يقرأ الوصف بعناية
شديدة قبل وصف العلاج). وحين كانت تتوفر له لحظة فراغ
كان يسمح للزائر أخيراً بالدخول إلى مكتبه في الصيدلية، ويبدأ بفحص بوله شارحاً له
بأن مظهر البول يخبره بكل ما تريد معرفته عن حالة المريض، وكان يضيف للزائر أن البُسطاء
لهم سبب للاهتمام بمثل هذه الأمور البسيطة لأنهم يعيشون الحياة الطبيعية كما خلقها
الله دون تعقيدات المدنية، وكان يضيف في شرحه للمريض كيف يوازن حياته ليجعل روحه
أكثر تجانساً مع الطبيعة.
ابتكر
"شوباخ" ممارسات طبية تختلف جذرياً عن الممارسات الطبية المعروفة في
عصره، فقد كان يؤمن مثلاً بفائدة العلاج بالصدمات الكهربية، وكان يردُّ على من
يتساءلون إن كان ذلك يتفق مع طُرُقه الطبيعية في العلاج بأن الكهرباء ظاهرة طبيعية
وأنه لا يفعل شيئاً سوى تقليد قُدرة البرق. كان أحد مرضاه يدعي أنه مسكونٌ بسبعة
شياطين وشفاه العلاج بالصدمات الكهربية، وكان "شوباخ" يعلن أثناء إجراء
العلاج بأنه يرى الشياطين تطير واحداً بعد آخر من جسد الرجل. ادّعى رجلٌ آخر أنه
يشعر بآلام شديدة في صدره لأنه ابتلع عربة قَشٍّ بسائقها، فأَنصتَ «طبيب الجبال» بِتَأَنٍ
وقال أنه يسمع ضربات السياط في بطن الرجل، ووعده بأنه يستطيع أن يشفيه، ووصف له مُنوماً
ومُلَيِّناً وتركه لينام على مقعد خارج الصيدلية، وحين استيقظ بدأ في التقيؤ
وبينما كان يتقيأ رأى عربة قش تجري مسرعةً أمامه (كان «طبيب الجبال» قد استأجرها
لهذا الغرض) وقد جعله صوت ضربات السياط يقتنع أنه تقيأها بالفعل بفضل علاج الطبيب.
بمرور
الوقت ذاع صيتُ «طبيب الجبال» وأخذ يستشيره أصحاب السطوة والنفوذ، وحتى الكاتب "جوته"
خاض الطريق الوعرة إلى قريته. كانت الطبيعة هي جوهر مذهبه وكان كل ما هو طبيعي
يستحق لدى أتباعه الاحترام والتقديس. وكان حريصاً على أن يصنع التأثيرات التي تُسَرِّي
عن مرضاه وتُلهمهم، وقد كتب أحد أساتذة العلم كان قد زار صيدليته: «تجد نفسك وسط
حشدٍ من الناس يلعب أحدُهم حيناً بالورق مع امرأة شابة، وحينا آخر نسمع عزفاً
لمقطوعة موسيقية، وآخر يقدم الغداء أو
العشاء، ورابع ترى عرضاً لباليه بسيط، وكان التأثير المستمر هو الشعور بالنشوة
البالغة والتحرر الطبيعي الذي يُنشر في كل الأركان روح التمتع بالعالم الجميل.
وحتى لو لم يكن الطبيب قادراً على شفاء أي مرض حقيقي فإنه يستطيع على الأقل من أن
يخلص الناس من التعارض والأوهام».
التعليق:
بدأ
شوباخ حياته طبيباً عادياً في إحدى القرى، وكان يمارس أحياناً العلاجات الشعبية
التي نشأ عليها وحققت له بعض النتائج، وفي وقت قليل خَصَّصَ نفسه للعلاج بالأعشاب
والطرق الطبيعية. الحقيقة أن طرقه الطبيعية كان لها أثر نفسي كبير على مرضاه، ففي
حين كانت معظم علاجات عصره تسبب الألم والتخوف كانت علاجاته هو مريحه وملطفة، وكان
للتحسن في مزاج مرضاه دور مصيري في الشفاء الذي يحققه. كان مرضاه يؤمنون بمهارته
لدرجة تجعلهم يبذلون ما يستطيعون لتحقيق الشفاء، كما أنه لم يسخر أبداً من
التصورات الساذجة التي يضعها مرضاه لتفسير مرضهم بل كان يستغل توهمهم في جعل علاجه
يبدو في أعين الناس كالمعجزات.
تُعَلِّمُنا
حالة طبيب الجبال دروساً هامة في جلب الأتباع وتكوين ما يشبه الطائفة. أولاً عليك
أن تجد وسيلة لتأخذ بألباب الناس وتأسر عقولهم وتجعل إيمانهم بقدراتك قوياً لدرجة
يتخليون أنهم باتباعهم لك ستتحقق لهم فوائد لا حصر لها. إيمانهم القوي بك سيجعلهم
يجدون فيك ما يبحثون عنه دون أن تبذل الكثير من الجهد، ولكن احرص أن تظهر أنك أنت
ولست إرادتهم هي من أدى إلى التحول الكبير في حياتهم. ابحث عن المذهب أو المبدأ أو
الحلم الذي يؤمنون به بعمق وبعدها سوف يملأون بخيالهم ما تبقى، وعندها يبجلونك
كمعالج أو ملهم أو نابغة أو غير ذلك مما تحب أن تصف به نفسك.
ثانيا
يعلمنا شوباخ أن للإيمان بالطبيعة والبساطة سطوة لا تنتهي، الحقيقة هي أن الطبيعة
مليئة بأشياء مرعبة كالنباتات السامة والحيوانات المتوحشة والكوارث والأوبئة التي
تقضي على آلاف البشر، وليس الاعتقاد بطيبة وقدرتها على الشفاء إلا أسطورة وحنين نخلقها بأنفسنا. ومع
ذلك فإن الدعوة للعودة للطبيعة تظل تمنحك سطوة هائلة على الناس خاصة في أوقات
الألم والحيرة.
لكن
عليك أن تتعامل مع هذه الدعوة بالطريقة الصحيحة وأن تكون المخرج الذي يصنع مسرحاً
للطبيعة تنتقي وتعرض منها الصفات التي تناسب حنين الناس في عصرك. لَعِبَ طبيب
الجبال هذا الدور بإتقانٍ، وعرض نفسه على أنه الرجل الريفي البسيط الذي يتمتع
بالحكمة والفطنة الفطرية وصاغ علاجاته كَمَشاهِدَ وحوارات مسرحية يدخلها المرضي
مشاهدين ومشاركين. لم ينقل شوباخ الطبيعة حرفياً بل جعل منها مذهباً أو بدعة. خلقُ
التأثير «الطبيعي» يتطلب منك الكثير من الجهد لتجعل الأمور العادية تتخذ جلالاً
وبهجة مسرحية، فبدون ذلك لن يلتفت إليك أو إليها أحد؛ أي أن الطبيعة أيضاً عليها
أن تتطور لتلائم صيحات العصر.
مراعاة القاعدة 3:
في
عام 1788
وفي الخامسة والخمسين من عمره كان الطبيب والعالم فرانز مسمر على مفترق طرق؛ فقد
كان رائداً
في دراسة المغناطيسية الحيوانية، والتي كانت تؤمن بأن الحيوانات لديها مادة
مغناطيسية، ويمكن للطبيب أو المختص أن يحقق تأثيرات شفائية إعجازية بالعمل على هذه
المادة المشحونة. لكن تَلَقَّت الأوساطُ الطبية في فيينا حيث كان يعيش ويعمل
نظرياته بالسخرية والازدراء. كان مسمر يَدَّعِي أنه استطاع شفاء حالات من التَّشَنُّجات
الصَّرعية، وأكثر ما كان يفخر به أنه حقق الشفاء لفتاة فقدت الإبصار، إلا أن طبيباً
آخر فحص الفتاة ووجدها لا تزال عمياء، وهو ما أَكَّدَته الفتاة نفسها، وعارضَ مسمر
ذلك بأن أعداءه يحاولون تشويه سُمعته، وأنهم أقنعوا الفتاة بالانضمام إلى صَفِّهم،
ولم يجلب له هذا الدفاع إلا المزيد من السخرية. بدا واضحاً لمسمر أن سُكّان فيينا
العقلانيين ليسوا الجمهور المناسب لنظرياته، فَقَرَّرَ أن ينتقل إلى باريس ليبدأ
من جديد.
في
باريس استأجر شقةً فخمة وأَثَّثَها جيداً، وقد أَضْفَتْ الفسيفساءُ التي وَضَعَها
على كل النوافذ شعوراً روحانيا، وأَحدَثَتْ المرايا على الجدران أثراً تنويمياً.
أعلنَ الطبيبُ أنه في شقته يستطيع أن يُبَيِّنَ قدرات المغناطيسية الحيوانية، ودعا
المرضى والمُكْتَئِبين لِتَلَمُّس هذه القدرة، وبسرعة بدأ الكثيرُ من سكان باريس
من كل الطبقات يتوافدون إلى شقته لرؤية المعجزات التي يصنعها. وكان أغلبُ زُوّاره
من النساء، فقد كن يَنجَذِبنَ لأفكاره أكثر كثيراً من الرجال.
داخلَ
الشِّقة كانت روائح زهور البرتقال والبخور غير المألوف تنبعث من فتحاتٍ خاصة، وحين
كان الخبراء يَتَقدّمون نحو المكان الذي تظهر فيه العروض كانوا يسمعون عزفاً على
القيثارة وإلى تنغيمات رقيقة لمغنية تأتي من غرفة أخرى، ووسط المجلس حاويةٌ
بيضاوية طويلة تمتلئ بمياه ادَّعي مسمر أنها ممغنطة، ومن الغطاء المعدني للحاوية
كانت تبرز قضبانٌ متحركة من الحديد. كان يطلب من الزائرات أن يجلسن حول الحاوية
وأن يضعن القضبان الحديدية على الأجزاء المؤلمة أو المصابة من أجسادهن، ثم تمسك كلٌ
منهن بيد مَن تجاورها. كُنَّ يجلسنَ تقترب إحداهن من الأخرى على قدر الإمكان حتى
تتخلل القوى المغناطيسية بين أجسادهن، وأحياناً کُنَّ يَتَّصلنَ ببعضهن البعض بالحبال.
كان
مسمر يغادر المجلس ويدخل «مُنَوِّمون مُساعِدون» كلهم من الشُّبّان الوسماء أقوياء
البنية ومعهم قوارير من الماء الممغنط يرشّون بها المريضات، ويمسحون ويُمَسِّدون
به أجسادهن حتى يدخلن في حالة تشبه النَّشوَة. بعد دقائق تأخذ النساء حالة من
الهذيان فتبدأ بعضهن بالنحيب وأخريات يصرخن ويمزقن شعورهن وغيرهن يضحكن بهستيرية،
وفي ذروة هذه الحالة يعود مسمر إلى المجلس في رداء من الحرير المتألق والمزين
بأزهار ذهبية حاملاً قضيباً أبيض ممغنط، ويدور حول الحاوية ويُرَبِّتُ به على
المريضات إلى أن يهدأن. وفيما بعد قالت الكثيراتُ من النساء أن سطوته عليهن كان
مصدرها نظراته الثاقبة إلى عيونهن، وكُنَّ يعتقدن أنها تُثير أو تُهَدّيء السوائل
المغناطيسية في أجسادهن
خلال
أشهرٍ من وصوله إلى باريس أصبح مسمر بدعة المدينة، وكان من أنصاره الملكةُ ماري
أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر. وكما في فيينا كان المجتمع الطِّبِّي الرسمي يرفضه ويُدينه ولكنه لم يهتم
لأن الأعداد المتزايدة من أتباعه الأثرياء من الطلاب والمرضى كانوا يدفعون له
بسخاء.
طَوَّرَ
مسمر أفكاره وادَّعي أن كل الإنسانية قد تتمكن من العيش بسلام وانسجام بتأثير
المغناطيسية، وكان لذلك جاذبية شعبية كبيرة أثناء الثورة الفرنسية، فانتشرت طائفة
المسمرية في كل أنحاء البلاد وظهرت في الكثير من المدن «جمعيات الانسجام» للبحث في
المغناطيسية. في النهاية تَدَنَّتْ هذه الجمعيات وأخذ يقودها مبتذلون حولوا
الجلسات إلى نوع من العربدة والجنس الجماعي.
في
ذروة شُهرة مسمر نشرت لجنةُ فرنسية شُكِّلتْ خصيصاً تقريراً يعتمد على سنوات من
اختبار نظرية المغناطيسية الحيوانية خلص إلى أن «تأثيرات المغناطيسية على الجسد
يقوم على نوع من الهستيريا والإيحاء الذاتي الجماعي». تَمَّ توثيقُ التقرير جيداً
بالأَدِلَّة، وقَوَّضَ سُمعة مسمر في فرنسا، فَهَجَرَ البلاد وتقاعد. بعدها بسنوات
قليلة انبعث مُقَلِّدون له في كل أنحاء أوروبا، وانتشرت طائفة المسمرية من جديد،
لكن هذه المرة كانت أعداد المؤمنين بها أكبر من أن تُحصى.
التعليق:
يمكن
تقسيم مسار مسمر إلى جزئين، فمن الواضح أنه بينما كان يعيش في فينا كان يؤمن بصدق
نظريته وكان يبذل كل ما يستطيع لإثباتها؛ لكن إحباطه المتزايد ورفض زملائه له جعله
يتبنى إستراتيجية أخرى: أولا انتقل إلى باريس حيث لا أحد يعرفه، وقد وجدت نظرياته
المتطرفة هناك آذانا صاغية نظرا لولع الفرنسيين بالمسرح وعشقهم للاحتفالات، وقد
سيطر العالم السحري الذي صنعه في شقته على حواس زبائنه من الشم والبصر والسمع.
الأهم أنه لم يعد بعدها يمارس المغناطيسية إلا في جماعات لأن في الجماعات كانت
المغناطيسية تحدث تأثيرها الأمثل حيث تنتقل العدوى من المصدقين إلى غير المصدقين
وحيث تتغلب الروح الجماعية على تشكيك أي متشكك.
هكذا
تحول مسمر من مدافع مستميت ويائس عن المغناطيسية إلى مشعوذ يستخدم كل الحِيَل
للأخذ بألباب الناس، وحيلته الكبرى كانت التلاعب بالكبت الجنسي.
اقتباس
من معلم: تأتي السطوة الكبيرة للمشعوذ من قدرته
على فتح أبواب للناس للإيمان بما يرغبون أصلا في الإيمان به، ولا يستطيع السُّذج
أن ينأوا بأنفسهم اليفكروا بعقلانية بل ينقادون لمن يفعل لهم العجائب ويستسلمون
لتأثيره ولما يقدمه لهم من الأوهام کا تنقاد الأبقار لراعيها (جريت دي فرانسيسکو).
عکس القاعدة:
أحد
الأسباب لِجَلب الأَتْباع هي أنَّ خداع الجماعة يكون عادةً أسهل، ويأتي لك بسطوةٍ
أكبر كثيراً من خداع الفرد، لكن في ذلك نوع من المخاطرة: فإن اكتَشَفَت الجموعُ
زيفَ أفكارك واستغلالك لهم فلن تواجه فرداً مهاناً بل جموعاً غاضبة تُمزقك بنفس
الحماس الذي أطاعتك به. كان المشعوذون يواجهون هذا الخطر، وكانوا على استعداد
مستمر لهجر المدينة بمجرد أن يتعرف سكانها على فساد ترياقهم وزيف أفكارهم، ومن
يتأخر في ذلك كان يفقد حياته. التلاعب بالجموع كاللعب بالنار يتطلب منك الانتباه
الدائم لأي شرارة من التَّشَكُّك ولأي محرض قد يُؤَلِّب الناس ضدك. التلاعب بمشاعر
الجموع يتطلب منك الانتباه والتكيف والتناغم لحظة بلحظة مع الرغبات والحالات
المزاجية التي قد تطرأ على الجماعة. استعن بالجواسيس واشرف على كل شيء بنفسك وكن
دائماً مستعداً للرحيل في أي لحظة.
قد
يجعلك ذلك تُفَضِّل التعاملَ مع الناس كلٍ على حده، فَتَمَكُّنُك من عَزْلِ الشخص
عن وسطه الطبيعي يكون له نفس تأثير وضعه وسط جماعة - أي أنه يجعل من السهل السيطرة
عليه بالترغيب والترهيب. تَخَيَّر الفريسة المناسبة، وإن حدث وكُشف خداعك يكون
فرارك منه أسهل كثيراً من فرارك من جماعة.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
إقرأ أيضاً:
عبارات قولوها كي يحب أطفالكم المدرسة
طرق لمواجهة ضغوطات الحياة بين المراهقين
لماذا يتذمّر الطفل من العودة للمدرسة بعد العطلة
خطوات تساعد طفلك لعمل الواجب المدرسي وحده
استعداد صحي ونفسي للطفل لاستقبال العام الجديد
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق