شاعر وفارس وعاشق وأمير وأسير
أبو فراس الحمداني فارس خطير، وشاعر غزير، وعاشق أسير، وتغلبي أمير، مآسيه جليلة، وافراحه قليلة، ومشاعره نبيلة...
ولد أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الرَّبَعي
في الموصل، ولد عام 320 للهجرة 932 للميلاد، ولكنه
فقد أباه مبكراً، فنشأ وترعرع في كنف ابن عمه وصهره زوج اخته سيف الدولة، أمير
الدوله الحمدانية التي شملت شمال سوريا والعراق، وكانت عاصمتها حلب في القرن العاشر
للميلاد، فَشَبَّ فارساً شاعراً شديد الثقه بنفسه، والفخر بصنيع آبائه، يدافع عن
الإمارة العربية الوحيدة في ذلك الزمن، ويصدُّ هجمات الروم وهو القائل:
وَمُهري لايَمَسُّ الأَرضَ زَهواً كَأَنَّ تُرابَها قُطبُ النِبالِ
كَأَنَّ الخَيلَ تَعرِفُ مَن عَلَيها فَفي بَعضٍ عَلى بَعضٍ تُعالي
عَلَينا أَن نُعاوِدَ كُلَّ يَومٍ رَخيصٍ عِندَهُ المُهَجُ الغَوالي
فَإِن عِشنا ذَخَرناها لِأُخرى وَإِن مُتنا فَمَوتاتُ الرِجالِ
ولكن هذا كله سيتغير بتغير أقدار الأمير الحمداني التي
ساقته من أسر الى أسر، فمن طرائف أبي فراس ومآسيه المضحكة المبكية قصة أسره الاولى
وعمره 27 سنه عندما كان في رحلة صيدٍ بعد إحدى جولات الحرب مع
الروم، فأدركه الليل، فلجأ مع أصحابه إلى مغارةٍ تُسَمّى مغارة الكحل، ليناموا
فيها، فلما استيقظوا وجدوا عصابةً من ذئبان اللصوص قائمين على رؤوسهم بالسيوف، فأسروهم
ثم باعوهم بيعاً للروم، فحمله الروم إلى حصنٍ منيعٍ في منطقةٍ على الفرات تسمى خرشنة،
دخل أبو فراس إلى محبسه وهو يقول ضاحكاً:
ما لِلعَبيدِ مِنَ الَّذي يَقضي بِهِ اللَهُ اِمتِناعُ
ذُدتُ الأُسودَ عَنِ الفَرا ئِسِ ثُمَّ تَفرِسُني الضِباعُ
ولكن أبا فراس لم يستسلم لليأس، فقد استطاع أن يقفز
بجواده من أعلى الحصن إلى الفرات هارباً من سجنه بعد ثلاث سنوات مريرةٍ من الأسر،
عاد أبو فراس إلى حلب التي لم يكن يصبر على مفارقتها، فقد كان قلبه معلقاً بالمدينه
التي نشا فيها وعاش مع أهلها ذكريات صباه وفتوته وغرامياته، ولكن ابن عمه سيف
الدوله ولّاه على منبج ونواحيها، فألزمه التعيين مفارقة حلب مبتعداً عن الأهل والمحبوبة،
تَوَجَّهَ أبو فراس مغادراً حلب إلى منبج وهو يقول:
سَقى ثَرى حَلَبٍ ما دُمتَ ساكِنَها يا بَدرُ غَيثانِ مُنهَلٌّ وَمُنبَجِسُ
أَسيرُ عَنها وَقَلبي في المَقامِ بِها كَأَنَّ مُهري لِثُقلِ السَيرِ مُحتَبَسُ
هَذا وَلَولا الَّذي في قَلبِ صاحِبِهِ مِنَ البَلابِلِ لَم يَقلَق بِهِ فَرَسُ
كَأَنَّما الأَرضُ وَالبُلدانُ موحِشَةٌ وَرَبعُها دونَهُنَّ العامِرُ الأَنِسُ
مِثلُ الحَصاةِ الَّتي يُرمى بِها أَبَداً إِلى السَماءِ فَتَرقى ثُمَّ تَنعَكِسُ
ولكن ذكريات أبي فراس شديد الحب والارتباط بحلب لم
تفارقه، حتى بعد أن استقر أميراً لمنبج، فكان يذكر تفاصيلها ويقول:
قِف في رُسومِ المُستَجاب وحَيِّ أَكنافَ المُصَلّى
فَالجَوسَقُ المَيمونِ فَال سُقيا بِها فَالنَهرُ أَعلى
تِلكَ المَنازِلُ وَالمَلا عِبُ لا أَراها اللَهُ مَحلا
أوطِنتُها
زَمَنَ الصِبا وَجَعَلتُ مَنبِجَ لي
مَحِلّا
أَنّى حَلَلتُ فَإِنَّما يَدعونِيَ السَيفُ المُحَلّى
ماكُنتُ إِلّا السَيفَ زا دَ عَلى صُروفِ الدَهرِ صَقلا
وَلَئِن قُتِلتُ فَإِنَّما مَوتُ الكِرامِ الصيدِ قَتلا
طال الزمان بأبي فراس بعدها، فقضى دهراً في الأسر قبل أن
يرى حلب مرةً ثانيةً، فبعد مواجهات وجولات كرِّ وفرّ حاصر الروم أبا فراس في منبج،
ثم سقطت قلعته سنه 350 للهجره ووقع أسيراً مرةً أخرى، فحُمل إلى القسطنطينية
حيث أقام أربع سنوات كتب خلالها روميات، وهي رسائل إلى ابن عمه في حلب يلومه فيها
على طول الأسر ويتذمر من قسوته، وكانت أم أبي فراس تتلقى قصائده القادمة من الأسر
بالحسرة واللوعة حتى توفيت قبل عودة ابنها الوحيد بسنةٍ واحدةٍ
تُعَدُّ الرّوميات من أبدع وأعذب ما قيل في الشعر العربي
لجزالتها وقوتها ورصانتها وصدق عاطفتها، ومنها هذه القصيده الرائعه التي يناجي
فيها أبو فراس صديقته الحمامة، وقد درسنا هذه القصيدة في مناهجنا الابتدائيه،
والتي سَلَبَت عقول وقلوب كل من لَحَّنَ وغنّى من التراث، غناها صباح فخري، وغناها
ناظم الغزالي ومحمد عبد المطلب، وتقول:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالِي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالِي
تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ
أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ
لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ
وأرسل مرةً إلى ابن عمه سيف الدولة هذه الأبيات التي أذابت
قلبه فلم يتلقى بعدها رسائل أبي فراس، تقول الأبيات:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
فَيا لَيتَ شُربي مِن وِدادِكَ صافِياً وَشُربِيَ مِن ماءِ الفُراتِ سَرابُ
هل رأيتم ماذا فعلت صروف الدهر بأبي فراس الذي كان يقول:
وَمُهري لايَمَسُّ الأَرضَ زَهواً
كَأَنَّ تُرابَها قُطبُ النِبالِ
يتحدث عن كبرياء مهره ويستجدي ابن عمه بكل هذه العذوبة،
ثم كان أن أسر سيف الدوله أعداداً من الروم فافتدى ابن عمه بعد أن قضى أربع سنوات أخرى
في سجون الروم...
توفي سيف الدولة 355 هـ (967م) وكان لسيف الدولة مولى اسمه قرغويه طمع في التسلط، فنادى بابن سيده أبي المعالي، أميرًا على حلب آملًا أن يبسط يده باسم أميره على الإمارة بأسرها، وأبو المعالي هو ابن أخت أبي فراس. أدرك أبو فراسٍ نوايا قرغويه فدخل مدينة حمص، فأوفد أبو المعالي جيشًا بقيادة قرغويه، فدارت معركةٌ قُتل فيها أبو فراس. وكان ذلك في ربيع الأول سنة 357 هـ (968م) في بلدة صدد جنوب شرق حمص. توفي أبو فراس وهو في ريعان شبابه وعطائه وفروسيته عن عمر لم يزد عن 36 عاماً. فما أكبر الحسرة على شاعر كابي فراس!
إقرأ أيضاً:
المقابلة الإرشادية: الأهداف، المزايا، العيوب والمهارات
10 أسئلة تكشف لكِ إذا كان طفلك اجتماعياً
أساليب العقاب والثواب لضبط الطفل بعد أيام العطلة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق