القاعدة 38 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين
الحكمة:
إظهارُك للاختلاف عن الشائع بالتصرفات والأقوال وترويجك لأفكار مستحدثة وغريبة عن مجتمعك يُشعِر الناس بأنك تحتقرهم وتتعالى عليهم، ويجعلهم يبحثون عن الوسائل لتدميرك. الآمَنُ هو أن تندمج مع الناس وتُظهر احترامك لتقاليدهم. لا تُظهر أفكارك المتحررة والمتقدمة إلا لخواص أصدقائك ومن يمكنهم تقدير عبقريتك.
انتهاك
القاعدة:
في
عام 487
ق. م. تقريباً أرسلت مدينة إسبرطة حملة عسكرية إلى بلاد فارس يقودها الأمير الإسبرطي
الشاب بوسانيوس. كانت مدن الدولة الإغريقية قد استطاعت صد جيش هائل أرسله الفرس
لغزو اليونان وكان على بوسانيوس مع أسطول حليف من أثينا أن يعاقبوا الغزاة
ويستردوا الجزر والمدن الساحلية التي استولوا عليها، كان الإسبرطيون والأثينيون
جميعاً يكنّون احتراماً كبيرا لبوسانيوس- فقد أثبتت التجارب أنه محارب لا يخشى
أحداً ويحب اقتحام المهالك.
استطاع
بوسانيوس أن يستولي بسرعة مذهلة على صقلية ومنها تحرك وغزا مناطق في آسيا الصغرى
هي هيلسبونت (والتي تعرف حاليا بالدردنيل) وبيزنطة (وهي حاليا إسطنبول)، وبعد أن
أصبح حاكماً لأجزاء من الإمبراطورية الفارسية ظهرت عليه سلوكيات غريبة حتى عن
غروره السابق، فقد بدأ يظهر علانية مُمَسَّد الشعر بالدهان المعطر يصحبه حراس من
مصر، وكان يقيم الموائد المُسرِفة يجلس وسطها على طريقة ملوك الفرس طالباً من
رعاياه أن يُسَرّوا عنه، وتوقف عن مقابلة أصدقائه وتواصل مع الملك الفارسي سيرکسيس.
الخلاصة أنه تبني أسلوب وعادات طغاة الفرس.
بدا
للجميع أن السلطة والنجاح قد ذهبا بعقل بوسانيوس، وظن الأثينيون والأسبرطيون في
البداية أنها أزمة وسوف تزول فقد كان يبالغ دائماً في تصرفاته. لكن حين وصل به
الأمر إلى التبجح باحتقار طريقة الإغريق البسيطة والمتقشفة في الحياة شعر عامة
الجنود بالإهانة ورأوا أن تصرفات بوسانيوس لم تعد تُحتَمل، وانتشرت بينهم شائعات
لكن دون بَيِّنة على أن بوسانيوس يريد أن يجعل من نفسه سريكسيس الإغريق. لكي يمنع
الإسبرطيون حدوث تمرد أعفوا بوسانيوس من القيادة وأعادوه إلى الوطن.
لكن
ظل بوسانيوس يرتدي أزياء الفرس حتى بعد أن عاد إلى إسبرطة، وبعد أشهرٍ استأجر سفينة بمفرده وعاد إلى
هلسبونت مقنعاً رفاقه الذين ذهبوا معه أنه عائد لمواصلة الحرب ضد الفرس، والحقيقة
أن قَصْده كان الاتصال بسريكسيس ليساعده على أن ينصب نفسه حاكماً منفرداً على كل
مدن الإغريق. أتهمه الإسبرطيون بخيانة شعبه وأرسلوا سفينة لاعتقاله، فاستسلم لهم
بوسانيوس لأنه كان متيقناً من أنه يستطيع أن يبرئ نفسه من التهمة. أثناء المحاكمة
تبين أنه أثناء فترة حكمه كان يهين مواطنيه الإغريق ويقيم النصب باسمه وليس باسم
المدن التي كان يحارب أبناؤها معه كما تقر الأعراف. ورغم كل هذا كان حدس بوسانيوس
صحيحاً، فبالرغم من تواتر الأدلة على اتصالاته الكثيرة بالفرس رفض الإسبرطيون أن
يدينوه لأنه من سلالة النبلاء وأطلقوا سراحه.
بعد
أن ظن نفسه فوق القانون استأجر بوسانيوس رجلاً لينقل رسالة إلى سرکسيس، ولكن
الرسول ذهب بالرسالة لسلطات إسبرطة والذين كانوا يريدون أن يستمعوا للمزيد فاتفقوا
مع الرسول أن يقابل بوسانيوس في أحد المعابد وجهزوا لأن يتخفوا خلف ساتر لسماع ما
يدور بينهما من حديث. ما سمعوه صعقهم فلم يسمعوا من قبل أبداً واحداً منهم يعبر
بهذا القدر من الوقاحة عن احتقاره لأسلوب حياتهم. عادوا وقرروا أن يرسلوا قوة
لاعتقاله.
في
طريق عودته من المعبد علم بوسانيوس بما حدث فاختبأ في معبد آخر قريب، ولكن طاردته
سلطات المدينة ووضعوا حراساً حول المعبد، لكن بوسانيوس رفض أن يستسلم. لم ترد
السلطات أن تخرجه بالقوة من حرم المعبد واكتفوا بمنعه من الخروج إلى أن مات من
الجوع والعطش.
التعليق:
من
الوهلة الأولى تعرف أن بوسانيوس قد تعلق بثقافة أخرى غير ثقافته وهي ظاهرة قديمة
قدم التاريخ، لم يكن يعجبه من قبل أبداً تقشف الإسبرطيين، وحين رأى البذخ والتمتع
بالملذات لدى الفرس سحرته طريقة حياتهم، فبدأ في ارتداء ثيابهم والتطيب بعطورهم
وشعر بأنه قد تخلص من خشونة وصرامة الحياة الإغريقية.
ذلك
هو ما يحدث عادة حين يتبني الشخص ثقافة لم يتربي عليها، إضافة إلى شيء آخر هام وهو
أن إظهار الشخص لافتتانه بثقافة أجنبية يُعَدُّ في نظر الناس بمثابة التعبير عن
احتقاره لثقافته القديمة. أغلب هؤلاء الأشخاص يتبنون المظاهر الخارجية الغريبة
عنهم من الثقافة الجديدة ويشعرون بالتميز ويتعالون على عامة الناس الذين يتبعون
دون مناقشة أعراف وقواعد الثقافة التي ورثوها عن آبائهم. البعض الآخر من هؤلاء
بتصرفون بوقار ويحترمون من لا يتفق معهم في أفكارهم، لكن حرصهم على الاختلاف
الواضح عن عامة الناس وتحديهم للمعتقدات الشائعة حتى وإن كان فقط بهجرانها والتحرر
منها يظل يشعر من حولهم بالإهانة.
كتب
توسيديديس عن بوسانيوس: «أدى احتقاره للأعراف وتقليده للعادات الأجنبية بأكثر
الناس إلى الظن أنه لا يريد أن تنطبق عليه المعايير السائدة». للثقافات معايير
سائدة ترسخت لدى الناس خلال قرون من الاشتراك في القناعات والمثل، ولا تظن أبدا
أنك تستطيع أن تسخر من ثقافتك دون أن تنال عقابك. يأتي العقاب في أشكال كثيرة
أقلها النبذ والعزلة وهو وضع لا يمكنك أبدا معه أن تحصل على السطوة.
لدينا
جميعاً كما كان لدي بوسانيوس ميل إلى الغريب والمختلف، وعليك أن تسيطر على هذا
الميل وتحجمه داخل نفسك، فتصرفك وأفكارك التي تخالف جموع الناس من حولك تشعرهم
بأنك تتعالى عليهم وتحتقرهم.
مراعاة
القاعدة:
في
أواخر القرن السادس عشر ظهر رد فعل عنيف للإصلاح الديني البروتستانتي في إيطاليا،
وقد أنشأ مناهضو الإصلاح کا أطلق عليهم مَحاكم تفتيش لاستئصال أي انحراف عن تعاليم
الكنيسة الكاثوليكية، وكان من بين الضحايا العالم جاليليو، لكن أكثر من عانى
الاضطهاد هو الراهب والفيلسوف الدومينيکي توماسو کامبانيلا.
كان
كامبانيلا يؤمن بالمذهب المادي الذي ابتدعه الفيلسوف الروماني إبيقور، لذلك لم يكن
يؤمن بالمعجزات أو بالجنة أو النار، وكتب أن الكنيسة هي من
شجعت انتشار مثل هذه الخرافات لتضع رعاياها في خوف
دائم. كانت هذه الأفكار تشبه الإلحاد ومع ذلك كان كامبانيلا يقولها دون حرص أو
حذر. في عام 1593
حكمت عليه محاكم التفتيش بتهمة الهرطقة وبعد سنوات وكنوع من العفو الجزئي تم تحديد
إقامته في ديرٍ في نابلس.
في
هذا الوقت كان جنوب إيطاليا تحت حكم الإسبان وقد شارك كامبانيلا في مؤامرة لطرد
هؤلاء الغزاة. كان أمله هو أن يستقل بالجنوب ويحوله إلى جمهورية تقوم على أفكاره
الخاصة عن المدينة الفاضلة، لكن استطاع قادة محاكم التفتيش بالتعاون مع نظرائهم من
الإسبان باعتقاله مرة أخرى. هذه المرة أخذوا يعذبونه لِيُدلي لهم بطبيعة اعتقاداته
المنحرفة: كانوا يضعونه معلقاً من ذراعية في وَضْعِ القرفصاء على ارتفاع عدة
سنتيمترات من مقعد مزود بمناخس كبيرة، وكان الوضع يسبب للمعذب ألما يصعب احتماله،
وكان يتم إنزال السجين تدريجياً إلى أن تقوم المناخس المسنونة بتمزيق لحمه.
في
هذه السنوات تعلم کامبانيلا بعض الدروس عن السطوة، وقد أدى اقترابه من الموت عقاباً
على هرطقته إلى تغييره لإستراتيجيته: لم يُغَيِّر أفكاره ولكن أصبح يُخفيها ويُظهر
نفسه متماشياً مع الفكر الشائع.
حتى
يتمكن من الفرار من الموت ادّعى الجنون وأقنع محكمة التفتيش أن انحراف أفكاره سببه
اضطرابه العقلي، وظلت المحكم تُعذِّبه لتعرف إن كان جنونه حقيقياً أم ادعاءً، لكن
في عام 1603
تم تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة، قضي السنوات الأربع الأولى منها في سجن تحت
الأرض مقيداً للحائط بالأغلال. على الرغم من هذه الظروف استمر كامبانيلا في
الكتابة لكنه لم يعد من السذاجة ليعبر عن أفكاره الحقيقية صراحة.
في
كتابه المملكة الأسبانية رَوَّج کامبانيلا لفكرة أن لإسبانيا رسالة إلهية عليها أن
تنشرها حول العالم وقدم لملكها نصائح عملية على طريقة مكيافيللي لتحقيق ذلك. وعلى
الرغم من اقتناعه الشخصي بمكيافيللي إلا أن أفكار الكتاب كانت مناقضة تماماً
لأفكار مكيافيللي، كان كتاب المملكة الأسبانية حيلة يُبَيِّن بها للجميع رجوعه للأفكار
التقليدية للكنيسة بحماسٍ وتَشَدُّد ونجحت الحيلة. في عام 1626
وبعد ست سنوات من نشر الكتاب أصدر البابا عفواً نهائياً عن كامبانيلا,
بعد
العفو عنه بفترة قليلة نشر كامبانيلا كتاباً آخر سَمّاه تهافت الإلحاد يهاجم فيه
المؤمنين بحرية التفكير والمكيافيليين والكالفينيين وغيرهم من المهرطقين. كان
الكتاب مبنياً في صورة جدل حيث يذكر المهرطقون حججهم ويرد عليهم کامبانيلا انتصارا
لمبادئ الكاثوليكية. كان الكتاب دليلاً على أن كامبانيلا قد تغير وتخلى عن أفكاره
القديمة تماماً، لكن هل تغير حقا؟.
لم
يجرؤ أحد أبداً من قبل أن يذكر البراهين التي ذكرها كامبانيلا على ألسنة المهرطقين
بقدر كبير من الحيوية والوضوح، فادعاؤه بأنه من المناصرين للكاثوليكية سمح له أن
يعرض الأدلة ضدها ببلاغة، أما الردود التي قالها انتصاراً للكاثوليكية المفترض أنه
معها كانت ردوداً عقيمة وخالية من الروح والمنطق. الخلاصة أن من كان يقرأ الكتاب
كان يقف ليتأمل براهين المهرطقين المختصرة والصادمة والبليغة بينما بدت الحجج
الطويلة لصالح الكاثوليكية مرهقة وغير مقنعة.
الكاثوليكيون
الذين قرأوا الكتاب رأوه محيراً ومزعجاً، لكن لم يكن في إمكانهم أن يتهموا
کامبانيلا بالهرطقة أو أن يسجنوه مرة أخرى، فالحجج التي ذكرها للدفاع عن
الكاثوليكية هي الحجج التي يستخدمونها هم أنفسهم. في السنوات التي تلت أصبح کتاب
تهافت الإلحاد الكتاب المقدس للملحدين والمكيافيليين والزنادقة، فأصبحوا يستخدمون
الحجج التي ذكرها كامبانيلا على ألسنتهم مدعياً أنه يقاوم أفكارهم الخطيرة. أثبت
کامبانيلا بالادعاء ظاهرياً بأنه يؤمن بالفكر السائد وذكره المبطن لكل ما يريد أن
يقوله عن اعتقاداته الحقيقية أن يثبت أنه قد تعلم الدرس جيداً عن هذه القاعدة من
قواعد السطوة.
التعليق:
في
مواجهة الاضطهاد الرهيب ابتكر كامبانيلا ثلاثة تحركات إستراتيجية أخفت حقيقة
أفكاره وحررته من السجن ومَكَّنَته
في نفس الوقت من التعبير عن اعتقاداته الحقيقية بطريقة
آمنة. أول هذه التحركات أنه ادعى الجنون والذي كان يعني في العصور الوسطى عدم
مسئولية المرء عن أفعاله. التحرك الثاني أنه أعد كتاباً ينشر فيه عكس ما يعتقد
تماماً، والتحرك الأخير والأكثر عبقرية أنه أنكر أفكاره ونشرها في نفس الوقت، وهي
حيلة قديمة ولكنها فعالة: أن تظهر وكأنك تخالف الأفكار التي تشكل خطراً على
الاعتقاد السائد ولكن في تعبيرك عن مخالفتك لهذه الأفكار تعبر عنها وتنشرها بوضوح
وبلاغة، وهكذا تنال حماية المدافعين عن الأفكار القديمة وفي نفس الوقت تطعنهم في
صميم حماقتهم.
يتحتم
عليك ذلك في المجتمعات التي انفصلت فيها القيم والعادات عن حكمتها الأصلية وأصبحت
نوعا من القهر. في هذه المجتمعات يظل يظهر من يتمردون على هذا القهر ويتبنون
أفكاراً تتجاوز عصرهم بكثير. لكن وكما تعلم کامبانيلا ليس هناك معنى أن تعبر عن
أفكارك الحرة إن لم تكن ستجني غير الاضطهاد والمعاناة، فاستشهادك في سبيل فكرك لن
يفيدك في شيء، وأفضل لك أن تعيش في عالم قهري وتزدهر فيه وتبحث عن طرق ماكرة
للتعبير عن أفكارك لمن يفهمها عن أن تمنح لآلئك لخنازير لا يدركون قيمتها ولا يسببون
لك غير الألم والمتاعب.
امتنعتُ
لفترات طويلة عن قول ما أؤمن به، وأقول ما لا أصدقه. وإن حدث أحياناً وقلت الحقيقة
كنت أحرص على وضعها وسط الكثير من الأكاذيب حتى لا يستطيع أحد أن يكتشفها. (نيقولو مكيافيلي، في خطاب لفرانسيسكو
جويشياديني، 17
مايو 1521)
مفاتيح
للسطوة:
نلجأ
جميعاً إلى الكذب وإلى إخفاء مشاعرنا الحقيقية أحيانا لأنه يستحيل علينا اجتماعياً
أن نبوح بكل ما يجيش في صدورنا، فمن فترة مبكرة من أعمارنا نتعلم أن نقول للغضوبين
ومن لديهم خور في أنفسهم ما يريدون سماعه حتى لا نحرجهم ونستفزهم. ويرى أغلبنا أن
ذلك شيء طبيعي لأن هناك الكثير من القناعات يتقبلها الناس كما هي ولا فائدة من
الجدال حولها، فنحن جميعاً نؤمن من داخلنا بما نريد ولكن من الخارج نرتدي الأقنعة
التي تجعل الناس يقبلوننا بينهم.
لكن
هناك أشخاص يرون في هذه القيود انتهاكاً لا يطاق لحريتهم ويرغبون في إثبات تفوق
قناعاتهم وقيمهم على الأفكار السائدة، وفي النهاية تُشعِر أفكارهم الكثيرين ممن
حولهم بالإهانة بينما لا يقتنع بها إلا قلائل. السبب في فشل البراهين العقلانية
على تغيير قناعات الناس هو أن أغلبهم يحملون أفكارهم وقيمهم كما ورثوها دون أن
يفكروا فيها وتتكون لديهم مشاعر نحوها بمرور الوقت ومشاركتها مع من تحبونهم، ولذلك
لا يرغب الناس في تغيير ما اعتادوا عليه وحين يحرجهم أحد بالبراهين أو بالتصرفات
يشعرون بالغضب والرغبة في الانتقام.
يتعلم
من يتحلون بالحكمة ومهارة التعامل أن من الممكن لهم أن يتصرفوا ويتكلموا حسب المعايير
السائدة دون أن يكون عليهم الاقتناع بها من داخلهم، وما يجنيه هؤلاء من السطوة
بالتماشي مع ما يتوقعه منهم الآخرون يوفر لهم الوقت والحرية للتفكير في ما يقنعهم
واختيار الأشخاص والوسائل التي تسمح لهم بالتعبير عن أفكارهم الحقيقية دون أن
يتعرضوا للعزلة والاضطهاد. وحين يصلون إلى موقع السلطة يستطيعون إقناع أعداد أكبر
من الناس بصحة أفكارهم أو ربما يستخدمون إستراتيجية كامبانيلا بالإنكار والترويج
معاً.
في
نهاية القرن الرابع عشر بدأت إسبانيا اضطهادا موسعا لليهود؛ فقتلوا منهم الآلاف
ونفوا آلاف أخرين إلى خارج البلاد، وأجبروا من تبقوا على تغيير دينهم. لكن في
القرون الثلاثة التالية لاحظ الإسبان ظاهرة أزعجتهم وهي أن الكثيرين من اليهود
الذين تحولوا للكاثوليكية كان يظهرون من الخارج نمط الحياة المسيحي ولكن فيما
بينهم وداخل بيوتهم كانوا لا يزالون يؤمنون بدينهم القديم ويمارسون شعائره. أطلق
الإسبان على هؤلاء لقب المارانوس (وهي كلمة تحقير تعني بالإسبانية الخنازير)، وقد
وصل بعض هؤلاء المارانوس إلى مناصب عليا في الحكومة وتزوجوا من الأسر النبيلة
وأظهروا كل مظاهر الورع الكاثوليكي وفي أواخر حياة بعضهم كان يكتشف أنهم يهود يمارسون
تعاليم دينهم. (وقد تأسست محاكم التفتيش في
الأصل لاكتشاف هؤلاء المارانوس). وبمرور السنوات أتقن هؤلاء الأشخاص فنون الرياء
فكانوا يرتدون الصلبان أمام الناس ويقدمون الهدايا السخية للكنائس بل يطلقون
أحياناً تعليقات مهينة لليهود، لكن من داخلهم كانوا يتمسكون بمعتقداتهم.
أدراك
المارانوس أن المظاهر هي أهم شيء داخل المجتمعات، وما زال الأمر كذلك حتى يومنا
هذا. الإستراتيجية في ذلك بسيطة: وهي ما فعله كامبانيلا بنشر كتابه تهافت الإلحاد
والذي أظهر تماشيه بل تماديه في الدفاع عن الفكر السائد. فإن تمسكتَ بالمظاهر
السائدة فلن يكتشف الإ القليلون أن لك اعتقادات أخرى وأنك تخادع.
من
السذاجة أن تظن أن سطوة الأفكار التقليدية قد اختفت في عصرنا الحالي. اعتقد العالم
جوناس سولك أن العلم استطاع أن يتخطى سلطة السياسة والإجراءات ولذلك وفي بحثه عن
مصلٍ لمرض شلل الأطفال كسر كل القواعد، وأعلن اکتشافه للجمهور قبل أن يعرضه على
اللجان العلمية المختصة ونسب لنفسه الاكتشاف دون أن يذكر من مَهَّدوا له الطريق.
أصبح بالفعل نجماً بين الجماهير ولكن نبذه زملاؤه العلماء وأدى تجاهله لتقاليد
المجتمع العلمي إلى عزلته بينهم وظل يسعي لسنوات لإصلاح هذا الشرخ وللحصول على
التمويل والاعتراف لأبحاثه.
حين
تعرض برتولت بريخت للاستجواب من قبل لجنة الأنشطة المناهضة لأمريكا أثناء الحرب
العالمية الثانية بتهمة الاعتقاد بالشيوعية لم يلجأ إلى المواجهة بل لجأ إلى إستراتيجية كامبانيلا وارتدي
أرقي ثيابه وتعامل مع أعضاء اللجنة بوقار وسخر منهم في نفس الوقت الذي كان يظهر
لهم أنه يحترم سلطتهم.
بعدها
توجه بريخت إلى ألمانيا الشرقية وهناك واجه نوعاً آخر من محاكم التفتيش؛ حيث اتهم
الشيوعيون الممسكون بالسلطة مسرحياته بأنها محبطة ومتشائمة. لم يجادلهم بريخت في
ذلك بل غَيَّر النصوص المعروضة على المسرح لترضي اعتراضاتهم في حين تَمَكَّن من
نشر النصوص المطبوعة كاملة. أدي تماشي بريخت مع المعايير
السائدة إلى تَمَكُّنه من الاستمرار في العمل وفي نفس
الوقت من التعبير بحرية عن أفكاره، الحقيقة أنه من القلائل الذين استطاعوا أن يُعبِّروا
عن أفكارهم بأمان في تلك الأوقات الخطيرة وفي بلدين مختلفين وذلك بحيلةٍ بسيطة وهي
الادعاء ظاهرياً بأنه يتفق مع المعايير السائدة، وأثبت بذلك أنه بذكائه كان أقوى
من قوى القمع والاضطهاد.
لا
ينحصر دهاء رجال السطوة في أنهم يتجنبون الخطأ الذي ارتكبه بوسانيوس وسولك بإهانة
المعايير السائدة بل يبرعون كالثعالب في إقناع العامة بأنهم يُشارکونهم في قِيَمهم
وأفكارهم، فتلك كانت مهارة المحتالين والساسة على مر التاريخ. استطاع قادة من
أمثال يوليوس قيصر وفرانكلين د. روزفلت أن يسيطروا على ميلهم لإظهار أسلوبهم
المترف في الحياة لِيُشعِروا العوام بأنهم يتآلفون معهم. كانوا يظهرون هذا التآلف
بتلميحات بسيطة وغالباً ما تكون رمزية ليبينوا للناس أنهم كقادة يَتَبَنُّون قِيَم
شعوبهم على الرغم من اختلافهم معهم في المكانة الاجتماعية.
الامتداد
الطبيعي لهذه المهارة أن تتعلم أن يجد فيك كل شخص ما يتمناه، وحين تدخل مجتمعاً
معيناً عليك أن تنسى أفكارك وقِيَمَك الخاصة وترتدي القناع الذي يشعر الجماعة التي
تتعامل معها بالألفة. ظل بسمارك يمارس هذه اللعبة ببراعة لسنوات - كان هناك أشخاص
يعرفون بشكل غير محدد ما كان بسمارك مُقدِماً عليه لكنهم لم يكونوا على يقين
يمكنهم من الإضرار بخطته. فالناس يبتلعون طُعْمَ التماشي معهم لأنهم يرغبون في
الشعور أنك تشاركهم اعتقاداتهم. ولن يشعر الناس أبداً بأنك ترائيهم وتنافقهم إن لم
تدعهم يعرفون حقيقة أفكارك. ولن ينظروا إليك أيضاً على أنك انتهازي بلا قِيَم
لأنهم يعرفون أن لك قِيَماً وهي القيم التي تشاركهم فيها حين تكون معهم.
اقتباس من معلم: لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قُدّام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقکم (السيد المسيح، متى 7:6).
الصورة
الخراف
السوداء: ينبذ أفراد القطيع الخراف السوداء لأنهم
لا يعرفون يقيناً إن كانت هذه الخراف بالفعل منهم. تبقى هذه الخراف السوداء شاردة
وتتجول بعيداً عن القطيع فتنصيدها الذئاب وتفضي عليها. ابقَ دائماً مع القطيع -
فالكثرة تمنحك الأمان. واحتفظ باختلافك لِسِرِّك ولا تجعله أبداً ظاهراً للأخرين.
عکس
القاعدة:
الوقت
الوحيد الذي يُمكنك أن تُبرِزَ فيه أفكارك بأمان هو الوقت الذي تكون فيه بالفعل
بارزاً، وحين تكون لديك السلطة الراسخة والقوية. في هذا الوقت يؤدي إظهار اختلافك
إلى تأكيد المسافة التي تفصلك عن العامة. كان الرئيس الأمريكي ليندون جونسون يعقد
اجتماعاته أحياناً وهو جالس في الحمام، ولأنه لم يكن لأحد غيره أن يفعل ذلك كان
جونسون يؤكد ذلك امتيازه وعدم اهتمامه بالمعايير والآداب السائدة التي تحكم علاقة
الشخص بالآخرين. وكان الإمبراطور الروماني كاليجولا يقوم بنفس الدور، فقد كان
يرتدي ملابس المنزل أو ثياب الحمام حين يقابل ضيوفاً مرموقين، بل ذهب إلى أبعد من
ذلك وعَيَّن حصانه الخاص قنصلاً عاماً. ولكن الحقيقة أن ذلك قد ارتدَّ على كاليجولا
وعاد عليه بكراهية العوام وأدى به هذا الاستهتار بالأعراف إلى انقلاب الناس عليه
في النهاية. الحقيقة أنه يجب حتى على من يصلون إلى قمة السلطة أن يحافظوا على بعض
الصلة بالعامة والتماشي مع الأعراف السائدة لأنهم سيحتاجون حتماً للدعم الشعبي في
فترة ما من حياتهم.
أخيرا
فإنه يأتي دوماً شخص يزعج الناس ويسخر من كل ما تجمد وتحلل في الثقافة. استطاع
أوسكار وايلد مثلاً أن يحقق شهرته وسطوته بالاعتماد على هذا الأساس، فقد أعلن
صراحة أنه يحتقر الأعراف والطرق المعتادة للتعامل مع الأمور. ولم يكن الناس
يتوقعون فحسب بل يرحبون أن يهين أساليبهم في كل عمل جديد بنشره. لكن إن تأملنا
الحقيقة نرى أن هذا النشاذ هو الذي أدى إلى سقوط أوسكار
وايلد في النهاية أما الذي سمح له بالصعود فهو عبقريته
التي تجاوزت المعتاد: فبدون قدرته على الإضحاك والتسرية عن الناس لم يكونوا أبدا
ليَقبلوا إهانته لهم.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق