الأربعاء، 5 مارس 2025

• إزهد في كل ما قد يعطى لك مجاناً (القانون 40)

القاعدة 40 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة: 

احذر مما قد يُعطى لك مجاناً لأن ذلك قد يكون وسيلة لخداعك أو لإحراجك وإلزامك أخلاقياً. تحرر من هذا العبء وادفع بسخاء ثمن كل ما ترى له قيمة، ولا تبخل لأن البخلاء لا يحققون السطوة أبداً. كن سخياً وانفق من مالك بحرية لأن السخاء هو سر السطوة وقلبها النابض. 

المال والسَّطوة: 

في عالم السَّطوة عليك أن تحكم على أي شيء بثمنه؛ لأن لِكل شيء بالفعل ثمن. وما يُوهب لك مجاناً غالباً ما يكون له ثمن نفسي - مثل إشعارك بالواجب تجاه من يقدم إليك الهبة وتنازلك عن مستوى معين لما تطلبه في التعامل معه، والخور الذي تأتي به التنازلات، وغير ذلك كثير، ويحرص أصحاب الصحوة على أهم شي لديهم وهو استقلالهم في اتخاذ القرار والفرصة للمناورة بحرية بدفعهم للثمن کاملاً لأن ذلك يحررهم من التعقيدات والمشاكل. 

تدريبُ نفسك على التعامل مع المال بِتَفَتُّح ومرونة يُعلِّمك أيضاً قيمة السخاء كإستراتيجية، وهي صورة من المبدأ القديم أنه "حين تريد أن تأخذ عليك أن تعطى أولا" ، فَمَنْحُك هديةً ملائمة لشخص تجعله يشعر بالواجب تجاهك، كما أن السخاء يُلَيِّن نفوس الناس ويجعلهم أسهل للخداع. وحين يُشتَهر عنك الكرم والسخاء ستنال إعجاب الآخرين وتجعلهم لا يشعرون بألعاب السطوة التي تقوم بها. وإنفاقك مالك بكرم وذكاء يجذب إليك رجال الصفوة ويسعدهم بصحبتك ويجعلهم حلفاء لك. 

تأمل أساتذة السطوة من أمثال سيزار بورجيا والملكة إليزابيث ومايكل أنجلو وآل مديتشي ولن تجد من بينهم بخيلا. بل حتى المحتالين كانوا ينفقون بسخاء الإنجاح احتياهم. وحين تريد أن تجذب امرأة فإن أكثر ما يبعدها عنك هو البخل، وكان كازانوفا بنفق الكثير ليس من نفسه فقط ولكن من ماله أيضاً ليفتن المرأة التي يريدها. ويعرف الأقوياء أن المال يُحرِّك المشاعر وأنه إيضاً وسيلة للتعبير عن التَّحضُّر والاختلاط بالناس، ويجعلون من الجانب الإنساني للمال سلاحاً في ترسانتهم.

وبالرغم من أنه يمكن لأي شخص أن يستخدم المال كوسيلة إلا أن هناك الكثيرين تغلّ أيديهم رغبة مدمرة تمنعهم عن إنفاق المال ببراعة وإستراتيجية، وهؤلاء هم العكس تماماً من أصحاب السطوة وعليك أن تتعلم أن تكتشفهم لِتُبعد تأثيراتهم السامة عن حياتك أو لتستفيد من جمودهم لصالحك. وفيما يلي ذكر للأنواع الأساسية من هؤلاء: 

حيتان الجشع: لا يرى حيتان الجشع أي جانب إنساني للمال، يتصرفون بقسوة وبرود ولا يرون في تعاملاتهم إلا الإنفاق والعائدات، ولا ينظرون للآخرين إلا كأدوات أو عوائق في طريق سعيهم للمزيد من المال، ولا تهمهم مشاعر الآخرين ويبعدون عنهم الحلفاء، ولا أحد يحب أن يعمل مع هؤلاء الحيتان وبمرور الوقت ينفضّ عنهم الناس وتقضي عليهم عزلتهم في النهاية. 

هؤلاء الحيتان غالباً ما يكونون صيداً سميناً للمحتالين، فبإغرائهم بالكسب السريع يجعلونهم يبتلعون الطُّعم والصنارة بل والخيط الذي يشده. السبب في سهولة خداعهم أنهم يدربون أنفسهم على معرفة الأرقام وليس الناس، وبالتالي لا يعرفون شيئاً عن ألاعيب النفوس سواء نفوس الآخرين أو نفوسهم هم. عليك أن تتعرف على هؤلاء الحيتان حتى تتجنب استغلالهم لك أو أن تستغل جشعهم لصالحك. 

عبيد المساومة: أصحاب السطوة يحكمون على الأشياء بثمنها؛ لكن الثمن لا يعني المال وحده ولكن أيضاً راحة البال والحفاظ على الوقار وهو بالضبط ما لا يستطيع عبيد المساومة أن يفعلوه. هؤلاء الأشخاص يقضون معظم أوقاتهم يبحثون عن أرخص سعر، وما يشترونه غالباً ما يكون أدني في الجودة وقد يحتاج منهم بمرور الوقت لترميمات أكثر كلفة أو يستبدلونه بسرعة أكبر مما لو اشتروا السلعة الأجود. غالباً ما يدفع عبيد المساومة سعراً أعلى مما يستحقه الشيء ولكن ما يخسرونه ليس المال وحده بل وقتهم وراحة بالهم أيضاً، ولكن كل ذلك لا يعنيهم لأن المساومة تكون بالنسبة لهم هي الغاية والوسيلة. 

قد تعتقد أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يؤذون إلا أنفسهم، لكن عليك أن تَحذرهم لأن طريقتهم قد تعديك؛ فإن لم تنتبه لهم ستجد نفسك تتصرف مثلهم وتشعر مثلهم بعدم الرضا والأمان عن أي شيء تشتريه، وتبحث دائماً عن أرخص سعر، لا تجادلهم أو تحاول أن تغيرهم، لكن ذَكِّر نفسك في كل مرة تراهم يجرون وراء صفقاتهم العبثية بالأثمان الإضافية من الوقت وراحة البال بل وحتى المال. 

الساديّون: يتعامل الساديون بالمال بدناءة شديدة ويستخدمونه لإبراز سطوتهم على الآخرين، فقد تجدهم مثلاً يماطلونك في دفع دين عليهم أو يقولون لك أنهم قاموا بتحويل المال إليك وأنه سيستغرق بعض الوقت. وإن كنت تعمل لدى أحدهم ستجده يتطفل عليك في كل شئون وظيفتك ويسبب لك توتراً قاتلاً. السّاديّ شخص يتصرف حين ينفق المال لشراء شيء وكأنه امتلك الحق في تعذيب البائع وإهانته، ويفتقد الساديون الإحساس المتفتح بالمال الذي يميز مجتمع الصفوة. وإن كنت من الذين أتعسهم الحظ بالتعامل مع أحد هؤلاء فعليك أن تفكر جدياً أن تؤهل نفسك لخسارة بعض المال بدلاً من تعريض نفسك لإيذائه وألعابه الدنيئة. 

الأسخياء بدون حساب: للسخاء وظائف محددة في لعبة السطوة وهي أنه يجذب إليك الناس ويلينهم تجاهك ويجعلهم حلفاء لك، لكن عليك أن تستخدم المال بشكل إستراتيجي وتنفقه لغرض في ذهنك. أما الأسخياء دون حساب فينفقون المال بسبب احتياجهم لحب الناس وإثارة إعجابهم، وإنفاقهم للمال دون حساب يعود عليهم بعكس ما يريدون: فكيف سيشعر من تمنحه بالتميز إن کنت تعطي الجميع دون حساب؟. ربما يغري البعض أن يستغلوا أولئك الأسخياء ولكن إن فعلت ذلك سيرهقك احتياجهم الشديد للحب والتقارب ويصيبك بالملل. 

انتهاكات القاعدة 

الانتهاك 1: 

في عام 1532 وبعد أن تمكن فرانسيسکو بيزارو من غزو بيرو بدأ الذهب يتدفق على إسبانيا، وبدأ الإسبان من كل الطبقات يحلمون بتحقيق الغني السريع في العالم الجديد، وبدأت الحكايات تنتشر بسرعة في أنحاء البلاد عن زعيم لأحد قبائل الهنود يمارس طقساً سنوياً بأن يدهن نفسه كاملا بالذهب ثم يغوص في البحيرة، وبالغت الشائعات وحولت كلمة إلدرادو من «رجل الذهب» إلى إمبراطورية الذهب وأنها  أغنى من الإنكا وأن كل شيء فيها من الشوارع والبيوت مطلي بالذهب. ولا نستغرب أن تصل الحكايات الشعبية إلى هذه المبالغات لأن من يهدر مثل هذا الذهب كل عام في البحيرة لابد وأنه يحكم إمبراطورية بها كميات لا تحصى منه. وبدأ الإسبان يبحثون في كل الأنحاء الشمالية من أمريكا الجنوبية عن مملكة إلدرادو. 

في عام 1541 أبحرت باتجاه الشرق من ميناء کوينو بالإكوادور أكبر حملة منظمة للبحث عن الدرادو يقودها جونزالو أخو فرانسيسکو بيزارو: كانت تتكون من 360 رجل أسباني في دروعهم اللامعة معهم 4000 مرشداً هنديا و 4000 خنزيراً وعشرات من حيوانات اللاما وما يقرب من الألف كلب. وبعد مسيرة قصيرة واجهت الحملة أمطار مدارية غزيرة أبطأت تحركهم وأفسدت مخزونهم من الطعام. وحين كان جونزالو يسأل هنود المنطقة ويشعر أنهم يخفون معلومات أو حتى لا يعلمون شيئاً كان يعذبهم ويرمي لحومهم للكلاب، وانتشر بين هنود المنطقة أن أفضل وسيلة للتعامل مع جونزالو هي أن يختلقوا له معلومات مضللة تبعده عنهم على قدر ما يستطيعون. وحين كان جونزالو ورجاله يتبعون ما وصفه لهم الهنود كانوا يجدون أنفسهم يتوغلون في أعماق الغابات. 

انخفضت معنويات المستكشفين، وتمزقت أزياؤهم العسكرية وصدأت دروعهم ورموها وأصبح عليهم أن يسيروا حفاة بعد أن بُليت أحذيتهم، ومات عبيدهم من الهنود وتمكن بعضهم من الهرب، وفي النهاية لم يكونوا قد استهلكوا كل خنازيرهم وحيوانات اللاما فحسب بل التهموا أيضا كل الكلاب وبدأوا يعيشون على الثمار والجذور. بعد أن رأى جونزالو أنه لا يمكنهم أن يستمروا في هذه الأحوال قرر أن يغامروا بالإبحار عبر نهر نابو الخطر، لكنهم سرعان ما وجدوا أن النهر ليس أحن عليهم من الأدغال فعسكروا على ضفافه وأرسلوا مستطلعين للبحث عن مستوطنات للهنود بها طعام. انتظر جونزالو عودة المستطلعين لكنه عرف لاحقاً أنهم تخلوا عن المعسكر ورحلوا عبر النهر نجاة بأنفسهم. 

ظلت الأمطار تنهمر دون توقف، ونسي رجال جونزالو ما جاءوا لأجله. كان حلمهم الوحيد هو أن يعودوا إلى کويتو. وأخيراً وفي أغسطس من عام 1042 عاد منهم ما لا يزيد عن مائة رجل من حملة كان تعدادها بالآلاف. دخل الناجون إلى کويتو وكأنهم عائدون من الموت؛ يرتدون الخرق والجلد، أجسادهم متقرحة ولا يتعرف عليهم أحد من الهزال الشديد. كانوا قد قضوا عاماً ونصف يدورون عبثا في دوائر فارغة، وساروا حفاة ما يقرب من الألفي ميل، وضاعت هباء الأموال الهائلة التي أنفقوها على الحملة. فلم يجدو أي إندرادو أو أي ذهب. 

التعليق: 

حتى بعد أن انتهت حملة جونزالو بيزارو بكارثة، ظل الإسبان يرسلون الحملة بعد الأخرى بحثاً عن إلدرادو. كانت كل حملة تكرر ما فعله جونزالو من تخريب قرى الهنود ونهبها وتعذيب سكانها، وكانوا يتحملون مشقات يصعب تخيلها وفي النهاية تضيع جهودهم سدي. استمر إغراء الحلم رغم أن الأموال التي أهدرت في سبيله كانت أكبر من أن تحصى. 

لم يتوقف الأمر عند إهدار المال وآلاف الأرواح فقط بل استمر إلى أن قضى للأبد على إسبانيا كإمبراطورية، بعد أن أصيب الإسبان بهوس الذهب بدأوا ينفقون الذهب الذي يأتيهم من مستعمراتهم وكان كثيراً للغاية على حملاتهم العبثية وعلى الرفاهية والترف وتجاهلوا الإنفاق على الزراعة والصناعة وغيرها من وسائل الإنتاج، هجر الفلاحون والعمال مهنهم وضعف الجيش بسبب عدم القدرة على ضم جنود جدد محل من هلكوا في الحروب التي كانت تشنها إسبانيا على العديد من دول أوروبا، في نهاية القرن السابع عشر وصل عدد سكان إسبانيا لأقل من نصف تعدادهم الأصلي، وقل عدد سكان العاصمة مدريد من 400,000 إلى 150,000. وأدى نقص العائدات إلى إسبانيا إلى انحطاط لم تتعاف منه بعدها تماما. 

تحتاج السطوة إلى ضبط النفس، وعدم الاستسلام لأوهام الثراء السريع. ويظل محدثو الثراء يظنون أنه يمكنهم دائما تحقيق المزيد ويتوقعون أن يحققوا نجاحات كبيرة دون جهد. 

يفقدهم هذا الوهم كل ما تقوم عليه السطوة، مثل التحكم بالنفس وبناء العلاقات الطيبة بالآخرين. ولتفهم أن التغير الوحيد الذي يأتي سريعا هو الموت، ويندر أن يدوم الثراء الذي يتحقق بسرعة لأنه لا يقوم غالباً على أساس صلب. لا تدع شهوة المال تبعدك عن ترسيخ الأساسات الآمنة والقوية للسطوة الحقيقية. اجعل السطوة غايتك وسوف تجد المال يأتيك من حيث لا تحتسب، واترك إلدرادو لأصحابها من السذج والمغفلين 

انتهاك القاعدة 2: 

في أوائل القرن الثامن عشر لم يكن أحد في مجتمع الصفوة الإنجليزي بفوق دوق ودوقة مارلبورو في السطوة والمكانة. كان الدوق قد أصبح أعلى قائد ومخطط إستراتيجي في أوروبا بعد أن قاد عدة حملات ناجحة ضد فرنسا، واستطاعت الدوقة بعد محاولات عديدة أن تصبح أقرب المقربات من الملكة آن التي تولت حكم إنجلترا عام 1702. وبعد انتصار الدوق في معركة بلينهايم عام 1704 أصبح معشوق إنجلترا وکرمته الملكة بإعطائه قطعة أرض كبيرة في مدينة وودستوك والمال لبناء قصر كبير عليها، أطلق الدوق على قصره المستقبلي اسم قصر بلنهايم وكلف المعاري والمؤلف المسرحي الشاب جون فانبرو بتصميمه وبنائه. بدأ البناء في صيف عام 1705 مع الكثير من الاحتفالات والتوقعات. 

كان لدي فانبرو إحساس مسرحي بالمعمار، وكان المقصود بالقصر أن يكون نصباً لتخليد عبقرية الدوق مارلبورو وسطوته، وأن يحوي بحيرات صناعية وجسور ضخمة وحدائق منمقة وغيرها من اللمسات المعمارية الرائعة. لكن ذلك لم يسر الدوقة من البداية فقد كانت ترى أن فانبرو ينفق الكثير كما كانت تطالبه بأن ينتهي من البناء بسرعة. كانت الدوقة تتدخل في كل التفاصيل وترهق فانبرو والعمال باعتراضاتها. وكانت تعلق على إنفاقات تافهة وعلى الرغم من أن الحكومة هي التي كانت تنفق على البناء إلا أنها ظلت تحاسب العمال على كل قرش. وأدى تذمرها المستمر بشأن القصر وغيره من الشئون إلى تدمير علاقتها بالملكة آن، فقامت آن في عام 1711 بطردها من البلاط وأمرتها بإخلاء جناحها في القصر الملكي. شعرت الدوقة بالغيظ والحزن على خسران مكانتها وراتبها الشهري، وقبل أن تخلي الجناح حرصت على أن تأخذ معها كل الكماليات حتى مقابض الأبواب. 

في الأعوام العشر التالية ظل البناء يتوقف ويستمر بسبب تعذر الحصول على الاعتمادات من الحكومة، واعتقدت الدوقة أن فانبرو يبعثر أموالها وكانت تعارضه على كل حمولة جير أو أحجار بناء، وتحاسبه على أي زيادة بسيطة في أعمدة الحديد أو الخشب، وكانت تهين العمال والمقاولين وتتهمهم بالكسل. لم يكن الدوق العجوز يرغب في شيء أكثر من أن ينتقل إلى القصر قبل أن يموت، لكن الواقع أن البناء تعثر كثيراً بسبب دوامات من المحاكات فقد شكا العمال من أن الدوقة لا تدفع أجورهم فشكت الدولة المصمم المعماري. ووسط كل هذا الصخب مات الدوق دون أن يقضي ليلة واحدة في القصر الذي كان يأمل فيه كثيراً. 

ترك الدوق بعد موته ضَيعَةً كان ثمنها يبلغ مليوني جنيه وكان أكثر من كاف. لإنهاء البناء، ولكن الدوقة لم تتغير فقد أوقفت رواتب فانبرو والعمال وفي النهاية طردت فانبرو، واستكمل المعماري الجديد العمل في سنوات قليلة بالتطبيق الحرفي للتصميمات التي وضعها فانبرو. وفي عام 1726 مات فانبرو بعد أن حرمته الدوقة من أن يخطو داخل القصر ليرى أعظم إنجازات حياته. كان قصر بلنهايم بداية اتجاه جديد في المعار إلا أنه قد سبب لمبدعه عشرين عاماً من العذاب. 

التعليق: 

كان المال بالنسبة لدوقة مارلبورو وسيلة تُظهر بها سطوتها بأساليب ساديّة ومهينة للآخرين، وكانت ترى إنفاق المال على أنه خُسران رمزي للسطوة. ومع فانبورو كان الأمر أشد لأنه كان فناناً عظيماً وكانت تحسده على موهبته وعلى تحقيقه لشهرة لا تستطيع أبداً أن تنالها. ورأت أنها وإن لم تكن موهوبة مثله فإنها تملك المال الذي تعذبه به وتهينه في كل تفاصيل عمله. وأن تفسد عليه بالفعل حياته. 

إلا أن هذه السادية قد كلفت الدوقة ثمناً باهظاً، فالقصر الذي كان يتوقع إنجازه في عشر سنين لم يكتمل قبل عشرين عاماً، وأفسدت علاقتها بشخصيات هامة وأبعدتها عن مجتمع الصفوة وآلمت الدوق الذي لم يكن يتمني سوى العيش بسلام في بلنهايم وأدخلتها في نزاعات قضائية لا تنتهي، يضاف إلى ذلك بالطبع سنوات المعاناة التي سببتها لفانبورو. وفي النهاية كان للأجيال التالية الحكم الأخير فتم الاعتراف بفانبورو كأحد عباقرة المعمار أما الدوقة فلم يعد يذكرها أحد إلا کما ذكرناها مثالاً على الخسة والدناءة. 

يجب على رجل السطوة أن لا يتدني أبداً في تصرفاته، وأن تكون روحه تواقة اللعظائم، ويعتبر المال هو الساحة الأوضح لإظهار التدني أو الفخامة. ومن ينفق المال بسخاء ويشتهر بين الناس بالكرم يحقق مع الوقت مكاسب كثيرة، فلا تشغلك تفاصيل الحسابات المالية عن رؤية الصورة الكبرى لمكانتك بين الناس، فرفض الناس لك يكلفك ثمناً باهظاً على المدى الطويل. وإن أردت أن تتحكم بأعمال المبدعين الذين يعملون لديك فعليك على الأقل أن تدفع لهم بسخاء، لأن المال وليس ترهيبهم بسطوتك هو ما يضمن لك طاعتهم. 

مراعاة القاعدة: 

مراعاة القاعدة 1: 

استطاع بيترو آرتينو أن يصعد في المكانة الاجتماعية من ابن صانع أحذية بسيط إلى كاتب شهير للسخرية والهجاء، لكن كان عليه ككل الفنانين في عصر النهضة أن يبحث عن راعٍ يوفر له الحياة المُنَعَّمَة دون أن يتدخل فيها بكتبه، وفي عام 1528 قرر آرتينو أن يستخدم طريقة جديدة في التَّوَدُّد للرعاة غير التي اعتاد أن يستخدمها هو وأبناء عصره من قبل. غادر روما واستقر في البندقية حيث لم يكن الكثيرون يعرفونه، وكان قد ادّخر قدراً جيداً من المال. بعد أن استقر في منزله الجديد فتحه لاستقبال الأثرياء والفقراء على السواء وكان يُمتع الجميع بالترفيه والموائد، وصادق جميع سائقي الجندول في المدينة وكان يُحسن إليهم إحسان ملك. وفي الحياة العامة كان يمنح ماله بسخاء للشحاذين واليتامى ومن يغسلن الملابس. انتشر بين الناس أن آرتينو ليس مجرد کاتب عظيم بل كان سيداً أو رَجلَ سطوة. 

بدأ الفنانون وأصحاب النفوذ يترددون على منزل آرتينو، وأصبح من مشاهير المدينة ولم يكن أي شخص له أهمية يزور المدينة دون أن يلتقي بآرتينو. وقد أنفق معظم ما ادخره على معاملاته السَّخِيّة ولكنها في المقابل منحته النفوذ واحترام الجميع - وذلك هو الأساس الراسخ الذي تُبنى عليه السطوة. في إيطاليا في عصر النهضة كما في أي وقت ومكان آخر كان الناس يعتبرون أن الكرم من شِيَم الأثرياء ولذلك رأى النبلاء المترفون أن آرتينو سيداً له نفوذ لأنه كان يتصرف بالفعل وكأنه كذلك، ولأنه من المصلحة أن تشتري ولاء أصحاب النفوذ بدأ آرتينو يتلقى الكثير من الهدايا والأموال. أخذ الأدوات والدوقات وكبار التجار والبابا والأمراء يتنافسون في التقرب من آرتينو ويمنحونه الكثير من الهبات. 

كان إنفاق آرتينو للمال إستراتيجيا بالطبع، ونجحت إستراتيجيته كالسحر، ولكن كان عليه أن يجد راعياً واسع الثراء يمنحه ما يوفر له مالاً ثابتاً وحياة مريحة، وبِبَحثه في الساحة استقر رأيه على مركيز مانتوا فكتب ملحمة وأهداها للمركيز. كان ذلك من الأساليب المعتادة للفنانين الذين يبحثون عن رعاة: فكانوا يحصلون مقابل الإهداء على راتب بسيط لا يكفيهم إلا لإبداع عمل آخر، ولذلك كانوا يقضون عمرهم في استجداء دائم. إلا أن ما كان يريده آرتينو هو السطوة وليس الراتب الهزيل، حين أهدى ملحمته للمركيز أهداها کهبة كالتي يمنحها صديق إلى صديقه وليس كأجير يطلب من سيده أجراً. 

لم تتوقف هدايا آرتينو للمركيز عند هذا الحد، كان آرتيتو صديقاً مقربا لأعظم فنانين في البندقية وهما النحّات جاكوبو ساسوفينو والرسام تيتيان، وقد أقنعهما أن يشاركا في منح الهدايا للمركيز. وقبل أن يعد آرتينو خطته كان قد درس ذوق المركيز بِتَعَمُّق وأخذ يُوَجِّه الفنانين إلى الإبداعات التي تؤثر في الرجل، وحين كان يرسل له نحتاً من ساسوفينو أو رسماً من تيتيان كهدية عن ثلاثتهم كان المركيز يطير من الفرح. 

وفي الشهور التالية ظل آرتينو يرسل الهدايا التي كان يعرف أن المركيز يحبها مثل السيوف وأسرجة الخيل والزجاج المشغول الذي كانت تشتهر به البندقية، وبسرعة بدأ الأصدقاء الثلاثة يتلقون الهدايا بدورهم من المركيز، بل أن خدمات المركيز تجاوزت الهدايا المباشرة: فحين تم القبض على زوج ابنة أحد أصدقاء آرتينو توسط آرتينو لدى المركيز وأطلق سراحه، وبذلك استطاع كسب عرفان صديقه وكان تاجراً له نفوذ وكان يمكنه أن يستفيد من خدماته متى احتاجها. وهكذا اتسعت دائرة نفوذ آرتينو باستفادته مراراً وتكراراً من السطوة السياسية الكبيرة للمركيز، وذلك ما سهل له أيضاً الكثير من العلاقات العاطفية داخل البلاط. 

لكن بعد فترة توترت العلاقة بين الرجلين لأن آرتينو رأى أن المركيز ليس سخياً بما يكفي في ردّ سخائه، ولم يكن يرغب أن يُدني نفسه بالتذلل أو التوسل لأن تبادل الهدايا كان قد صنع نوعاً من الندية بين الرجلين وكان من الخطأ أن يطلب منه المال مباشرة، فانسحب من دائرة المقربين من المركيز وبدأ في التودد لرعاة جدد، فبدأ أولاً بفرنسيس ملك فرنسا ثم آل مديتشي ثم الإمبراطور شارل الخامس وغيرهم، وكان حصوله على أكثر من راع يعني أنه ليس مُجبراً على إذلال نفسه لأحدهم، وأصبحت سطوته تجعله وكأنه أحد اللوردات. 

التعليق: 

تَفَهَّم آرتينو خاصيتين أساسيتين للمال: أولاً أن حركة المال وليس تراكمه هي التي تأتي بالسطوة، وأن أهم ما يشتريه المال ليس الأشياء الجامدة وإنها السطوة على الآخرين، وقد استطاع آرتينو بإنفاقه الحكيم للمال أن يوسع دائرة نفوذه وهو ما عاد إليه بأكثر كثيراً مما أنفقه. 

ثانياً فَهِم آرتينو السِّمَة الأساسية للهدية، وهي أنك حين تمنح شخصاً هديةً يعني أنك والمتلقي على نفس المستوى على الأقل أو حتى أن لك الفضل، كما أن الهدية تُشعر مُتَلَقّيها بنوع من الإحراج والالتزام نحو واهبها، فحين يهبك شخص شيئاً ما ستجد حتماً أنه يتوقع منك شيئاً آخر وأنه يقدم إليك الهدية حتى يصبح من الصعب عليه أن ترفض طلبه. (ربما لا يفعل الأصدقاء ذلك بوعي ولكن تلك هي الحقيقة العميقة لما يحدث في العلاقات).

تَجَنَّب آرتينو تكبيل حريته بعائق الالتزام لِأَحد، وبدلاً من أن يتصرف کتابع يطلب من سيده المال غَيَّر آليات العلاقة بينه وبين راعيه تغييراً تاماً: فبدلاً من أن يُلزِم نفسه بالدين لمن يرعاه جَعَلَ رعاته مَدينين له. وكان ذلك هو الهدف من منح الهدايا، فقد استخدمها کَسُّلم يصعد به إلى أعلى درجات المكانة الاجتماعية، وعند وفاته كان قد أصبح بالفعل أشهر كاتب في أوروبا. 

ولتعرف أن: المال قد يتحكم بعلاقات السطوة ولكن ذلك لا يعتمد على قدر المال الذي تملكه بل على الطريقة التي تستخدمه بها. فرجال السطوة ينفقون بحرية ويشترون النفوذ أكثر من شرائهم للأشياء. وإن تَقَبَّلت موضع اليد السفلى بحجة أنك لا تملك ما يكفي من المال ستظل دائماً في هذا الموضع، وعليك بدلاً من ذلك أن تفعل ما فعله آرتينو مع مترفي إيطاليا بأن جعلهم يشعرون أنه ند لهم، تَصَرَّف کالسّادة وتَعَلَّم أن تُنفق بسخاء وأن تفتح بابك للضيوف وأن تبتعد عن تكنيز المال واصنع لنفسك واجهة السطوة من خلال السحر الذي يُحول المال إلى نفوذ. 

مراعاة القاعدة 2 

بعد أن جمع قطب المال جيمس روتشلد ثروته واجهته معضلة صعبة: فكيف كان له وهو يهودي وأجنبي أن ينال ثقة وتقدير الطبقات العليا في فرنسا التي تكره بشدة اليهود والأجانب؟. كان روتشلد يفهم طبيعة السطوة ويعرف أن الثروة تمنحه المكانة ولكن بدون القبول الاجتماعي لم يكن من الممكن للثروة أو المكانة أن تدوم، ولذلك درس طبيعة المجتمع في عصرة وبحث عن ما قد يمكنه من استمالة القلوب. 

لم يكن الفرنسيون يهتمون للأعمال الخيرية أو للنفوذ السياسي الذي كان يمتلکه بالفعل والذي لم يكن ليؤدي إلى المزيد من ارتياب الناس به، ورأى أن نقطة الضعف الوحيدة لدى الشعب الفرنسي هي شعورهم بالملل. بعد عودة الملكية إلى فرنسا أُصيبت الطبقات العليا بالسأم والملل، ولذلك بدأ روتشلد ينفق أموالاً طائلة للترفيه عنهم، فاستعان بأعظم المعماريين في فرنسا ليصمموا له الحدائق وقاعات الرقص وجعل أشهر طباخ في فرنسا ماري أنطوان کاريم يرتب له الموائد والحفلات المُسرِفة التي لم يشهد الفرنسيون لها مثيلاً، ولم يكن الفرنسيون ليقاوموا كل هذا حتى إن كان المضيف ألمانياً يهودياً. بدأ الناس يأتون بأعداد متزايدة إلى السهرات الأسبوعية التي يقيمها روتشلد، وفي النهاية أكتسب الشيء الوحيد الذي قد يُؤَمِّن السطوة لأجنبي وهو القبول الاجتماعي. 

التعليق: 

الكرم الإستراتيجي هو سلاح ينجح دائماً في تأسيس قاعدة تدعمك خاصة إن كنت أجنبياً، لكن روتشلد كان أذكى حتى من ذلك: فقد كان يعرف أن ماله هو الحاجز الأكبر الذي يفصل بينه وبين الناس ويجعلهم يرتابون به، وكانت الطريقة الأفضل لاجتياز هذا الحاجز هو أن ينفق مبالغ هائلة من هذا المال ليثبت للناس أنه يحب ثقافة ومجتمع فرنسا أكثر من حبه للمال. ما فعله روتشلد كان أشبه بحفلات البوتلاتش التي كان السكان الأصليون في جنوب غرب أمريكا يقيمونها: كانت كل قبيلة هندية ترمز لمكانتها وسطوتها بين القبائل بإنفاق أموالها على حفلات باهظة من آن لآخر، كان رمز سطوتها ليس ما تملكه من المال بل قدرتها على إنفاقه وثقتها أنها سوف تستعيد كل ما أهدرته في البوتلاتش. 

كانت سهرات روتشلد الأسبوعية تُبَيِّن أنه لا يرغب فقط في الاندماج في سوق المال الفرنسي بل في المجتمع الفرنسي نفسه، وكان يقصد بإنفاقه للمال على حفلاته الأشبه بالبوتلاتش أن يُبَيِّن أن سطوته تتجاوز الأعمال إلى عالم الثقافة الأعز والأسمى. من الممكن أن تعتبر أن روتشلد قد اشترى القبول الاجتماعي بالمال لكن قاعدة الدعم التي منحها له هذا القبول كانت أكبر كثيراً ما كان سيمنحه له المال وحده، بل أنه لكي يُؤَمِّن ثروته كان عليه أن «يهدرها»، وذلك هو السخاء الإستراتيجي مختصراً وبليغا. فهو القدرة على التعامل بمرونة مع الثروة وجعلها مفيدة ليس في شراء الأشياء والمقتنيات بل في كسب قلوب الناس. 

مراعاة القاعدة 3: 

استطاعت أسرة المديتشي في فلورنسا في عصر النهضة أن تُؤسِّس سطوةً هائلة من الثروة التي اكتسبتها من الأعمال المصرفية، لكن لم يكن لأبناء فلورنسا الذين اعتادوا على قِيَم الديمقراطية الجمهورية لعدة قرون أن يَتَقَبَّلوا فكرة أن تُشتري السَّطوة بالمال. استطاع کوزيمو دي مديتشي وكان أول أبناء الأسرة في تحقيق المال والشهرة أن يحل هذه المشكلة بالبقاء على هامش حياة الصفوة، ولم يتفاخر أبداً بماله، ولكن حين تولى الأمور حفيده لورنزو في 1470 كانت ثروة الأسرة ونفوذها قد بلغا مستوىً يصعب إخفاؤه أو إنكاره. 

استطاع لورنزو أن يحل المشكلة بتطوير إستراتيجية الإلهاء التي أخذ أصحاب السطوة يستخدمونها من بعده: فقد جعل من نفسه أكبر راعٍ للفنون عرفه التاريخ، فلم يكن ينفق ببذخ على اللوحات وحدها بل أَسَّس أرقى المدارس لتعليم الفنون للنشء، وفي إحدى هذه المدارس كان اللقاء الأول بين لورنزو ومايكل أنجلو حين كان بعد يافعاً، وبعدها دعاه لورنزو ليعيش في قصره، وفعل مثل ذلك مع ليوناردو دافنشي، وقد رد له الفنانان سخاءه هذا بأن أصبحا شاهدين وفيين على نبله ونعمائه. 

وحين كان لورنزو يواجه عدواً کان يرده بسلاح الرعاية. حين هددت بيزا العدو التقليدي لفلورنسا بالانفصال عنها في عام 1472 استرضي لورنزو شعبها بضخ الأموال لإحياء جامعتها التي كانت تُفاخِر بها في الماضي والتي فقدت رونقها من فترة طويلة، ولم يستطع شعب بيزا أن يقاوم هذا الإغراء الذي أرضى حبهم للثقافة وأضعف حماسهم للقتال. 

التعليق: 

كان لورنزو دون شك يُحب الفنون لكن رعايته للفنانين كان لها أيضاً غرض عملي وكان يدرکه تماماً. في فلورنسا في ذلك العصر كانت الأعمال المصرفية هي أقل الوسائل كرامة لكسب المال وكانت مصدراً للسطوة لا يحترمه عموم الناس. وعلى عکس ذلك كانت الفنون فكان الناس يرونها أقرب للروحانية والخلود. وكان إنفاق لورنزو على الفنون يُخَفِّف مشاعر الناس نحو المصدر القبيح لثروته ويُكسِبه مظهر النبلاء في عيونهم، ولتَعلم أن أفضل ما قد يفعله لك السخاء الإستراتيجي هو أن يُلهي الناس عن واقع بغيض لا تحبهم أن ينتبهوا له أو حين تريد أن تظهر لهم متشحاً بمسرح الفن أو الدين. 

مراعاة القاعدة 4: 

كان لدي لويس الرابع عشر ملك فرنسا عينا صقر في التعرف على الاستخدامات الإستراتيجية للمال. حين اعتلى العرش كان النبلاء الأقوياء هم التهديد الحقيقي لسلطاته وكانوا على استعداد للتمرد عليه في أي لحظة، ولذلك عمل على إفقارهم بجعلهم ينفقون الكثير من المال للحفاظ على وضعهم في البلاط، مما أدى إلى اعتمادهم في معيشتهم على الهبات الملكية وإلى بقائهم دائماً تحت رحمته. 

بعد ذلك استطاع لويس أن يُخضعهم بسخائه الإستراتيجي، وكان يقوم بالأمر كالتالي: كان إذا وقعت عيناه على أحد رجال الصفوة المعاندين وأراد أن يستفيد من نفوذه أو يمنع تآمره؛ يستخدم ثروته الهائلة لتليين إرادة الرجل. في البداية كان يتجاهل ضحيته تماماً ليجعله يقلق ويتوتر، وبعدها يمنحه فجأة شيئاً يسعده كأن يُعَيِّن ابنه في منصب مرموق أو يضع ميزانية ضخمة لتطوير منزله أو يهدي إليه لوحة كان يتمنى إقتنائها، ويظل يغدق عليه بالهدايا لأشهر وبعدها يطلب منه ما كان يريده من البداية. في النهاية يتحول الرجل الذي كان يُضمر للملك أشد العداوة وكأنه ولي حميم. هذا الأسلوب الماكر أفضل كثيراً من رشوة الرجل مباشرة والتي لم تكن تؤدي إلا إلى تشجيعه على المزيد من التمرد، لأن عناد الرجل يمنعه في البداية من تقبل الودّ ولكن بالصبر والسخاء يصبح أكثر ليناً وقابلية. 

التعليق: 

كان لويس يفهم أن للمال تأثيرات على المشاعر تعود جذورها إلى الطفولة. ففي الطفولة تتكون مشاعرنا نحو آبائنا من الهدايا التي يمنحونها لنا، فالهدية تعني حبهم لنا ورضاهم عنا. ولا يفقد المال أبداً هذا التأثير طوال حياتنا، فالهدية سواء كانت مالاً أو غيره تجعل متلقيها يصبح فجأة كالأطفال ليناً وسريع التأثر خاصة حين تأتي  الهدية من شخص في موقع السلطة، فعندها لا يستطيع الشخص أن يقاوم أن يفتح قلبه وأن تلين مشاعره. 

أفضل الطرق هو أن تأتي الهدية فجأة ودون توقع، ويكون تأثيرها ساحقاً إن قدمتها بعد فترة من التجاهل أو الجفاء. وتفقد الهدايا تأثيرها إن تكرر منحها لنفس الشخص، فذلك إن لم يؤد بمتلقيها للجحود والنكران واعتبار أنها حقه الطبيعي فإنه يؤدي به إلى الغضب من الإحساس بأن له دائماً اليد السفلى. ولكن الهدية المفاجئة وغير المتوقعة لا تفسد الأطفال بل تجعلهم دائماً تحت طوعك ورهن إشارتك. 

مراعاة القاعدة 5: 

ذات مرة توقف فوشيميا تاجر التحف الياباني في القرن السابع عشر عند محل لبيع الشاي في إحدى القرى، وبعد أن شرب كوباً من الشاي أخذ يتأمل الفنجان لفترة وفي النهاية دفع ثمنه وأخذه معه. توجه حرفي محلي كان يشاهد ما حدث إلى العجوز التي تملك المحل وسألها من كان هذا الرجل؟. أجابته العجوز أنه أشهر خبراء التحف لدى السيد أوزومو، فخرج الحرفي بسرعة ولحق بفوشيميا وتوسل إليه أن يبيع له الفنجان والذي اعتقد أن له قيمة كبيرة لأنه أعجب خبيراً مثل فوشيميا، فضحك فوشيميا وقال له «إنه مجرد فنجان عادي من الخزف لا يميزه شيء. وسبب تأملي له هو أن البخار كان ينساب منه بطريقة غريبة فظننت أن به شرخ في مكان ما» (الحقيقة أن المتمرسين في طقوس الشاي كانوا يهتمون بأي جمال عفوي أو غريب في الطبيعة). استمر الحرفي في التوسل فمنحه فوشيميا الفنجان مجانا؟ 

جال الحرفي بالفنجان لعدة خبراء فقالوا له جميعاً أنه بلا أي قيمة، وفي سعيه كان قد أهمل عمله حالماً بالثروة التي سيمنحها له الفنجان. في النهاية ذهب إلى محل فوشيميا في إدو (طوكيو حالياً) فحنَّ قلبه للرجل وأحس أنه قد أضر به دون قصد وكنوع من الشفقة أعطاه مائة ريو (الريو عملة ذهبية قديمة) ، فشكره الرجل ورحل. 

انتشرت الأخبار عن شراء فوشيميا لفنجان الشاي فتوافد إليه التجار من أنحاء اليابان يريدون شراء الفنجان، ورأوا أن ما يشتريه فوشيميا بمائة ريو لابد أن ثمنه أكبر، فشرح لهم فوشيميا ما حدث ولكنهم أصروا على الشراء فوافق أن يعرض الفنجان للبيع. 

أُقيم مزاد واستقر الثمن على 200 ريو وهو سعر عرضه تاجران في نفس اللحظة وأخذا يتشاجران حول من منهما عرض السعر أولاً، وفي غمرة الشجار تطاير الفنجان وتحطم إلى قطع صغيرة، وبالطبع أنتهى المزاد. قام فوشيميا بلصقه ووضعه بعيداً ظاناً أن أمره قد انتهى، بعد ذلك بسنوات كان الأستاذ العظيم لطقوس الشاي ماستوديرا فوماي يزور المحل وطلب أن يرى الفنجان الذي كان قد تحول حينها لأسطورة. تفحصه فوماي وقال «أنه بلا قيمة كصنعة ولكن أساتذة الشاي يقدرون الذكريات المرتبطة بالأشياء أكثر من تقديرهم لبنيتها، واشترى الفنجان بمبلغ كبير. وهكذا تحول فنجان صنعه حرفي أقل من عادي ملصق بالغراء إلى أشهر المقتنيات في اليابان.

التعليق: 

تُبَيِّن لنا هذه القصة أولً سِمة أساسية للمال: أن البشر هم من يصنعونه وهم من يعطونه قيمة ومعنى. ثانياً أنه في الأشياء كما في المال يهتم رجال الصفوة بالمشاعر المرتبطة بها فذلك هو ما يجعلها جديرة بالامتلاك. والدرس هنا بسيط: سطوة الهدية وأعمال السخاء تزيد بزيادة قدرتها على تحريك المشاعر والذكريات، فالهدايا التي تمس المشاعر تمنحك سطوة أكبر من الهدايا الثمينة التي لا تمس مشاعر المتلقي. 

مراعاة القاعدة 6: 

ذات مرة أعطى رجل حفلات الشاي الثري أكيمونو سوزيموتو 100 ريو لخادمه ليشتري وعاء شاي من تاجر معين، وحين وصل الخادم ورأى الوعاء شك في أن يكون له مثل هذا السعر وبدأ يساوم وخفض السعر إلى 95 ريو، وبعدها بأيام وبعد أن بدأ سوزيموتو في استخدامه أخبره الخادم متفاخراً بما فعل. 

رد سوزيموتو «أيها الجاهل حين يعرض أحدهم وعاء ثمنه 100 ريو للبيع فإنه يتخلى عن إرث عائلته ولا يفعل المرء شيئاً كهذا إلا إن كانت أسرته في حاجة شديدة للمال، ووقتها يتمنى البائع أن يجد من يشتريه حتى به 150 ريو، فكيف في ظنك يرى الناس من يستغل هذه الظروف ويعرض سعراً أقل؟. كما أن التحفة التي ثمنها 100 ريو توحي بأن لها قيمة ولا تكون كذلك إن خفضت سعرها إلى كسر للمائة فذلك يُظهرها مبتذلة. لذلك أبعد عني هذا الوعاء ولا تجعلني أراه مرة أخرى. وبالفعل أغلق عليه في خزانة ولم يخرجه بعدها أبداً. 

التعليق: 

إن أصررت على دفع سعر أقل ريا ستوفر 5 ريوات لكن الإهانة التي ستلحق بك والتدني في انطباع الناس سيكلفك أكثر في سمعتك، والسمعة هي ما يقدره أصحاب السطوة أكثر كثيراً من توفير المال. تَعَلَّم أن تدفع السعر كاملاً فسوف يعود عليك ذلك بالكثير في النهاية. 

مراعاة القاعدة 7: 

في وقت ما من بداية القرن السابع عشر في اليابان قررت مجموعة من الجنرالات أن تجري منافسة شم البخور للتسلية وقضاء الوقت قبل انخراطهم في معركة كبيرة، ووضع كل منهم رهان يعطى للفائز کالأقواس والسهام وأسرجة الخيل وغيرها من الأمور التي يحتاجها المحارب، وتصادف أن مر بهم السيد العظيم ماسمون فدعوه للمشاركة فقدم رهناً ما داخل اليقطينة التي تتدلى من حزامه، فضحك الجميع لأنه لا يرغب أحد في الفوز بهذه السلعة الرخيصة، ووافق أحد الخدم على أن يقبل أن ينافس على هذا الرهان. 

بعد أن انتهت المنافسة وأخذ الجنرالات يتضاحكون أمام الخيمة تقدم ماسمون إلى الخادم وأعطاه حصانه الرائع وقال له (هذا هو الجائزة التي كانت داخل اليقطينة»، اندهش الجنرالات وندموا على استهانتهم بهدية ماسمون. 

التعليق 

فهم ماسمون أن المال يُمَكِّن مالكه من تقديم ما يسعد الناس، وتَمَكُّنك من فعل ذلك يجذب إليك إعجاب الآخرين. وحين تجعل حصانا يخرج من اليقطينة تُبَيِّن تَمَتُّعك بأقصى ما تمنحه السطوة. 

الصورة: النهر 

لكي تحمي نفسك أو توفر مواردك تبني عليه سداً، لكن بسرعة يتعطن الماء ويتسمم، ولا يعيش في مثل هذا الماء النتن إلا أحقر الكائنات. وتتوقف التجارة والسفر. دَمِّر السد فيتدفق الماء ويخلق الحياة والوفرة والثراء في البلاد التي يتدفق بها. على النهر أن يفيض من آن لآخر حتى تزدهر الحياة.

اقتباس من معلم: الأحمق وحده هو من يبخل حين يكون عظيماً، ولا شيء يدمر سلطة أصحاب المناصب العليا أكثر من البخل. فالبخيل لا زرعاً حصد ولا بشراً تَولّي؛ لأنه لن يجد أحداً يحبه أو يسانده. فلكي تكسب ودّ الناس عليك أن تقاوم حبك للمال وأن تقدم لهم الهدايا. لأنه كما يجذب المغناطيس قطع الحديد تجذب الهدايا قلوب الرجال. (حكاية الوردة، جيلوم دي لوري، 1200 - 1238). 

عکس القاعدة: 

لا ينسى أصحاب السطوة أن كل ما يُمنح مجاناً يعتبراً دائماً حيلة، والأصدقاء الذين يقدمون لك هدايا دون أن يطلبوا شيئاً سيأتون بعد فترة ويطلبون منك أكثر كثيراً من الثمن الذي كنت ستدفعه لما حصلت عليه. هكذا فإن تَقَبَّل الهدايا غالباً ما يكون صفقة خاسرة مادياً ومعنوياً، لذلك عليك أن تَتَعَلَّم أن تدفع وتدفع جيداً لما تحصل عليه. 

من الناحية الأخرى فإن هذه القاعدة توفر لك فُرَصاً للاحتيال والخداع إن طبقتها بطريقة معاكسة، فإغراء الآخرين بالهدايا المجانية هي اللعبة المفضلة لدى المحتالين. 

لم يكن أحد يتفوق في ذلك على قطب الاحتيال جوزيف وايل «الفتى الأصفر»، فقد تَعَلَّم وايل من فترة مبكرة أن ما يُنجح احتيالاته هو جشع ضحاياه، وكتب ذات مرة «إن رغبة الناس في الحصول على أي شيء دون مقابل هي التي كلفت من تعاملت معهم تکاليف باهظة... وإن تَعَلَّم الناس وأنا واثق أنهم لن يتعلموا أن لا شيء يأتي دون مقابل فسوف تختفي الجريمة ويعيش الناس معا في سلام». ظل الفتى الأصفر لسنوات طويلة يبتدع الطرق لإغراء الناس بالحصول على المال بسهولة، فكان يعرض على ضحيته مثلاً أنه سيمنحه منزلاً مجاناً وأن عليه أن يدفع 25 دولار للتسجيل، وبالطبع كان الناس يتقدمون بالآلاف للتسجيل المزيف ويجني وايل من ذلك ثروة، وفي المقابل يحصل المتقدمون على عقود بلا قيمة. في مرات أخرى كان يقنع المراهنون بأن هناك سباق خيول أو بيع أسهم مدبر وأن لديه المعلومات التي تجعلهم يربحون ضعف ما يدفعون خلال أسابيع قليلة. كان ينظر لضحاياه وهو يغريهم بهذه القصص المفتعلة ويرى عيونهم تتسع وهم يتخيلون المكاسب السهلة. 

الدرس بسيط: يمكنك إغراء من تريد خداعهم بتحقيق مكاسب سهلة، فالناس کسالي بطبعهم ويريدون أن تهبط الثروة إليهم لا أن يجهدوا أنفسهم في الحصول عليها، يمكنك مقابل مال بسيط أن تقدم لهم النصائح لكسب الملايين (وقد فعل ب. ت. بارنوم ذلك في آخر حياته) ، وسوف يتحول هذا الثمن البسيط إلى ملايين الدولارات حين تقدمه إلى آلاف المغفلين. حين تستدرج الناس إلى تحقيق مكاسب يمكنك أن تخدعهم بأنواع أخرى من الاحتيال لأن الجشع يعني الناس ويجعلهم يصدقون أي شيء، وكما قال الفتى الأصفر أنك في النهاية تُعَلِّم الناس درساً أخلاقياً وهو أن الجشع لن يفيدهم. 

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق