الثلاثاء، 19 مايو 2020

• بكائيات الشاعر ديك الجن


هذا شاعر حكمت عليه الأقدار بأن يقضي معظم حياته وهو يعض بنان الندم، ويبكي دماً - لا دموعاً - زوجته وحبيبته التي قتلها بيديه، بعد أن استسلم لوشاية كاذبة، فلمّا عرف الحقيقة - بعد فوات الأوان - أخذ يعالج نفسه بالشعر تطهيراً وتوبة وندماً، ولكن هيهات!

والقصة يرويها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني) حين يقول عنه: هو شاعر مجيد، يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره. ثم يقول:
كان عبدالسلام بن رغبان (أي ديك الجن) قد اشتهر بجارية نصرانية من أهل حمص، هويها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به.
فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها، فأجابته لعلمها برغبته فيها، وأسلمت على يده، فتزوجها وفي ذلك يقول:
انظر إلى شمس القصور وبدرها    وإلى خُزاماها وبهجة زهرها
لم تبلُ عينك أبيضاً في أسود       جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسْمها        من ريقها من لا يحيط بخُبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها      عجبا، ولكني بكيت لخصرها
تسقيك كأس مدامة من كفها        وردية ومدامة من ثغرها
وكان قد أعسر واختلت حاله، فرحل إلى سلميّة قاصداً لأحمد بن علي الهاشمي، فأقام عنده مدة طويلة، وحمل ابن عمّه بغضه إياه بعد مودته له وإشفاقه عليه بسبب هجائه له، على أن أذاع على تلك المرأة التي تزوجها عبدالسلام أنها تهوى غلاما له، وقرر ذلك عند جماعة من أهل بيته وجيرانه وإخوانه، وشاع ذلك الخبر حتى أتى عبدالسلام، فكتب أحمد بن علي شعراً يستأذنه في الرجوع إلى حمص ويعلمه ما بلغه من خبر المرأة من قصيدة أولها:
إن ريب الزمان طال انتكاثه     كم رمتني بحادث أحداثه
فأرصد له قوْماً يعلمونه بموافاته باب حمص، فلما وافاه خرج إليه مستقبلاً ومُعنّفا على تمسكه بهذه المرأة بعدما شاع من ذكرها بالفساد، وأشار عليه بطلاقها، وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبه حادثة لا يجمل به معها المقام عليها، ودسّ الرجل الذي رماها به، وقال له: إذا قدم عبدالسلام ودخل منزله، فقف على بابه كأنك لم تكن تعلم بقدومه، وناد باسم ورد، فإذا قال: مَن أنت؟ فقل: أنا فلان.
فلما نزل عبدالسلام منزله، وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئاً، فبينما هو في ذلك إذ قرع الرجل الباب فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال لها عبدالسلام: يا زانية، زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئاً.
ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك:
ليتني لم أكن لعطفك نلتُ     وإلى ذلك الوصال وصلت
فالذي منّي اشتملت عليه      ألعار ما قد عليه اشتملتُ
وبلغ السلطان الخبر فطلبه، فخرج إلى دمشق فأقام بها أيّاماً، وكتب أحمد بن علي إلى أمير دمشق أن يؤمّنه وتحمل عليه بإخوانه حتى يستوهبوا جنايته.
فقدم حمص وبلغه الخبر على حقيقته وصحّته، واستيقنه فندم، ومكث شهراً لا يفيق من البكاء، ولا يطعم من الطعام إلا ما يقيم رمقه، وقال في ندمه على قتلها:
يا طلعة طلع الحمام عليها          فجنى لها ثمر الردى بيديها
حكّمت سيفي في مجال خناقها      ومدامعي تجري على خدّيها
روّيت من دمها الثرى، ولطالما      روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
فوحقّ نعليها وما وطئ الحصى      شيء أعزّ علي من نعليها
ما كان قتْليها لأني لم أكن           أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلْتُ على العيون بلحظها      وأنفْت من نظر العيون إليها
هذا هو ديك الجن الحمصي كما جاء ذكره في كتاب الأغاني، عاش بين عامي مائة وواحد وستين ومائتين وخمسة وثلاثين هجرية، وذاعت له شهرة في إبداع الشعر الجميل يقوله في اللهو والشراب والمجون والإسراف في الحديث عن المتع واللذائذ. وكان معاصروه يرون فيه قريناً مكافئاً لشعراء عصره الكبار، لكن قعد به تمسكه بالإقامة في حمص، فلم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق كما كان يرحل شعراء زمانه ليكتسبوا المال والشهرة. وفي شعره رقّة لا تخفي فحولة صياغته، وهجوم على المعاني غير المألوفة والصور الشعرية الطازجة، والتماس المداخل الشعرية المغايرة وغير التقليدية.
يقول عن دمعه السيّال ندماً لعله يكفّر عن ذنبه:
ما امتنع الدمع وإسباله        عليّ، لما امتنع المطلب
إن تكن الأيام قد أذنبت        فيك، فإن الدمع لا يذنب
وفي موضع آخر من بكائياته النادمة - التي تغرد في ديوان الشعر العربي - يردّ على من يلومونه لطيشه واندفاعه وعدم تثبّته في أمر زوجته ومحبوبته ورداً التي سارع إلى قتلها ظلماً وعدوانا:
قال ذو الجهل: قد حلُمتَ       ولا أعلم أني حلمت حتى جهلت
لائم لي بجهله، ولماذا؟         أنا وحدي أحببت ثم قتلت؟
سوف آسى طول الحياة وأبكيك       على ما فعلتِ لا ما فعلتُ
لقد قبرت ورد ودفنت بعد مقتلها على يديه، لكنه هو المقتول والمقبور في حقيقة الأمر لا هي، ولو أنها درت بحاله بعدها لبكته وهي في قبرها، ولرثته لفجيعته ومأساته:
قمر أنا استخرجته من دجْنه         لبليتي، وجلوْته من خدره
عهدي به ميْتاً كأحسن نائم          والحزن يسفح عبْرتي في نحْره
لو كان يدري الميّت، ماذا بعده       بالحّي حلّ، بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسُه        وتكاد تخرج قلبه من صدْره
ويعوده طيف ورد الذي أتاه زائراً بعد أن دفنت في قبرها، وكأنه جاء للوْمه وتأنيبه وتعنيفه على ما جنته يده، وهي صورة شعرية تكشف عن طبيعة الصور التي تقض عليه مضجعه، والأطياف التي تحيط به وتؤرقه وتحرمه طمأنينة النوم:
جاءت تزور فراشي بعدما قبرت        فظلتُ ألثم نحراً زانه الجيدُ
وقلت: قرّة عيني قد بعثت لنا          فكيف ذا، وطريق القبر مسدودُ
قالت: هناك عظامي فيه مودعة       تعيثُ فيه بنات الأرض، والدودُ
وهذه الروح قد جاءتك زائرة             هذي زيارة مَن في القبر ملحودُ
ويحاول دارسو شعر (ديك الجن) أن يفسّروا سبب تسميته بهذه التسمية، ويوردون في هذا المجال روايات شتى، أقربها إلى المنطق أنه شبّه نفسه بالجنّي في بعض شعره ثم زاد عليه أمر الديك الذي ينبّه بصياحه النائمين إلى خيوط النور الأولى من النهار، وكأن الشاعر ينبّه معشر الجن جميعاً إلى نفض النوم وبدء اليوم الجديد للقصف واللهو والانطلاق. يقول ديك الجن:
أيها السائلُ عني              لست بي أخبر مني
أنا إنسان بَرَاه الله              في صورة جنّي
بل أنا الأسمجُ في العين       فدعْ عنك التطنّي
أنا لا أسلم من نفسي          فمن يسلمُ مني؟
وستظل كلماته الأخيرة إلى (ورد) - بعد مقتلها ودفنها - موجعة ومؤثرة، وهو يتمنى لو أنه ترك وجهها عارياً مكشوفاً دون أن يُوارى التراب ويقول:
بأبي نبذْتُك بالعراء المُقفر         وسترتُ وجهك بالتراب الأعفر
لو كنتُ أقدر أن أرى أثر البلى    لتركتُ وجهَك ضاحياً لم يقبر
وديك الجن هو صاحب البيت المشهور الذي تردد كثيراً على ألسنة المغنين عبر العصور:
جسّ الطبيبُ يدي جهلاً، فقلتُ له:      إن المحبة في قلبي، فخلّ يدي
كما أنه شاعر هذه البكائيات الحارّة - تأنيباً لنفسه وندماً - وإن كان وجدانه - في بعضها - يتململ مبرراً لنفسه مقتل (ورد)، ومتهما إياها بالخيانة والغدر حتى يستريح ضميره ويهدأ:
قل لمن كان وجهه كضياء       الشمس في حسنه وبدر منير
كنت زيْن الأحياء إذ كنت فيهم    ثم قد صرت زيْن أهل القبور
بأبي أنتَ في الحياة وفي الموت   وتحت الثرى ويوم النشور
خُنتني في المغيب والخوْنُ نكرٌ    وذميمٌ في سالفات الدهور
فشفاني سيفي وأسرع في حزّ   التراقي - قطْعاً - وحزّ النحور
المصدر: 1

إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق