الأربعاء، 20 مايو 2020

• النساء والحب... لوحة لتَغير اجتماعي


أربعة آلاف وخمسمائة امرأة يشهدن، يتحدثن عمّا يجري خلال علاقاتهن الغرامية، يٌفشين جوانب من حياتهن الخاصة التي ربما لا يبحن بها لأناس يعرفنهن.

بواسطة استفتاء مُغفل تحدثت نساء من جميع الأعمار ومن جميع الأوساط ومن وجهات نظر مختلفة جداً، تحدّثن بحرية عن حياتهن العاطفية دون أن يوقفهن ما قد يترتب على مقاصدهن من كشف للأسرار أو من أضرار، وجاءت اعترافاتهن كاملة مع تحليلاتها في هذا الكتاب الصادر عن دار المدى في دمشق.
إعادة تعريف الجنسية
تُعد "شير هايت" من أهم وأشهر الباحثين في مجال "علم نفس الجنس" ويعدها البعض صنواً لـ "ميشيل فوكو"، وقد بدأت تتصدى لمشروعها الرئيسي وهو: إعادة تعريف الجنسية Sexualite - الجنس.. ثقافي، منذ عام "1971" وذلك عندما بدأت تساهم في الحركة النسوية، وعندما ربطت بين ما هو فردي وما هو سياسي.
وفي الفترة بين عام 1972 إلى 1976 بدأت أولى الخطوات بتقريرها الأول "عن جنسية المرأة"، وأخذت توزع لائحة أسئلة تجريبية طويلة على نساء من مناطق الولايات المتحدة الأمريكية كافة. وفي عام 1976، وعندما استخلصت النتائج من "ثلاثة آلاف وخمسمائة" جواب ونشرتها، بيّنت أهدافها من هذا المشروع، والتي تتمثل في ترك النساء - وليس إطلاقاً الأطباء والاختصاصيين الآخرين "وهم إجمالاً من الرجال" يُحددن جنسيتهن الخاصة.
إنهن الاختصاصيات الحقيقيات في هذا المجال، ويعرفن ماذا يعانين، وكيف يعشن - دون أن يكن بحاجة إلى أحد يقول لهن ذلك.
ورغم موقفها هذا، فهي لا تنفي الجهود "الذكورية/الرجالية" السابقة، وإنما تطرح احتمالاً آخر تراه أكثر التصاقاً وقدرة على التعبير بلا زعم أو ادّعاء. وهذا ما يؤكده قولها:
"هذا لا يعني أن أعمال "ماسترز وجونسون" وكذلك أعمال "كينسى" ليست مهمة - إنها مهمة، غير أن بعض الكمامات الثقافية منعتهم من فهم الحقيقة كلها عن جنسية المرأة، أما في هذا البحث، فإن النساء يتحدثن بأنفسهن للمرة الأولى عمّا يعانين من الكيفية التي يحددن بها جنسيتهن، وماذا يعني ذلك بالنسبة إليهن".
وتؤكد "ناؤومي ويستين" أن "شيرهايت" مؤرخة لها من المعارف في التاريخ الثقافي والاجتماعي ما ساعدها في وضع النقاش داخل هذا التقرير ضمن إطار ثقافي وفي رؤية جنسية المرأة كما هي، وليس كما يناسب الأيديولوجيا السائدة، وتضيف "ناؤومي" - أستاذ علم النفس في جامعة سوني، بفالو - "إن أهمية عمل "هايت" - تتأتى من أنها تعتبر التصوّرات الجنسية كبنى اجتماعية، فكتابها لا يوضح الممارسات الجنسية الحالية وحسب، بل ويعمل على خلق جنسية غير ممأسسة...".
وترى أن دراسة "هايت" قد أثبتت أن العلاقات الجنسية تندرج في سياق ثقافي - فالمكانة التي تعطيها للنساء تعكس المكانة التي لهن في المجتمع.
وهكذا يتم الربط بين تعريف العلاقات الجنسية كما نعرفها، بتقليد تاريخي وثقافي خاص - ويُحسب لـ "هايت" في تقريرها الأول أنها كانت تسعى لإسماع صوت النساء حول هذا الموضوع: الجنسية Sexualite، للمرة الأولى، ولقد علقت على شهادات النساء بما يدل على وجهة النظر الرئيسة لمشروعها البحثي:
"إن النساء بهذه الشهادات التي أدلين بها، قد وصفن أحاسيسهن بطريقة جميلة ومؤثرة، وكان ذلك رسالة عميقة، مكتومة وفعّالة - إنها اتصال بين الروح والروح تقريباً - موجهة من اللواتي أجبن إلى نساء العالم كافة. إن تلقي مثل هذه الأجوبة كان من أكثر التجارب إغناء لحياتي على الصعيد العاطفي، وهذا ما أتمنى أن أتقاسمه مع النساء الأخريات اللواتي سيقرأن هذا التقرير..".
نحو تعريف جديد للذكورة
وكان تقرير "هايت" الثاني عملاً يدرس للمرة الأولى كيف يفكّر الرجال في أنفسهم وفي علاقاتهم الغرامية وبجنسيتهم. وفي هذا التقرير تبنت "شير هايت" صيغة لوائح الأسئلة الصريحة، سائلة الرجال عن الجنسية والحب، وعن صلاتهم بآبائهم، وعن علاقاتهم الغرامية مع النساء وعن الزواج وعن التغييرات التي يودون نقلها إلى جنسيتهم.
وكشف هذا التقرير صورة مذهلة عن الرجال أعطوها أنفسهم من خلال تعبيراتهم الخاصة، ليتضح أن الموضوع الرئيسي في هذا هو "الأيديولوجيا" وبشكل أكثر تحديداً "الأيديولوجيا الأبوية" التي تطبع تصرف الرجال في المجالات كافة بما فيها "الجنسية" التي يُقال عنها إنها محددة "بيولوجيا"، وهكذا فإن ما نسمّيه "علاقات جنسية" يعكس في الواقع المواقف والقيم "أي الأيديولوجيا" المقسمة إلى قطاعات عريضة بين السكان - إن هذه التصرفات الجنسية قد خلقها المجتمع وليست بيولوجية - فقط.
ويعد تقرير "هايت" الثاني بمنزلة إعادة تثمين لـ "التحليل النفسي والجنسية المذكرة" لأنه فيما سبق كان التحليل النفسي للرجل يعد تحليلاً نفسياً للكائن البشري.
وتؤكد "هايت" أنه من أجل فهم "الجنسية المذكرة" ينبغي أن نعرف أي صورة تعطيها الثقافة للرجال عن "رجولتهم" وعن جنسيتهم، وينبغي معرفة السياق الذي يعلمونهم فيه رؤية جنسيتهم وبخاصة أحاسيسهم، فكل ما يقدم للرجال لا يتجاوز فهرسا من الأحاسيس المسموح بها والمحددة جداً، وكل ما عدا ذلك من انفعالات ينبغي كتمانه. أما إذا عبروا عن أحاسيسهم ومعاناتهم، فإن هذا يدخل في نطاق المحرّمات.
ورغم ما احتواه هذا التقرير من إشارات وتحليلات متعاطفة مع الرجال لما يصطدمون به من صعوبات وموانع، وإلى النظام والمخططات التي يسجن فيها عدد منهم ويتألم، فقد صدم التقرير الرجال لأنهم غير متعوّدين على رؤية أنفسهم كمواضيع للدراسة، وبخاصة عندما تكون هذه الدراسة بقلم امرأة.
وأكّد هذا التقرير على واقع أن تعريف العلاقات الجنسية في مجتمعنا هو "اختراع ثقافي". لأنه إذا ما أقيم الدليل على أن ضغطاً ثقافياً يمارس على الأفراد لكي يجعلهم يتبّنون تصرّفات معينة، فلن يكون بالمستطاع عندئذ افتراض أن هؤلاء قد حُددوا بيولوجيا.
وظهر هذا التقرير في كتاب بعنوان "الرجال والحب"، وكتبت "شير هايت" في مقدمته: إن المجتمع يعلم الرجال أن يماثلوا الحب بالعلاقات الجنسية. وليس هذا هو الفحص البسيط للتفاصيل الصغيرة في حياة الرجال الجنسية، وليس واقع إدراك كيف يستطيعون فعل الأذى أو منح اللذة هو الذي سيغير فكرة أننا نمارس الجنسية المذكرة.
ليس المقصود أن نناقش هذا كما لو أن الهدف هو الوصول إلى المزيد من "اللذة" لأن تعريف الجنسية المذكرة ليس "هنا"، فهذه الجنسية ليست مبنية على اللذة البسيطة. إن الجنسية المذكرة والرجولة ترتكزان على أيديولوجيا أكثر اتساعاً. وفي الحقيقة - فإن العلاقات الجنسية عموماً ليست مسألة لذّة أكثر مما هي تعبير عن رمزية عاطفية معينة تشكّل جزءا من هذه الأيديولوجيا عن مأساة طقوسية تمثل ويعاد تمثيلها بلا انقطاع...!!
النساء والحُب
وتكمل "شير هايت" مشروعها بهذا التقرير الثالث - فبعد محاولاتها لإعادة تعريف "الجنسية النسائية والذكورية" تناقش في هذا التقرير مسألة "العقد العاطفي"، مسألة التفاصيل الصغيرة لعلاقة النساء بالرجال، التفاصيل اليومية.. العاطفية منها والجنسية. وبدأت تدرس وأربعة آلاف وخمسمائة مشتركة إعادة تعريف ما يجري في الحياة الخاصة والنظر من جديد في الانفعالات والتصوّرات السلوكية، ومناقشة تعريف الحب وغيره من المشاعر التي يحس بها الرجال والنساء.
وذلك من خلال لائحة أسئلة تهدف إلى معرفة آراء النساء حول ما يواجههن من مشاكل، وهذه اللائحة مغفلة - لا تحتاج لتوقيع - ومقسمة إلى تسعة عناوين رئيسة: "مرحباً - منذ أن ولدت إلى أن أصبحت امرأة - الوقوع في الحب - حياتك الغرامية الحالية - حياة العزوبية - الانفصال والطلاق - بعض المشاكل الدقيقة في العلاقات الغرامية - الجنسية - الصداقة بين النساء..".
بالإضافة إلى معلومات إحصائية عن "العُمر - الأصول العرقية - مستوى الدراسة - الدخل - العمل - المكان الذي عثرت فيه على لائحة الأسئلة.." وتضم هذه اللائحة بأجزائها التسعة مائة وثمانية عشر سؤالاً تبدأ بسؤال "مَنْ أنت؟ كيف تصفين نفسك؟، وتنتهي بسؤال: "ما أخطر رأي لك في بنات هذا العصر؟". وتتنوع الأسئلة فيما بين هذين السؤالين لتغطي الأجزاء التسعة المشار إليها سابقاً.
ويتكشّف لـ "هايت" من خلال إجابات النساء أن معظمهن لسن راضيات عن علاقتهن مع الرجال وغالباً ما يشعرن بأنفسهن محرومات من حقوقهن، مبعدات.. عاجزات عن تجاوز الهوّة التي تفصلهن عن رجل لا يدرك أين يوجد الخلل. وكثيرات وضعن نهاية لهذه العلاقات المشوّهة بالانفصال، وكثيرات أيضاً يفضلن البقاء جسدياً، ويبحثن في أماكن أخرى عن علاقتهن العاطفية الرئيسة - غالباً لدى الصديقات، ويتعمق الشعور بالحرمان لدى النساء في هذه الأوضاع، ويتجلى الجانب المأساوي لكثير من العلاقات الغرامية بشكل مذهل ومؤثر ومؤلم.
فرويد والنساء
نعرف أن "فرويد" هو العالم الذي أرسى القواعد الأولى لعلم النفس وللتحليل النفسي، وأنه صاحب كثير من النظريات والمصطلحات التي مازالت متداولة حتى الآن، ومن أهمها "نظرية الطاقة الجنسية Libido " وعُقدة أوديب، وعقدة إلكترا، بالإضافة إلى نظريته حول علاقة الجنس باللذة، واكتشافه لبعض الشذوذات في ذلك مثل: السادية - الماسوشية -، وبوصفه المنظر الأول، قام ببعض التعميمات التي فرضتها عليه رغبته في بناء هيكل قوي لنظريته ولعدم توافر المادة البحثية، اعتمد على مَرْضاه - فقط - بالإضافة إلى حدسه وقدرته الفائقة على التحليل والاستنباط.
وكان الاختلاف الأول - والانشقاق الأول - مع فرويد بسبب مركزية الجنس في نظريته وتصويره بأنه مصدر كل الشذوذات والرموز، وأن المشاكل الجنسية الطفولية هي المحرّك الأول لكل هذا.
وخرج "يونج" بنظريته عن "اللاشعور الجمعي والنماذج الأولية"، مُعتمداً على مادة الأساطير والمعتقدات.
وتوالت بعد ذلك النظريات والتأويلات، والتي تنطلق جميعها من "نظريات فرويدية" مختلفة ومجددة وباحثة عن البدائل..
لكن اللافت للانتباه هو تطرف الحركات النسوية في مهاجمة "فرويد" لدرجة أن "سيمون دي بوفوار" تُصرّح بأنه "على كل مَن يرغب في إجراء بحث حول النساء أن يقطع علاقته مع "فرويد" تماماً...".
وكذلك ما ذهبت إليه "هايت" بأنه ثمة "صوفية فرويدية"، وتساءلت: "هل نستمر في الطريقة الخاصة التي اتبعها "فرويد" في تضليل النساء والتي كانت انتقاماً من النزعة الهادفة إلى تحسين وضع المرأة خلال أعوام 1900...".
وهكذا يظهر أن الحركات النسوية اعتبرت "فرويد" هو العدو الأول وسبب كل الضلالات، وبالطبع، هذا الموقف لا يختلف - إلا في انحيازه - عمّا يُطلقن عليه "الصوفية الفرويدية"، لأن الاختلاف لا يعني قلب الحقائق.
وعلينا أن نعي أن "فرويد" لم يتعمّد إساءة فهم النساء، وإنما فهمهن وفقاً لظروف ومعطيات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية مختلفة، والبحث العلمي مفتوحة أبوابه دائماً، وآلياته دائمة التطوّر، وهكذا فلابد أن يكون هناك اختلاف وهدم وبناء، ووعي مفارق وعيون جديدة ترى وتحلل وفق المتغيرات والمستجدات وداخل إطار من التحيّزات الثقافية التي لا تنفي الآخر، وإنما تحترم وجوده، وتقر بحقيقة أنه شرط لازم لوجودها.
ورغم اختلافي مع مغالاة الحركات النسوية في نقدها وطريقة وأهداف طرحها لنظرياتها، فإنني أتفق تماماً فيما ذهبت إليه "ناؤومي" عند وصفها لتقارير "هايت" بأنها: "لوحة لتغير اجتماعي متطوّر"، لأنها تقدّم لوحة ساحرة ومعقدة لحقبة حاسمة في الثقافة الأمريكية تمتد لخمسة عشر عاماً، حقبة عرف المجتمع خلالها إعادة البحث في الأفكار التقليدية حول البيت والأسرة، وأهم ما يميّز هذه التقارير أنها تدرس هذه الانقلابات انطلاقاً من الواقع، أي من توثيق يتألف من آلاف الأجوبة على لائحة أسئلة مغفلة صريحة، ومن نقاش يجري أحياناً من المشاركين، وأحياناً أخرى بين هؤلاء وبين "شير هايت"، نقاش مستند إلى منظور نظري متماسك، وبالفعل يعد هذا بمنزلة "ثورة أيديولوجية" في نهاية القرن العشرين - عناصرها: النساء - الحب - الجنس، والرغبة في إعادة تعريف العلاقات والممارسات الإنسانية بعيداً عن الأقنعة الثقافية وقوالبها الجاهزة.
المصدر: 1
إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق