السبت، 16 أبريل 2022

• النَّاقَةُ أَيْقُونَةُ الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ القَدِيم


الناقة

كشف لنا ديوان الشعر العربي عن اهتمام العرب بنياقهم قديمًا، فلم تكن الناقة تمثّل لهم وسيلةً انتقال وحسب، وإنما كانت الأنيسة والصديقة، ولم يكن لسيناريو الرحلة أن يتم إلا بصحبتها، بل كانت عنصرًا أساسيًّا فيها. وكان للشعراء اهتمامهم الزائد بها، وقد وصل هذا الاهتمام إلى حد مخاطبتها، والتغزل بها، وتسميتها، فضلًا عن استدعائها بوصفها معادلًا موضوعيًّا للمرأة.

«عليها، وعلى مثلها»، هكذا قال الشاعر: إنه يبلغ حاجاته، وعلى كثرة هذه الحاجات، يأتي في مقدمتها بلوغ مكان الحبيبة أو تعقّبها، واللحاق بها، قال امرؤ القيس في وصف ناقته، وقد اتخذ منها وسيلة لحاجة عاشقٍ:

وإنَّك لَمْ تَقطعْ لُبانَةَ عَاشِقٍ      بمِثْلِ غُدُوّ أوْ رَوَاحٍ مُؤَوَّبِ

بأدماءَ حُرْجُوجٍ كأنَّ قُتُودَهَا      على أَبْلقِ الكَشْحَيْنِ ليسَ بِمُغْرِبِ

و«الأدماء» الناقة البيضاء، والحُرْجُوج من النوق، الطويلة الجسيمة، الشديدة، الوقَّادة، الحادة القلب، كأن أعواد رحلها على «أبلق»، وهو الذي فيه بياض وسواد، و«الكشحان» الخاصرتان، و«المغرب» الحمار الوحشي.

وهذا طرفة بن العبد، يمضي هممه، وينفذ إرادته - حين حضورها - بناقة نشيطةٍ، «عوجاء» أي لا تستقيم في سيرها لنشاطها الزائد، و«مرقال» مسرعة، وهي تأمن العثار، يسوقها، وظهرها كألواح التابوت، تسير على طريق كأنَّه كساء مخطط، وهي تشبه الجمل في وثاقة خلقه، وهي مسرعة كالنعامة «سَفَنَّجَـةٌ»، تبري( تعرض) لظليمٍ، شعره قليل، رمادي اللون، وهي «تباري» الإبل الكرام المسرعات، يلحق وظيف رجلها وظيف يدها، فوق طريق مذلل، ولم تدع نفسها للتلقيح؛ فتظل قوية قادرة على السير، وَيُشَبِّه شعرَ ذنبها بجناحيْ نسر شديد البياض:

وإِنِّي لأُمْضِي الهَمَّ، عِنْدَ احْتِضَارِهِ      بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَلُوحُ وتَغْتَـدِي

أَمُـوْنٍ كَأَلْوَاحِ الأَرَانِ نَصَأْتُهَـا      عَلَى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُـدِ

جُـمَالِيَّةٍ وَجْنَاءَ تَرْدَي كَأَنَّهَـا      سَفَنَّجَـةٌ تَبْـرِي لأزْعَرَ أرْبَـدِ

تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ، وأَتْبَعَـتْ     وظِيْفـاً وظِيْفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعْبَّـدِ

تَرَبَّعْتِ القُفَّيْنِ فِي الشَّوْلِ تَرْتَعِي     حَدَائِـقَ مَوْلِىَّ الأَسِـرَّةِ أَغْيَـدِ

تَرِيْعُ إِلَى صَوْتِ المُهِيْبِ، وتَتَّقِـي     بِذِي خُصَلٍ، رَوْعَاتِ أَكْلَف مُلْبِدِ

كَـأَنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّفَـا     حِفَافَيْهِ شُكَّا فِي العَسِيْبِ بِمَسْـرَدِ

ويُشير إلى قدرته عليها، وتحكّمه فيها، وانصياعها له، بقوله:

وَإِنْ شِئْتُ لَمْ تُرْقِلْ وَإِنْ شِئْتُ أَرْقَلَتْ      مَخَـافَةَ مَلْـوِيٍّ مِنَ القَدِّ مُحْصَـدِ

وَإِنْ شِئْتُ سَامَى وَاسِطَ الكوْرِ رَأْسُهَا      وَعَامَـتْ بِضَبْعَيْهَا نَجَاءَ الخَفَيْـدَدِ

عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي إِذَا قَالَ صَاحِبِـي:     ألاَ لَيْتَنِـي أَفْـدِيْكَ مِنْهَا وأَفْتَـدِي

ويستخدمها لبيد وسيلة انتقال خفيفة، تُشبه في خفتها خفةَ السحابة، أو الأتان التي حملت تولبًا، قد جاء لفحل يغار عليها من الفحول، وهو يَسُوقها بشدة؛ كي يخفيها عن العيون. والتولب هو «الجحش، أو ولد الأتان» كما في قوله:

بِطَلِيحِ أَسْفَارٍ تَرَكْنَ بَقِيَّةً     مِنْهَا فَأَحْنَقَ صُلْبُهَا وَسَنامُهَا

وإِذَا تَغَالَى لَحْمُهَا وَتَحسَّرتْ      وتَقَطَّعَتْ بَعْدَ الكَلالِ خِدَامُهَا

فَلَهَا هبَابٌ فِي الزِّمَامِ كَأَنَّهَا      صَهْبَاءُ خفَّ مع الْجَنُوبِ جَهَامُهَا

أو مُلْمعٌ وَسَقَتْ لأَحْقَبَ لاحَه     طردُ الْفُحُول وضَرْبُها وَكِدَامُهَا

وجعل لبيد من الناقة (الطليح) التي أعيتها كثرة الأسفار؛ فذهب لحمها، وتقطَّعت سيورها التي تُشد في أرساغها وسيلةً سريعة للوصول إلى غاياته، وجعل لها «هبابًا» أي نشاطًا وسرعةً، كأنَّها سحابة خفيفة لا ماء فيها، تَسوقها الجنوب بسرعة، أو كأنها «ملمع» أي تشبه «الأتان» التي استبان حملها، وقد «وسقت»، أي حملت، أو جمعت ماء الفحل.

ارتباطُ ذكرِ الناقةِ بذكرِ المَحْبُوبة

لقد سعى كثير من الشعراء إلى اتخاذ الناقة رمزًا أو معادلاً للمرأة؛ هذا إذا أراد الشاعر أن يَتَقَنَّع في حديثه إلى امرأة بعينها، يخاف من فضح أمرها، ومع ذلك ترى بعض الشعراء يذهب إلى حيلة أقوى، فيبدأ بذكر المرأة، ثم ينتقل إلى الحديث عن ناقته؛ فيقول عن الناقة ما لم يقدر أن يبوح به عن المرأة، يقول معاوية بن مالك في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

أجَدَّ القلبُ من سَلْمَى اجْتِنَابَا      وأَقْصَرَ بعدَ ما شَابَتْ وشَابَا

وَقَفتُ بها القَلُوصَ فلم تُجِبْنِي     ولو أَمْسَى بها حيٌّ أَجَابَا

وناجيةٍ بَعَثْتُ على سَبيلٍ     كأنَّ على مَغَابِنِهَا مَلابَا

ذَكَرْتُ بها الإيابَ ومَن يُسَافِرْ      كما سافَرْتُ يَدَّكِرِ الإِيَابَا 

و«القلوص» من الإبل بمنزلة الفتاة من النساء، يقول: ورب «ناجية» أي ناقة سريعة على طريقٍ، كأن على أسفل بطنها ملابًا، والملاب ضرب من الدهن.   

ومما ورد من أشعار العرب، وقد ارتبط فيه ذكر الناقة بذكر المحبوبة - وهو كثير - قول المثقب العبدي، من قصيدته الشهيرة، التي مطلعها:

أَفَاطِمُ! قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي     ومَنْعُكِ ما سَأَلْتُك أَنْ تَبينِي

فَلاَ تَعِدِي مَوَاعِدَ كاذِباتٍ     تَمُرُّ بِها رِياحُ الصَّيْفِ دُونِي

ويقول المثقب العبدي، لا تصحبني نفسي على ذلك ولا تطاوعني على الصرم.

فَقُلْتُ لِبَعْضِهِنَّ، وشُدَّ رَحْلِي     لِهَاجِرةٍ عَصَبْتُ لَهَا جَبينِي:

لَعَلَّكِ إِنْ صَرَمْتِ الحَبْلَ مِنِّي     أَكُونُ كَذَاكِ مُصْحِبَتِي قَرُونِي

وهو فيما تقدم قد مهَّد إلى فكرة اللجوء إلى استدعاء «الناقة»؛ بوصفها آلةً تعين على السفر، والتسلِّي عن الهمِّ.

الناقة وسيلة للتسلّي والخلاص

ويذهب المثقب العبدي، إلى أنَّ الناقة قد صارت بمنزلة الخلاص، والتسلي عن الهمّ بناقةٍ ذات قوَّةٍ، عظيمة، وشديدة، تُشبه في شدتها مطرقة الحداد، كما في قوله:

فَسَلِّ الهمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لَوْثٍ     عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ القُيُونِ

بِصادِقَةِ الوَجِيفِ كأَنَّ هِرًّ     يُبارِيهَا ويأْخُذُ بالوَضِينِ

كَسَاهَا تامِكاً قَرِدًا عليها      سَوَادِيُّ الرَّضِيحِ معَ اللَّجينِ

إِذَا قَلِقَتْ أَشُدُّ لَها سِنَافاً     أَمَامَ الزَّوْرِ منْ قَلَقِ الوَضِينِ

كأَنَّ مَوَاقِعَ الثَّفِنَاتِ مِنها      مُعَرَّسُ باكِرَاتِ الوِرْدِ جُونِ

والوجيف ضرب من السير، والوضين حزام الرحل، وعذافرة ناقة شديدة، والتامك أي السّنام المشرف، وقرد أي ملبد بعضه على بعض، والرضيح النوى المدقوق، واللجين ما تلجَّن أي تلزج من ورق أو علف، والسناف حبل دقيق يُشد به الصدر إذا قلق الرحل، كأن مواضع نزول ركابها من تبكيرها إلى مورد الماء (جون) أي سود، والباكرات القطا، فأثرها في مبركها كآثار القطا.

وقد ذهب كثير من الشعراء إلى تسلية الهموم بركوب الإبل، فقال عمرو بن قميئة:

وكنتُ إذا الهمومُ تَضيَّفَتني     قريت الهم أهوج دوسريًّا

وقال الأعشى، ميمون بن قيس:

وقدْ أُسلّي الهمَّ حينَ اعْتَرَى      بِجَسْرَةٍ دَوْسَرَةٍ عَاقِرِ

زَيّافَةٍ بِالرّحْلِ خَطَّارَةٍ     تُلْوِي بِشَرْخَيْ مَيْسَةٍ قَاتِرِ

شتَّانَ ما يَوْمِي على كُورِهَا     وَيَوْمُ حيَّانَ أَخِي جابرِ

شعراء يتباهون بقوة نياقهم

لقد تبارى الشعراء في إثبات تفوّق نياقهم، كل شاعر تفنّن في إبداء قدرة أداء ناقته، وسرعتها وتفرّدها، فقال المرقش الأكبر، يتباهى بسرعة ناقته، ويسرد ميزاتها:

فَهَلْ تُسَلِّي حُبَّها بازِلٌ     ما إِنْ تُسَلَّى حُبَّها مِنْ أَمَمْ

عَرْفاءُ كالفَحْلِ جُمَالِيَّةٌ      ذَاتُ هِبَابٍ لاَ تَشكَّى السَّأَمْ

لم تَقْرَإ القَيْظَ جَنِيناً ولَا     أَصُرُّها تَحْمِل بَهْمَ الغَنَمْ

بَلْ عَزَبَتْ في الشَّوْلِ حَتَّى نَوَتْ     وسُوِّغَتْ ذا حُبُكٍ كالإِرَمْ

تَعْدُو إذا حُرِّكَ مِجْدافُها     عَدْوَ رَباعٍ مُفْرَدٍ كالزُّلَمْ

فيقول: إنها ما تسلي حبها بأمر يسير هين، وإنما بأمر شديد، و«عرفاء» وهي المشرفة موضع العرف من الفرس، وهي كالفحل؛ لعظم خلقها، ويشبهها بالجمل، وهي ذات سرعة وحركة، لا تمل منهما، ولم تحمل جنينًا، وليس لها لبن فأصرها، ويقول إنها تباعدت في «الشوْل» أي في الإبل التي لا ألبان لها، حتى سمنت، و«الحُبُك» الطرائق من تجمع الوبر في السنام، وإذا حرك مجدافها؛ تعدو كالرباع أي كالثور، و«الزُّلَم» قدح المسير.

وقال عبيد بن الأبرص يصف ناقته، ويحدد وظيفتها، ويعلي صورتها، في قصيدته التي مطلعها:

يَا دَارَ هِندٍ عَفَاهَا كُلُّ هطَّالِ     بالجوّ مثلَ سحيقِ اليُمنةِ البالي

ويرحل عبيد بن الأبرص، على ناقته للسلوان، ويُشبه ناقته بسندان الحداد، لقوتها، وقال: إنها تختال في سيرها، وهي مسرعة، ثُمَّ يُشبهها بالثور الوحشي لِضخامتها:

وَقَدْ أُسَلّي هُمُومي حينَ تَحضُرُني      بِجَسْرَةٍ كَعَلاةِ القَينِ شِمْلالِ

زَيَافَةٍ بِقُتُودِ الرَّحْلِ نَاجِيَةٍ     تَفْرِي الـهَجِيرَ بِتَبْغيلٍ وَإرْقَالِ

مَقْذوفَةٍ بِلَكيكِ اللّحْمِ عن عُرُضٍ     كَمُفْرَدٍ وَحَدٍ بِالجَوّ ذَيّالِ

فهو يسلّي همومه بجسرة أي ناقةٍ قويةٍ، تُشبه سندان الحداد، وسريعة( زيافة) مختالة في مشيتها، وناجية، سريعة تقطع الهجير بسيرها البطيء والسريع، وهي مقذوفة، مكتنزة باللحم، وهي كيفما استعرضتها، كمن يرعى وحده في الجوِّ الواسع.

وقال الأعشى يصف رحلته في صحراء قاسية صلبة، بناقة قادرة على تجاوزها بهمّة عالية؛ لأنها ناقة «عَنْتَرِيسٌ»، أي صلبة أيضًا:

وفلاةٍ كأنها ظهرُ تُرْسٍ     ليسَ إلا الرّجيعَ فيها علاقُ

قدْ تجاوزتُها وتَحْتى مَرُوحٌ     عَنْتَرِيسٌ، نَعّابَةٌ، مِعْنَاقُ

عِرْمِسٌ تَرْجُمُ الإِكَامَ بِأخْفَا     فٍ صلابٍ منها الحصى أفلاقُ

وَلَقَدْ أقْطَعُ الخَلِيلَ، إذَا لَمْ     أرجُ وصلًا، إنّ الإِخاءَ الصّداقُ

بِكُمَيْتٍ عَرْفَاءَ مُجْمَرَةِ الخُـ     ـفِّ، غَذَتْهَا عوانةٌ وفِتَاقُ

ذاتِ غرْبٍ ترمي المُقَدَّمَ بالرّدْ     فِ إذا مــــا تَـدافَــعَ الأرْوَاقُ

فالصحراء، كأنها من الفولاذ؛ لذا يقول الشاعر: تحتي ناقة «مروح» نشيطة، و«عنتريس» أي صلبة وشديدة، ونعَّابة، تمدّ عنقها أثناء السير، ومعناق، أي ذات سير فسيح واسع للإبل والدابة، والعرمس الصخرة، والناقة الصلبة، وناقة كميت، أي حمراء تضرب للسواد، وعرفاء عالية السنام، ومجمرة صلبة، ذات غرب أي حدّة ونشاط .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

ثقافة عصر الـ توكتوك

رهاب القذارة: الأعراض، الأسباب والعلاج

ذيل الحيوانات، فوائد ومهمات

العمل عن بُعد (Online)

ألعاب تساعد على زيادة تركيز الأطفال

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق