الأحد، 25 أغسطس 2024

• جدليّة الذّات والوجود في شعر طرفة بن العبد

طرفة بن العبد

  ظلّ الشاعر طرفة بن العبد ولا زال علامةً فارقةً في المشهد الشعريّ العربي، وإن كانت له من خصوصيّة تميّزه عن شعراء عصره ومن أتى من بعدهم، فإنّها تتجلّى في هذا القلق الوجوديّ الحاف بتجربته الشّعريّة، فقد كان صوته الشعريّ منذورًا للآلام التي يتعذّر الكشف عن أسرارها وكوامنها.

لنقلْ، إنّ ذاكرته الشعريّة الحيّة، تعبِّر عن شروخٍ  في الذات. شروخ قاومتْ عبثَ الذّاكرة وتداعيات اليتم وظلم ذوي القربى وخيانة كأس الصّداقات، فارتفع بذلك منسوب المتخيّل وسلطة الكلام.

أقصد ها هنا، تلك الصلة الخفيّة بين الذات وما يكتبه الشاعر من كينونات شعريّة، فقد كانت أشعاره مثل النسمة الحانيّة التي تُشفي الجراح وتتجاوز ذاكرة الجسد إلى موسيقى تُجسِّدُ شعرية متفردّة أفقًا وتخييلًا ومُنجزًا.

إن هذا التّوافق العميق بين كهوفِ الذّات الدّاجيّة والصوت الشعريّ، سَمَحَ لطرفة بن العبد بأن يكتب بعاطفةٍ لا نظير لها. عاطفة ممزوجة بقلقٍ وجوديّ وغربلة لريح الكلمة والصوت والصمت في حضرة القصيدة، ولا غرو، في أن الشاعر وهو في طريقه للإفصاح عن مكنونات الذّات، لا يتوانى في الإفصاح عن هذه النّزعة الوجوديّة والحوارات التي ينسجها مع العالم والأشياء والإنسان، فشعره تأمّلات في الحياة والمشترك الإنسانيّ، وحريّ التّنصيص ها هنا، أنّ طرفة بن العبد، لم يُعمِّر طويلًا، فكيف إذا، اكتسبَ هذه القدرة على تحويل الكلام الشعريّ إلى تأمُّلات كونيّة في الوجود؟ سؤال كهذا يتطلّبُ الحفر العميق في تجربته الشعريّة، والتّوقف عند تصوّراته وتشظيّات ذاته، ويكفي أن نستحضر هنا، بعضًا من أبياته الشِّعريّة، لكي نكتشفَ هذه الشعريّة الكثيفة المتوقِّدة، الغامرة بصدق المشاعر وهسيس الروح والإيقاعي الجرسيّ الحيّ المستوحى من اشتباك الذات وتلاحمها مع الإيقاعات الخليليّة، في مجابهة المواضعات الاجتماعيّة المُتصلِّبّة والعماء القبليّ والأيديولوجي الذي حوّل الحياة الجاهليّة إلى كُتلةٍ صمّاءَ وذاكرةً مجروحة.

لقد انْتَسَجَتِ نصوصه الشّعريّة بحالةٍ من القلق، وظلّت حركتها مشحونةً بالأسى وكدر الحياة، فهي تقيم بين الرّجفةِ والرّغبة في التّحرر من مواضعات المجتمع، حدّ الاختناق، خصوصًا أن الشاعر عاش حياةَ صعبةً مُتقلِّبَة، وبدهيّ أن تدبّ هذه المشارط في هيكل النصوص ومُنعرجاتها، بل تمتدُّ إلى رؤيته الذّاتيّة ونسيج لغته وتدفعانه إلى مُجابهة الظلم وتحدِّي اليُتم بحكمةٍ زاهدٍ في العيش والوجود والحياة.

وفي هذا الصّدد، يقول مُعاتبًا الأهل والخلاّن:

وظُلْمُ ذَو القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً    عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنّدِ

  ويقول أيضًا بحسٍّ مُرهفٍ وحكمةٍ شعريّة بالغةٍ:

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا    وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ

وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ     بَتَاتَا وَلَمْ تَضرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ

ويقول أيضًا مُتَأمِّلًا عبث الحياة والوجود:

أَرَى العَيْشَ كَنْزًا نَاقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ    وَمَا تَنْقُصِ الأَيَّامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدِ

إنّ هذه التّأمُّلات الشعريّة تنم عن روحٍ قلقةٍ، وثَّابةٍ، نزقةٍ تسعى إلى مُلامسةِ الوجود والكينونة، بعيدًا عن كدر اليوميّ وتراجيديا الحياة، ولعلّها مُغامرة رائقةٌ وشائقةٌ تلك التي أقدم عليها الشاعر مُعانقًا أفق التغيير ونشدان الشعر. وذلك يعني، أن مهمّة الشاعر شديدة العمق والحساسيّة والتّأمل، فهي لا تكمن في كتابة الشّعر واختراق جداريات الصّمت فحسب، وإنّما أيضًا تقديم رؤى وتصوّرات فلسفيّة حول الحياة والوجود والذات والآخر، وهناك بين الشاعر وعوالمه، يَتَأَتّى الفيض الشعريّ ممهورًا بالحياتيّ والفلسفيّ، والقيميّ والأخلاقيّ، في كتلةٍ ملتحمةٍ، مُفردةٍ، مُعبّرةٍ عن تصوّرات الذّات في تشابكها مع المشترك الكونيّ. وفي هذا يَتَوضّحُ مفهوم الكتابة الشعريّة لدى طرفة بن العبد، وهي كتابة تستقي خصوصيّاتها ومُقوِّماتها من طريقة الإفصاح... الشّغفُ الحياتيّ المقرون بأسئلةٍ فلسفيّة عميقةٍ، لكنّها، لم تخرج عن أُطروحات الشّعريّة العربيّة، حيث تتجسّد القيم والعادات، الحروب والمآثر، الانتصارات والهزائم، الحب والشغف، العاطفة والانفعال، الغناء والكتابة، ولا غرو، أن حضور الصوت الواحد المتفرّد، لا يعني الخروج عن النّزعة المعياريّة التي ميّزت الشعريّة العربية القديمة، وإنّما يندغم معها، يتماهى مع ما تتضمَّنه من خصوصيّات، ولعلّ طرفة بن العبد أو طرفة بن الورد كما يشتهي الشاعر البحريني قاسم حداد أن يُسمِّيه، مثالٌ للشاعر الذي أفنى حياته وشقى بشعره حتّى يكون في طليعة الشُّعراء العرب المُجدِّدين معنى ومبنى، شكلًا ومضمونًا، آفاقًا ومرجآت.

وعليه، فإن تجربته الشّعريّة يتعيّن وصفها بأنّها تجربة ضاربة في جذور الشّعريّة العربية، خاضعة لمعيارية بناء القصيدة دلالةً وتركيبًا وتخييلًا وإيقاعًا، غير أنّه وككل تجربة شعرية، لها خصوصيات وسمات، ومن خصوصيات هذه التّجربة جنوحها نحو الانهمام بمشاغل الحياة والوجود والتّفلسف، وكأن الشاعر مسكون باليوتوبيا باعتبارها ملاذًا آمنًا من كل نوازع الذات ومواضعات المجتمع وغرائبه ومفارقاته.

 إن طرفة بن العبد كثير التّأمل في مُجريات الحياة والوجود. لذلك، فإن صوته الشعري ظلَّ ممهورًا بهذه التّجارب القصيرة في الحياة، وحريّ الإشارة هنا، أن قيمة كل تجربة شعرية هو مدى المماهاة التي تحدثها الذات مع الآخر... سواء أكان هذا الآخر إنسانًا أو جمادًا، مجرّدًا أو محسوسًا، فالعبرة هي الانفتاح وإغناء هذه التجربة الشعرية على قدر الإمكان، ولعلّها مكرمةً أن يلتجأ الشاعر طرفة بن العبد إلى نسج حوارات مع الوجود والذات مع الأخذ بعين الاعتبار نمط العيش وطبيعة الأشياء المجردة أو المحسوسة، وكل ذلك كان له الأثر البالغ والعميق في رؤية الشاعر للعالم، فهي رؤية تستند في الكثير من مقوِّماتها وخصوصيّاتها من نمط التفكير وأسلوب العيش، لكن، الرؤية لا تكتمل ولا تتبلور بشكلها العميق والتراجيدي إلا من خلال اندغامها مع الذات على أساس المماهاة، وعليه، فإن هذه التجربة الشعرية الضاربة جذورها في التاريخ الشعري العربي والإنساني جديرة بالاهتمام والتأمل والإنصات إلى مكامن الجمال فيها بحثًا عن تدفقاتها ومفارقاتها في الحياة والوجود والذات.

 إقرأ أيضاً:

الأنشطة الإدراكية للطفل: دور الوراثة والتحفيز

سمنة الطفل: متى تستحق العلاج

الطفل الأعسر: مميزاته وكيفية دعمه

اكتئاب ما بعد الإجازة للطفل: الأسباب وطرق الدعم

ألوان جدران غرفة الطفل: تأثيرها على الدراسة والمزاج

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

المصدر: 1



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق