الخميس، 2 ديسمبر 2021

• مكتشف جبران خليل جبران يتذكره


جبران خليل جبران

كان جمعٌ في بوسطن صبيحة ذاك الأَحد 7 أَيار/مايو 1905. كان عُرس لبناني، بين المدعوين إِليه "الأُستاذ أَمين": صحافيٌّ لبنانيّ أَنشأَ في نيويورك سنة 1903 جريدة "الـمُهاجر"، أَخذ اللبنانيون يتلقَّفُونها مع سائر الصحف اللبنانية في تلك الفترة في نيويورك (“الهدى” لنعوم مكرزل، “مرآة الغرب” لنجيب دياب، وسواهما).

تقدَّم والدُ العريس من الصحافي: “أُستاذ أَمين، أَودُّ أَن أُعرِّفَكَ بشاب من عندنا، من بْشرّي، لديه تصاوير يدوية يحب أَن يُريكَ إِياها إِذا سمح وقتُكَ في بوسطن”. لم يَطُل الحوار حتى تقدَّم الشاب من “الأُستاذ”: “أَنا جبران خليل جبران. لي الشرفُ أَن أُطْلِعَكَ على بعض رسُومي”. وما انتهَت حفلةُ العرس، غَداءً ورقصًا وغناءً، حتى كان “الأُستاذ” يتوجَّه مع الشاب البْشرَّاوي إِلى شقَّته المتواضعة في شارع إِدينبورو. فتح الشاب ملفَّات لديه ووضَع بين يَدَي “الأُستاذ” ما فيها من رسوم بالقلم الرصاص وما كتبَت عن رسومه ومعارضه الصحفُ المحلية في بوسطن، وخلُص إِلى خاتمة: “...  ولَدَيَّ أَيضًا بعض الكتابات على دفتر صغير، هل لي أَن أَقرأَ لك بعضًا منها”؟ وما راح الشاب يقرأَ قطعةً، قطعتَين، ثَلاثًا، حتى حدَسَ “الأُستاذ” بحسِّه الصحافي أَنه أَمام موهبة أَكيدة تنمو، في حاجة إِلى صقل وتشجيع.

تاريخيةٌ تلك الزيارة في مسيرة جبران الأَدبية، إِذ كانت فرصةَ جبران الأُولى إِلى النشر وبدْء شهرةٍ أَوصلَتْه لاحقًا إِلى مَن وما هو اليوم. يومها عرض أَمين الغريّب أَن ينشر في “الـمُهاجر” مقالًا أُسبوعيًّا لجبران لقاءَ دولارَين. وما خرج أَمين الغريّب من تلك الشقة المتواضعة حتى أَسرع جبران فرِحًا يُخبر شقيقتَه مريانا أَن كتاباته (بعد رسومه في تلك المرحلة الباكرة لدى فْرِد هولند داي) ستردُّ عليه ماديًّا بفضل أَمين الغريّب، ما يخفِّف عنها صرْفَها عليه من عمَلها اليوميّ الـمُضْني بالإِبرة خيَّاطةً لدى السيدة طحَّان في بوسطن.

من هو أَمين الغريّب؟ وما هي مؤلفاته؟

أَمين منصور الغريّب صحافي لبناني وُلِدَ في بلدة الدامور سنة 1881. هاجر إِلى نيويورك سنة 1903 وأَنشأَ فيها جريدته “الـمُهاجر”، ثم عاد إِلى لبنان سنة 1908 ليؤَسس في بيروت جريدة “الحارس” الأُسبوعية. نفاه العثمانيون إِلى الأَناضول في بداية الحرب العالمية الأُولى (1914). تنقَّل موظَّفًا بين حلب ودمشق، ثم عاد إِلى لبنان ليواصل إِصدار “الحارس” سنة 1923، وبقي يحرِّر في القاهرة (“الأَهرام”) وبيروت (“الأَديب”) حتى هاجر سنة 1945 إِلى ساو پاولو، وفيها أَعاد إِصدار مجلته “الحارس” إِلى أَن توفي هناك سنة 1971. له عدد من المؤَلَّفات (“ورد وأَشواك”، “في زوايا القصور”، “الخليقة ونظامها”،…)، والمترجَمات (“الحب المكتوب”،…)، وله بعض القصائد الزجلية.

بعد زيارته تلك شقةَ جبران بدأَ ينشُر له على الصفحة الأُولى (تشجيعًا) مقالاتٍ أُسبوعيةً في زاوية سمّاها “دمعة وابتسامة”. واحتضن جبران أَدبيًّا، مصحِّحًا له بعض الأَخطاء في لغته العربية. بعد عدد من المقالات الأُسبوعية القصيرة، أَصدر له في كتابٍ مقالتَه الطويلة “نبذة في فن الموسيقى” (1905) فكان ذلك أَولَ كتاب لجبران بالعربية (عن مطبعة جريدة “الـمُهاجر” – 21 شارع واشنطن – نيويورك). وفي السنة التالية (1906) نشَر له كتابه العربي الثاني “عرائس المروج”، وبعده بسنتَين نشَر له كتابه الثالث “الأَرواح المتمردة” (1908) وصدَّره بمقدمة منه حول “أَفكار جبران وأُسلوبه المبتكر”.

بعد عودته إِلى لبنان، بقي على مراسلة مع جبران الذي ظلَّ يكنُّ الوفاء له ولـ”الـمُهاجر” التي أَطلقت شهرته كاتبًا لدى أَوساط الجالية اللبنانية في نيويورك وبعض الولايات الأَميركية.

وكان الغريّب على حجم الوفاء: بعد وفاة جبران (10 نيسان/أَپريل 1931) أَفرَدَ في مجلته “الحارس” – بيروت (السنة الثامنة، العدد الثامن، أَيار/مايو 1931) ملحقًا خاصًا عن جبران (ص 689 -704) روى فيه لقاءَه الأَول به سنة 1905، وكيف قدَّمه إِلى قراء “الـمُهاجر”.

في باب “وَفَيَات المشاهير” (ص 689) كتب الغريّب: “هذا الكوكبُ الساطع في سماء الآداب العربية والإِنكليزية، هذا الكاتبُ الطليُّ العبارة، السامي الخيال، هذا المصوِّر اليدويّ الرمَّاز الذي ما كاد ينقُش بريشته الطرية بَواكرَ رسومه حتى افتخرَت به جرائدُ بوسطن الأَميركية، لفظَ أَنفاسه الأَخيرة في الولايات المتحدة في 13 نيسان المنصرم وله من العمر 48 عامًا” (أَخطأَ الغريّب هنا في تاريخ الوفاة وهو 10 نيسان/أَپريل وليس 13).

يُكمِل الغريّب: “... وقد اهتزَّت محافل الأَدب لموته في جميع أَنحاء العالم، وأَسِف الأَميركيون عليه بعدما تذوَّقوا في مؤَلفاته الأَخيرة، بلُغَتهم الإِنكليزية، طعمَ أَفكاره العالية وخياله البعيد. لكنَّ أَحقَّ الناس بالأَسف عليه هو صاحبُ هذا القلم صاحبُ مجلة “الحارس” الآن وجريدة “الـمُهاجر” قبلًا، الذي كان له حظُّ اكتشافه وإِدراك ما في عقله من رجاحة وفي دماغه من نبوغ، فاجتذبَه من أَعماق مخبإِه في مدينة بوسطن، وبسَط أَمامه صفحات جريدة “الـمُهاجر” ليمشي بين أَعمدتها إِلى أَرقى المراتب في العالم العربي على خطَرات “دمعة وابتسامة...”.

بعدما قدَّم الغريِّب لمقاله الطويل في مجلته الشهرية (“الحارس”، السنة الثامنة، العدد الثامن، أَيار/مايو1931 – ص 689) بدمعة أَسى على غياب جبران في الشهر السابق (10 نيسان/أَپريل 1931)، يبدأُ بسرد تفاصيل ذاك اللقاء الأول.

وهنا ما كتبه حرفيًّا (ص 690):

في مثل هذا الشهر (يقصد أَيار/مايو) من سنة 1905، أَي منذ ستة وعشرين عامًا (يقصد 1905-1931) زرتُ مدينة بوسطن صدفة واتفاقًا، فكان بين اللبنانيين والسوريين، الذين شرَّفونا باستقبالهم الترحيبي، شابٌّ في الثانية والعشرين من عمره (يقصد أَن جبران المولود سنة 1883 كان سنة 1905 في عامه الثاني والعشرين) يشتغل بالتصوير الرمزي. دعاني لزيارة محلِّه، ورؤْية ما هناك من رسومه. وكنت أَلحَظ في كلامه أَلفَ دليل على سعة الاطِّلاع، فرافقْتُه وكان همّي منه بغير الرسوم. وكالصحافي المتطلِّع في تلك الأَيام وفي تلك الديار إِلى أُدباء حقيقيين، سأَلتُه ما إِذا كان قد كتَب شيئًا يُطْلِعني عليه، فقام فورًا إِلى مخدع، وجاء منه ببضعة فصول صغيرة قرأَ لي بعضَها فعرفْتُ أَني أَمام أَديبٍ مستعدٍّ ليكون كاتبًا عبقريًّا”.

الأَرواح المتمردة” لجبران نشَرَه الغريّب “على نفقته” (1908)

مَطالِعُهُ في “الـمُهاجر

من ذلك الحين اتَّخذ له “الـمُهاجر” منبرًا. وقد رأَى فيه أَول مقالة مطبوعة بِاسمه فيه في 17 أَيار/مايو 1905. وأَذكر أَني كتبتُ عنه يومئذ هذه العبارة: “من حُسْن حظِّ هذه الجريدة أَنها قادرة أَن تمثِّل للعالم العربي صورةً قَلَميةً من الشخص الذي أُعجبَتْ برسومِه الرمزيةِ أَعظمُ جرائد المدينة المعدودة في الولايات المتحدة “مدينة العلوم والفنون”. ذلك الشاب هو جبران خليل جبران من بْشَرّي لبنان. نَذكُر اسمه عاريًا من كل لقَب، ونوجِّه أَنظار القرّاء على صورة أَفكاره السامية التي نرسُمها في كل عدد من أَعداد هذه الجريدة تحت عنوان “دمعة وابتسامة”. إِننا لا نُلام في افتخارنا بشابٍّ لبنانيٍّ كثيرِ الآمال، على سبيل التنشيط والتشجيع. فماذا يكون شأْننا إِذ نردِّد فقط مفاخرةَ الأَميركيين بلبنانيٍّ لمحضِ أَنه يعيش بينهم؟

وهي ذي أَول مقالة نشرناها لجبران خليل جبران في باب “دمعة وابتسامة”، وكان عنوانها “رؤْيا”، هي أَول ما صرَّ به قلمه على جريدة مطبوعة (ويورد الغريّب مقال جبران “رؤْيا”، ولن أَستعيده هنا فهو المقال التاسع الموجود في كتابه “دمعة وابتسامة”، الذي صدرت طبعتُه الأُولى في نيويورك سنة 1914 عن “مطبعة الأَتلنتيك”، وتحت العنوان عبارة “مجموعة أَفكار وأَميال وعواطف”، وكانت كلمة “أَميال” فترتئذٍ تُستعمَل بمعنى “مُيُول”).

دمعة وابتسامة” مجموعة مقالات جبران في “الـمُهاجر

هكذا قدَّمه الغريّب إِلى القراء

يُكْمل الغريّب: “… وأَخذ جبران يَنشُر في كل عددٍ من جريدة “الـمُهاجر” فصلًا كهذا الفصل حتى 16 أَيلول/سپتمبر 1905، فشعرنا بواجبٍ يدفعنا إِلى رفْع الصوت في تبيان مزاياه الكتابية، استزادةً من انتباه الناس إِليه، فنَشرنا في عدد ذلك اليوم (16/9/1905) مقالًا افتتاحيًّا عنوانه “جبران خليل جبران” قلنا فيه:

“… منذ مدة قريبة ذهَب محرِّر هذه الجريدة إِلى بوسطن وضواحيها، وأَقام بصُحبة هذا الشاب عشرةَ أَيَّام كاملة، فعرفنا ما كنا نَوَدُّ لو عرفه قراء “الـمُهاجر” ليَعْلموا على الأَقل لماذا نكتُب فيه. نحن نؤَكِّد أَن هذا الشابّ اللبناني هو وحده – بين الأُلوف التي تَقرأُ اسمه ما بين تضاعيف الثناء والإِطراء – هو وحده يَقرأُ هذا الكلام عن نفسه كأَنه يقرأُ خبرًا من أَخبار الحرب، أَو مقالًا في السياسة، أَو حادثةً محليةً لا علاقةَ لها به على الإِطلاق. هو شابٌّ بلغَ منه التسامي بالروح إِلى حدِّ أَنه صار يُحب في الدنيا كلَّ شيْءٍ من أَجل الروح التي تُصْدِره. يَنظر إِلى الأَشياء كلِّها من وجهها الحسَن، ويعيش قانعًا بما يَرى، منتظرًا الكمالَ لنقائص هذا الكون بطمأْنينة وأَمل.

جبران هو أَول كاتب عربي رأَيناه يرسم كل أَميال نفسه وكل أَخلاقه في كتاباته بأَمانة. تصوَّر نفسك أَيها القارئ، وأَنت تقرأُ “دمعاته وابتساماته”، كيف تَندفع مع الكلمات من البداية إِلى النهاية مأْخوذًا بسهولتها وانسجامها، ومنتقِّلًا بسمُوِّ معانيها إِلى عالم أَسمى. واعلمْ أَنك بالحقيقة ترى أَخلاق هذا الشاب وطباعَه وأَميالَه متمثِّلةً أَمامك بأَوضح مظاهرها وأَصدق مَجاليها.

منذ أَربعة أَشهر ابتدأَ هذا الشابُّ يَنشُر في “الـمُهاجر” هذه الفصول، والناس يقرأُونها بشيء من الحيرة. وكما تقَع قطرات الندى على أَرض مزروعة في أَواسط الصيف، هكذا وقَعَت “دمعات” جبران “وابتسامته” على أَفكار العرب في الربيع المنصرم. فاجأَهم بها على نسَق جديد مبتكَر مفاجأَةً رائعة، فلبِثُوا مدَّة يطالعونها مبهوتين لعدم اعتيادهم مثلَها في اللغة العربية.

الغريّب يتوقَّع شهرة جبران

وسوف يأْتي يومٌ وهو قريب، فلا تبقى جريدة “الـمُهاجر” وحدها تَرفع إِلى أَوْج العُلى كاتبًا يستحقُّ هذه الرفعة، ويصير جبران خليل جبران في كل عالم الأَدب بمقام التاجر الحقيقي في عالم التجارة.

نحن في هذا الكلام نعبِّر عن أَفكار كلّ من ذاقوا لذَّة تصوُّراته، ومتَّعوا نفوسهم اللطيفة برقَّة معانيه. ولا نريد أَن نضنَّ عليه في حياته بجزءٍ على الأَقل مما سيقال فيه بعد عمر طويل. وبينما هو ينظر إِلى الحياة من خلال “دمعة وابتسامة”، نحن بالنيابة عن كل قارئٍ عربيٍّ نَسكب على أَزهار دوحته قطرات الثَناء تنشيطًا وتأْييدًا، وبالنيابة عن كلِّ كاتب عربي في أَميركا نكشف له الرأْس تحيةً واحترامًا”.

وبعدما توقَّع الغريّب شهرة جبران التي تحقَّقت فعلًا كما كان حَدَس له سنة 1905، يعود إِلى الحسرة على غيابه فيكتُب: “… وها أَن الستة والعشرين عامًا – التي سمح الله لجبران أَن يستمرَّ كاتبًا بعد تلك الدفعة التي اختارتْني العنايةُ لدفْعه بها إِلى الأَمام – قد أَيَّدَت جيِّدًا صدْق فراستي فيه. وما يَذرفُ اليومَ كلُّ أَديب عربي من الدموع الممزوجة بالاغتباط – لـمحض أَنه قد وُجِد بيننا وزاد في أَمجاد تاريخنا الأَدبي – يردُّ إِلى “دمعاته وابتساماته” الأُولى الصَدر إِلى العجُز كالشاعر الـمُجيد”.

جبران وماري هاسكل: أَهداها كتاباتِه وكتُبَه

يوم مولدي” في “الـمُهاجر

في 29 كانون الثاني/يناير 1883 وُلد جبران في بشرّي (هنا أَخطأَ الغريّب في التاريخ لأَن مولد جبران عامئذٍ كان يوم 6 كانون الثاني/يناير وليس 29). فاسمع الآن ما يقول في ذلك بعد 26 عامًا، بمقال “يوم مولدي”، أَرسله من پاريس إِلى “الـمُهاجر”، وما كان ينشر شيئًا على الإِطلاق في غير “الـمُهاجر”…”.

(هنا يورد الغريّب نص المقال كاملًا على 6 صفحات في العدد، من الصفحة 694 ومطلعُه: ]”في مثل هذا اليوم ولدَتْني أُمِّي. في مثل هذا اليوم منذ 26 سنة وضعَتْني السكينة بين أَيدي هذا الوجود المملوء بالصراخ والنزاع والعراك. ها قد سرتُ ستًّا وعشرين مرّة حول الشمس، ولا أَدري كم سار القمر حولي، لكنني ما أَدركتُ بعدُ أَسرارَ النور ولا عرفْتُ خلايا الظلام…”[، إِلى الصفحة 699 وخاتمتُه: ]”…سلامٌ أَيها الروحُ الضابطُ أَعِنَّةَ الحياة، المحجوبُ عنا بنقاب الموت، وسلامٌ لكَ أَيها القلب لأَنكَ لا تستطيع أَن تهزأَ بالسلام وأَنت مغمورٌ بالدموع. وسلامٌ لكِ أَيتها الشفاه لأَنك تتلفَّظين بالسلام وأَنتِ تَذوقين طعم المرارة”[. ولن أَنقله هنا كاملًا لأَنه موجود في كتاب جبران “دمعة وابتسامة – المقال السادس والأَربعون).

ويختم الغريّب بتأْريخ جبران المقالَ هكذا: “باريس في 29 كانون الثاني/يناير 1909”. ونشَرَه الغريّب على جبين الصفحة الأُولى من “الـمُهاجر” – العدد 467 – السنة السادسة – السبت 13 شباط/فبراير 1909، وكان الغريّب يُصدر الجريدة يومَين فقط في الأُسبوع: الأَربعاء والسبت. واللافت أَن جبران صدَّر مقاله، فوق اسمه، بإِهداء المقال إِلى ماري هاسكل. ولأَنها لا تعرف فكَّ الأَحرف العربية، كتبَه لها بالأَحرف اللاتينية: To M.E.H.

مطلع الرسالة الأُولى كما صدرَت في “الحارس

مطالع الـمُراسلة

بعد نشْر النص (“يوم مولدي”) كاملًا، يكمل الغريّب:

“… فالقارئ يستدلُّ، من كتابات هذا الشاب النابغة، على أَميال نفسه الكئيبة، وعلى اطّلاعه الواسع وعلْمه المحيط بمكنونات متنوعة عديدة. وبعدَما أَوردتُ من كلامه العامِّ للناس، لا بأْس في إِيراد بعضٍ من كتاباته الخاصة التي كان يُتحفني بها حينًا بعد آخر.

عند عزمي في مطلع سنة 1908 على مغادرة نيويورك إِلى لبنان تناولتُ منه جوابًا طويلًا في 12 شباط/فبراير من ذلك العام قال في ختامه: “لا يمكننا أَن نلتقي ونهزَّ الأَكُف. ولكنْ سوف نلتقي بالروح والفكْر كلّ يوم بل في كلّ ساعة. إِن نواميس الزمان والمكان والمسافة لا تؤثّر في الأَرواح. خمسة آلاف ميل مثل ميل واحد. وأَلف سنة عند الروح مثل دقيقة واحدة. فالله يُريني وجهَكَ بخير يا أَمين. ولتباركْكَ السماء بقدر محبة أَخيكَ – جبران” (“الحارس” ص 699).

ويوم سفَر الباخرة بي من نيويورك في 18 شباط/فبراير 1908، كتَب إِليَّ من بوسطن يُظهر حنينه إِلى لبنان ويقول: “يا أَخي أَمين، هذه آخر كلمة أَقولها وأَنتَ في هذه البلاد. كلمة صغيرة صادرة من قدس أَقداس القلب، مع تنهيدة شوق وابتسامة أَمل. كُن معافى في كل ساعة من كل يوم من كل شهر. تمتَّعْ بالأَشياء الجميلة أَينما رأَيتَها، وأَبْقِ خيالاتها وصداها في قلبكَ إِلى حين رجوعك إِلى مُحبِّيكَ ومُريديكَ. قابِلْ عشَّاق “الـمُهاجر” في مصر ولبنان وسوريا، واتْلُ على مسامعهم حديث إِخوانهم الـمُهاجرين، وانشُر أَمامهم ما طوَّقَت المسافةُ الشاسعة الفاصلة بين قلوبنا وقلوبهم، ومكِّن تلك العُرى التي تُوثِّق قلوبَ قلوبنا بقُلوب قلوبهم. قفْ على إِحدى قمم لبنان صباحًا، وتأَمَّلْ في طلوع الشمس وانسكاب شعاعها الذهبي على القرى والأَودية، وأَبْقِ هذه الصورة السماوية على لوح صدركَ لكي نراها عندما تعود إِلينا. تلطَّفْ وأَجْرِ ذكْر الحنين الذي في أَرواحنا وتمنيات قلوبنا أَمام الناشئة اللبنانية. أَخْبِر رجال لبنان وسوريا العتيدتَين بأَن جميع أَفكارنا وعواطفنا وأَحلامنا لا تَخرُج وتتطاير من رؤُوسنا وصدورنا إِلَّا لتَسبَحَ طائرةً نحوهم. عندما تبلغ بكَ الباخرة بيروت، قِفْ على مقدَّمها وانظُر نحو صنين وفم الميزاب، وَحَيِّ عنا الجدودَ النائمين تحت أَطباق الثرى، والآباءَ والإِخوان العائشين فوقه. أُذكُر جِدَّنا واجتهادَنا في الاجتماعات العامة والخاصة. قُلْ: هُم قوم يشتغلون بزرع البذور في أَميركا لكي يستغلُّوها يومًا في لبنان وسوريا. أُذكُر اسمي أَمام مُحبّي “الـمُهاجر” في مصر ولبنان وسوريا، لعلَّ اسمي يصير ذا نغمةٍ لطيفةٍ إِذ يجتاز مسامعهم” – جبران”.

ويكمل الغريّب:

“… ولـمَّا بلغتُ لبنان، جاءَتْني منه الرسالة التالية عن بوسطن في 28 آذار/مارس 1908 أَختار منها بعض فقراتها التي أَشعر بأَنَّ فيها ما يستوجب نشْرَها وتعميمَ تعابيرها الجميلة (“الحارس” – ص 700):

يا أَخي يا أَمين: ها قد أَوصدتُ غرفتي، وجلستُ في ظلال سحابة من دخان السكاير الممزوج بعطر القهوة الحجازية، لكي أَصرف ساعةً بمحادثتكَ. فما أَلذَّ السكاير، وما أَلذَّ القهوة الحجازية، وما أَلذَّ محادثتكَ. أَنتَ الآن في الجانب الآخر من هذه الكرة الكبيرة الصغيرة، وأَنا ما برحْتُ ههنا. أَنتَ في لبنان الجميل الهادئ، وأَنا في بوسطن المفعَمة بالحركة والضجيج. أَنتَ في الشرق وأَنا في الغرب. ولكنْ ما أَقربكَ بعيدًا يا أَخي. إِن البشر يَكرهون بُعاد الأَحباب والأَصحاب لأَن سرورهم يأْتيهم عن طريق الحواسّ الخمس. أَما الذي نَـمَتْ روحُه فيشعر بالملذَّات المترفِّعة عن استخدام هذه الحواسّ. هو يذهب إِلى أَقاصي الأَرض ثم يعود، ولكنْ بغير الأَقدام والمَرْكَبات والسفن…”.

حنين جبران إِلى لبنان

في القسم الأَول من رسالة جبران لدى سفَر الغريّب من نيويورك إِلى لبنان، غبطَه أَنه سيطأُ الأَرض التي وُلِد عليها جبران، وهي أَصلًا لم تغادر قلمه كاتبًا ولا ريشته رسَّامًا طوال حياته في أَميركا. وهنا الجزء الأَخير من تلك الرسالة، يَظهر فيها حنين جبران الحارق إِلى لبنان، وهو كان يتهيَّأُ للسَفر إِلى پاريس للتعمُّق في دراسة الرسم.

كتَب جبران في رسالته إِلى الغريّب:

“… وكيف وجدتَ لبنان؟ هل رأَيتَه جميلًا مثلما كان يصوِّرُهُ شوقُك وحنينك إِليه؟ أَم أَلْفَيتَهُ بقعةً جرداء يَسكنُها الخمول بجوار الكسَل؟ هل هو ذلك الجبل الأَشم الذي تفنَّنَتْ بوصف محاسنه قرائحُ الشعراء من داود إِلى سليمان إِلى إِشعيا إِلى جرمانوس فرحات إِلى لامرتين إِلى نجيب الحداد؟ أَم مجموع تلال وأَودية خالية من الأُنس، بعيدة عن الظرف، مكتَنَفَة بالوحشة؟

أَنت ستمرُّ بباريس طبعًا عندما تعود من لبنان. وفي باريس سنلتقي ونفرح بالجمال الذي صاغتْه أَيدي المتفنِّنين. وفي باريس سنزور البانتيون ونقف هنيهة على قبر فيكتور هيكو (كذا) وروسو وشاتوبريان ورُنان. وفي باريس سنسير بين أَروقة قصر اللوفر ونشاهد رسوم رافائيل وميكالانجلو ودافنتشي وبارجينو. وفي باريس سنذهب ليلًا إِلى الأُوبرا، ونسمع الأَغاني والتسابيح التي أَنزلَتْها الآلهة على بيتهوفن وواكنر وموزار وفردي وروسيني. إِن هذه الأَسماء التي يصعب على العربيّ أَن يلفظها هي أَسماء الرجال الذين بَنَوا مدنيَّة أُوروبا. هي أَسماء رجال طوَتْهُم الأَرض لكنّها لم تستطع أَن تطوي أَعمالهم العظيمة. إِنَّ العاصفة تُميت الأَزهار لكنَّها لا تقدر أَن تُبيد البُذُور. وهذه هي التعزية التي تسكُبها السماء في نفوس محبي الأَعمال العظيمة. هذه هي الأَشعة التي تجعلُنا، نحن أَبناء المعرفة، نسير على طريق الحياة رافعين رؤُوسنا بالفخر والغبطة.

رسالة جبران من باريس (30/7/1909)

الطائر الحُر

كنتُ بالأَمس قانعًا بالأَدوار الصغيرة أُمثِّلها على مسرح محدود. واليوم صرت أَرى تلك القناعة نوعًا من الخمول. كنت أَرى الحياة من وراء دمعة وابتسامة، فصرت أَراها من وراء أَشعة ذهبية سحرية تبثّ القوةَ في النفْس، والإِقدامَ في القلب، والحركةَ في الجسد. كنت كطائر مسجون في قفص راضٍ بالبُذُور التي تضَعها أَمامي يدُ القدر، فصرت كطائرٍ حُرٍّ يرى أَمامه بهجةَ الحقول والمروج الخضراء، ويريد أَن يطير سابحًا في الفضاء الوسيع، ساكبًا في الأَثير أَشباح روحه وخيالات أَمياله. أَشعر بأَن جبران قد جاء هذا العالم ليكتب اسمه بأَحرف كبيرة على وجه الحياة. وهذا الشعور يلازم نفسي ليلًا ونهارًا، وسَفْرَتي إِلى باريس هي أَول درَجة من السلَّم الذي يصل أَرضي بسمائي.

عندما تكون، يا أَمين، في مكانٍ جميل، أَو بين أُدباء أَفاضل، أَو بجانب خرائبَ قديمة، أَو على قمة جبلٍ عالٍ، عندما تكون في أَحد هذه الأَماكن، أُلفظ اسمي همسًا فأَسير نحوكَ بروحي، وأَتمتَّع معك بالحياة وبكل ما في الحياة من المعاني الخفية. أُذكُرني عندما ترى الشمس طالعة من وراء صنين، أَو من وراء فم الميزب. أُذكُرني عندما ترى الشمس جانحةً نحو الغروب وقد وشَّحَت الطلولَ والأَوديةَ بنقاب أَحمر كأَنها تذرف، لفراق لبنان، الدماءَ بدلًا من الدموع. أُذكُرني عندما ترى رُعاةَ المواشي جالسين في ظلال الأَشجار يَنفُخون في شبَّاباتهم، ويملأُون البرّيَّة الهادئة أَنغامًا كما فعل أَبولو عندما نفَتْهُ الآلهة إِلى هذا العالم. واذكُرني عندما ترى الصبايا الحاملات على أَكتافهنَّ آنيةَ الماء. أُذكُرني عندما ترى القروي اللبناني يَفلح الأَرض أَمام عين الشمس، وقد كلَّلَتْ قطراتُ العرَق جبينَه وأَلْوَت المتاعب ظهرَه. واذكُرني عندما تسمع الأَغاني والأَناشيد التي سكبَتْها الطبيعة في قلوب اللبنانيين، تلك الأَغاني المنسوجة من خيوط أَشعَّة القمر، الممزوجة برائحة الوادي، المتموِّجة مع نسمات الأَرز. واذكُرني عندما يدعوكَ الناس إِلى الحفلات الأَدبية والاجتماعية، لأَنَّ ذِكْري عندئذٍ يُعيد إِلى نفسكَ رسوم محبتي لكَ وشوقي إِليك، ويجعل لكلامكَ معاني مزدوجة، ولخطاباتكَ تأْثيرات روحية. فالمحبة والشوق هما بداية أَعمالنا والنهاية.

والآن، وقد كتبتُ هذه السُطُور، أَراني كذلك الطفل الذي رآه القديس أُغسطينوس بجانب البحر، ذلك الطفل الذي رامَ نقْلَ مياه البحر بصَدَفَة إِلى حفرة صغيرة في رمال الشاطئ. ثم أَرجو منك أَن تلفظ اسمي مشفوعًا بإِعجابي واحترامي أَمام سيِّدي والدِكَ، وأَن تتفضَّلَ بتقديم تحيّتي إِلى سيِّدتي والدتِكَ، تلك الوالدة التي وهبَت العالم العربي قوةً كبيرة، وأَعطَت لبنان شعلةً مشعشعة، وأَسعدَت جبران بأَخٍ حبيب. وأَرجو منكَ أَن تنثُر سلامي أَمام إِخوانك ومُحبِّيك مثلما يَنثر النسيمُ أَزاهر التفاح في نيسان.

والسلام عليك يا حبيب أَخيك – جبران”.

ختام مقال الغريّب في “الحارس” عن جبران

وفاء جبران للغريّب ولــ”الحارس

وواضح من هذه الرسالة حنين جبران القويُّ إِلى لبنان ومَن وما في لبنان.

ويسافر جبران إِلى باريس ليَدرس الرسم، محقِّقًا حلمه الذي كان حدَّث عنه الغريِّب في الرسالة، وعمَّا سيقوم به مع الغريّب لدى مرور الغريب بباريس. وكتب من باريس إِلى صديقه أَمين رسالة قدَّم لها الغريّب كما يلي:

 “… وفي 30 تموز/يوليو 1909كتب إِليَّ من باريس يقول: “وصلَني في هذه الساعة العددُ الأَخير من “الـمُهاجر”، وجعلَني أَقف مفكِّرًا متذَكِّرًا، ولا أَقول متأَسِّفًا، لأَنكَ أَدرى بمستقبلكَ مني. وما كنتُ أُريد أَن أَبعث به إِلى “الـمُهاجر” سيبقى في دفاتري ريثما تَنبُتُ تحت أَجنحة أَمين الغريّب صحيفةٌ ثانية. إِن “الـمُهاجر” أَصبح الآن بين أَيدٍ لم تلامس يدَ جبران، فجبران أَصبح غريبًا عن “الـمُهاجر”، ولكن لفظة “الـمُهاجر” ستبقى حلوةً ولذيذة”.

بعد هذه الرسالة يختُم الغريِّب مقاله الطويل (ص 704) بهذا المقطع آسفًا لموت جبران:

رحِمَك الله يا جبران رحمةً واسعة، وسقى ثَراك بوابل صياب من مسامع قادري فضلكَ وعارفي مزاياكَ. لقد كتبتَ اسمك على لوحة الأَدب بأَحرف خالدة. والثمانيةُ والأَربعون عامًا التي قضيتَها على هذه الأَرض ليست بالحياة الطويلة، لكنَّ الدقائق من مثْل هذه الحياة المثمرة تُضارع السنين في حياة الكثيرين جدًا ممن عاصروكَ فيها”.

الشاعر هنري زغيب

المصادر: 1، 2، 3، 4

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

 ما هو فقدان الإحساس باللذة؟

كيفية التغلب على الخوف من الفشل

كيفية تحديد نقاط قوتك وضعفك

منافع التعليم الوجاهي مقارنة بالإلكتروني

11 علامة تحذيرية لانتكاس الاكتئاب

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق