الثلاثاء، 15 يوليو 2025

• اضرب الراعي لِتُتَشِّتت الخراف (قانون 42)

القاعدة 42 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة:

ستجد دائما وراء الاضطربات الكبيرة شخصاً واحداً حاقداً ومتغطرساً يستطيع أن يعدي الآخرين بأحقاده. إن تركت هؤلاء أحراراً سينشرون سواد قلوبهم بين الناس. لا تنتظر حتى تتفاقم المشكلات التي يسببونها ولا تحاول أن تستميلهم أو تسترضيهم لأنك لن تستطيع. ابعد تأثيرهم بالتخلص منهم أو بعزلهم عن الناس. اضرب الراعي الذي سبب المشكلة وسوف يتشتت ما تجمع حوله من الخراف.

مراعاة القاعدة 1:

باقتراب القرن السادس ق. م. من نهايته تمردت أثينا على حكامها الطغاة الفاسدين والذين سيطروا على أمورها لعقود، وأسسوا ديمقراطية استمرت قرناً من الزمن وكانت مصدراً لسطوتهم وافتخارهم. لكن مع مرور الوقت بدأت تواجههم مشكلة لم يعرفوها من قبل: ماذا يفعلون بالانتهازيين الذين لا يفكرون إلا بأنفسهم ويهددون تماسك المدينة التي تحيطها الأعداء من كل مكان؟. أدرك الأثينيون أنهم إن لم يوقفوا هؤلاء سينشرون الفرقة ويثيرون القلاقل بين المواطنين وسوف ينتهون بالخراب على المدينة والقضاء على الديمقراطية. كما لم يكن في موسوعهم أن يعاقبوا الانتهازيين عقابات وحشية لأن ذلك كان لا يليق بالأسلوب المتحضر الذي ابتدعته أثينا، وبدلاً من ذلك ابتكروا حلاً أكثر إنسانية وأقل وحشية للتعامل مع هؤلاء المفسدين: قرروا أن يجتمعوا كل عام في سوق المدينة ويكتب كل شخص على رقاقة من الطين اسم الشخص الذي يرغب في طرده ومن يظهر اسمه على ستة آلاف رقاقة يطردونه من المدينة لعشر سنين، وإن لم يكتمل هذا النصاب لشخص معين يطردون الشخص الذي أجمع عليه أكبر عاد من الرقاقات. أطلقوا على عملية الطرد اسم ostracism  من كلمة ostrakal التي تعني رقاقة الطين. كانوا كل عام يجرون هذا الطرد في احتفال كبير يبتهجون فيه بالتخلص من الأشخاص الذين يتسلطون على شعب المدينة بدلاً من أن يخدموه.

في عام 490 ق. م ساهم أرستيدس وهو أحد أعظم القادة في تاريخ أثينا في هزيمة الفرس في معركة ماراثون. وخارج المعارك كان أرستيدس قاضياً أطلق الناس عليه لقب «العادل» بسبب صدقه وإنصافه. لكن بمرور الوقت بدأ الناس في أثينا يكرهونه ويرون أن تقواه وورعه ستار مخفي به تعاليه عليهم واحتقاره لهم، وأخذوا يضيقون بتواجده الدائم في كل الشئون السياسية للمدينة، ورأوا أن مثل هذا الشخص المتغطرس والمتعالي على عامة الناس سيثير في النهاية فرقة عنيفة بينهم إن لم يتخلصوا منه. وفي عام 482 ق. م تحقق لأرستيدس نصاب الطرد من المدينة رغم احتياج الناس لخبراته القيمة في الحرب الدائرة مع الفرس.

بعد طرد أرستيدس ظهر القائد العظيم تيموستكليس كأهم شخصية في المدينة، لكن جوائزه وانتصاراته الكثيرة أصابته بالغرور وجعلته مستبداً، وأخذ يتباهي باستمرار على الأثينين بانتصاراته في المعارك وبالمعبد الذي شيده لهم والمخاطر التي نجاهم منها، وبدا وكأنه يقول لهم أن لولاه ما كان للمدينة أن تستمر. وهكذا اكتمل لتيموستكليس في عام 472 ق. م نصاب الطرد واحتفل سكان المدينة بالخلاص من مرارة وجوده بينهم.

لا يشك أحد أن بيركليس كان أعظم السياسيين في أثينا في القرن الخامس ق. م، وتعرض لأكثر من مرة لخطر الطرد ولكنه ظل يتقرب من الناس لأنه كان قد استوعب الدرس وهو طفل من مصير معلمه دامون العظيم الذي كان يفوق الأثينيين جميعاً في الذكاء والموسيقى وفنون الخطابة، وهو من علم بيرکليس ما يعرفه عن فنون الحكم، لكن في النهاية تم طرد دامون لأن تعاليمه واحتقاره للناس قد جلب ضده الكثير من المعارضة والاستياء.

قرب انتهاء القرن كان يعيش هايبر بولوس وهو رجل أجمع معظم كتاب عصره على وصفه بأنه أحقر رجل في المدينة. لم يكن هايبر بولوس هذا يهتم برأي الناس فيه وكان يشوه سمعة كل من لا يرضى عنه، وكان ذلك يضحك البعض ولكنه كان يغضب الكثيرين. في عام 417 ق. م رأي هايبر بولوس أن الفرصة قد واتته ليثير الناس ضد أحد القائدين العظيمين في وقته ألسيبيادس ونشياس. وكان يأمل أن يطرد أحدهما ليحل محله، كانت خطته قريبة من النجاح فقد استغل کراهية الناس الإسراف وبذخ السيبيادس ولثراء وتحفظ نشناس؛ لكن القائدين المتنافسين اجتمعا ضده وسخّرا كل مواردهما لطرده وأقنعا الناس بأنه لا يمكن التخلص من حقارة هايبر بولوس إلا بنفيه.

كان كل من تعرضوا للطرد من قبل من الشخصيات الهامة والعظيمة، ولكن رأي الأثينيون بعد طرد أحمق مثل هايبر بولوس أن الاحتفال قد تدني، وهكذا أوقفوا ممارسة هذا الطقس الذي ظل طوال مائة عام أحد المفاتيح الأساسية لحفظ الأمن والسلام بالمدينة.

التعليق:

كان لدى الأثينيين فطرة اجتماعية افتقدناها نحن على مر القرون. كان الأثينيون مواطنين بكل ما تحوى الكلمة من معاني وكانوا يستشعرون خطر السلوكيات المعادية للمجتمع وكانوا يعرفون أن هذه السلوكيات لا تأتي غالباً بصورة مكشوفة ولكن تتخذ أشكالاً أخرى غير مباشرة - فهناك من يتصرف وكأنه أكثر منك تقوى ليفرض عليك أسلوبه في الحياة، وهناك الطموح المتسلق الذي يحقق ما يريد على حساب الصالح العام، وهناك أيضاً المتعجرف الذي يريد أن يشعر الآخرين بدونيتهم، والخبيث الذي يكيد للناس في السر، والحاقد الحاسد الذي يريد تشويه سُمعة الجميع. بعض هذه السلوكيات تزرع الفرقة والتحزب بين الناس وتهدد تماسك المدينة وبعضها الآخر يقتل روح الديمقراطية بإفقاد الناس لثقتهم بأنفسهم وإشعارهم بالدونية ونشر الحقد والحسد بينهم. لم يحاول الأثينيون إصلاح من يتصرفون بهذه الطرق أو وعظهم كما لم يحاولوا أن يستوعبوهم بينهم ولا أن يعذبوهم أو يعاقبوهم بعنف لأن ذلك كان سيفسد ديمقراطينهم، لكن استخدموا حلاً ناجعاً وسريعاً: أن يتخلصوا منهم.

الغالب الأعم هو أن تجد مصدراً واحداً لمعظم المشكلات التي تُفَتِّت أي جماعة؛ هذا المصدر هو الأشخاص التعساء الذين لا يشعرون أبداً بالرضا ويشيعون السخط والفرقة بين الناس، وقبل أن تنتبه لهم ستجد الحزبية والفتنة قد تَفَشَّت. عليك أن تتصرف قبل أن تتكاثر المآسي ويستحيل عليك حلها. أولاً عليك أن تتعرف على مثيري الفتن من طبيعتهم المتعالية ومن شكواهم الدائمة. وبمجرد أن تكتشفهم لا تحاول أن تصلحهم أو تسترضيهم فلن يزيدهم ذلك إلا استكباراً. ولا تحاول أن تتحداهم صراحة أو ضمناً لأن خبث طبائعهم سيجعلهم يعملون على تدميرك في الخفاء. افعل كما فعل الأثينيون: ابعدهم قبل أن يخرج الأمر عن سيطرتك، اطردهم عن جماعتك قبل أن يتحولوا إلى إعصار يدمر كل ما بنيت. شل حركتهم واجعل معاناتهم قرباناً لإرساء السلام بين باقي أفراد الجماعة.

حين تسقط الشجرة تتفرق القردة (متل صيني)

مراعاة القاعدة 2:

في عام 1926 اجتمع کاردينالات الكنيسة الكاثوليكية في روما لاختيار البابا الجديد واختاروا الكاردينال جايتاني أملاً في أن ذكاءه الحاد سيرسخ سطوة الفاتيكان، اتخذ جايتاني لنفسه اسم بونيفيس الثامن وقد أثبت للجميع صحة توقعاتهم منه، فكان يخطط بحنكة وينفذ ما يريد بعزم لا يوقفه شيء، بمجرد أن حصل بونيفيس على السلطة سحق كل خصومه وَوَحَّد الولايات البابوية، وبدأت القوى الأوروبية تخشاه ويرسلون الوفود للتفاوض معه، بل أن ألبريخت ملك النمسا تنازل له عن بعض أراض من مملكته. وتحقق للبابا معظم ما كان يخطط له.

جزء واحد ظل عصياً على هيمنة البابوية وهو منطقة توسكاني أكثر أقاليم إيطاليا ثراء. رأى بونيفيس أنه لو أخضع فلورنسا أقوى مدن توسكاني فسوف تخضع له البقية بسهولة، لكن فلورنسا كانت جمهورية تعتز بنفسها وكان من الصعب هزيمتها، وكان على البابا أن يخطط للأمر بدهاء.

كانت فلورنسا منقسمة بين حزبين متصارعين هما البيض والسود. كان حزب البيض مكوناً من التجار الذين حازوا السطوة والثروة منذ وقت قريب بينما كان السود هم الأسر القديمة في الثراء. وبسبب شعبية البيض بين الناس أصبحت لهم السلطة وكان ذلك يثير السخط لدى السود. وبمرور الوقت تعمق الصراع بين الطرفين.

رأي بونيفيس في ذلك فرصته فكان يمكنه أن يساند السود للسيطرة على المدينة وحينها تصبح فلورنسا في جعبته. وحين بحث الأمر ملياً رأى أنه يجب أن يركز جهوده على رجل واحد هو دانتي الأليجاري الشاعر والكاتب الفلورنسي الشهير والذي كان مؤيداً بحرارة للبيض. كان دانتي الخطيب المفوه وكان يهتم اهتماماً كبيراً بالسياسة ويؤمن إيماناً عميقاً بالجمهورية وينتقد مواطنيه لعدم تحمسهم في دعمها. في العام 1300 وهو العام الذي بدأ بونيفيس يخطط فيه للاستيلاء على المدينة انتخب المواطنون دانتي لأحد أهم المناصب کرئيس لأحد الأديرة الستة في المدينة. وفي فترة الستة أشهر التي قضاها في منصبه كان دانتي يقف بحزم ضد السود وضد كل محاولات البابا لزرع الفتنة.

في عام 1301 أعد البابا خطة جديدة: استدعى شارل دي فالوا الأخ القوي لملك فرنسا وطلب منه المساعدة لإخضاع توسكاني. زحف شارل بجيوشه إلى شمال إيطاليا وبدأ الناس في فلورنسا يرتجفون من الفزع والترقب، وحينها أثبت دانتي قدراته كرجل دولة يستطيع أن يحشد الناس ويبث فيهم الحماس، ويقاوم بشدة أي محاولة للخنوع ويسعى جاهداً لتسليح المواطنين وتنظيم المقاومة ضد البابا وألعوبته أمير فرنسا، أدرك البابا أن عليه أن يُحَيِّد دانتي بأي طريقة ممكنة، فأخذ بيد يحرك جيوش فالوا لترهيب فلورنسا وباليد الأخرى كان يحمل غصن الزيتون ويدعوهم للتفاوض متمنياً أن يبتلع دانتي الطعم. بالفعل قررت فلورنسا أن ترسل وفداً إلى روما للتفاوض حول السلام وكما توقع البابا كان دانتي هو الذي يرأس الوفد.

أخذ البعض يحذرون دانتي من أن البابا الماكر يستدرجه بعيداً عن المدينة، لكن دانتي أصر على موقفه وفي اللحظة التي وصل فيها إلى روما كانت جيوش فالوا تقف على أبواب فلورنسا. ظن دانتي أنه يمكنه بأسلوبه ومنطقه أن يكسب البابا إلى صفه وينقذ المدينة. لكن حين التقى به البابا مع وفد فلورنسا أخذ بونيفيس يرهبهم كما كان يفعل كثيرا وقال لهم بصوته القوي «اركعوا لي واخضعوا لسلطتي، ولن تجدوا شيئاً أحب إليّ من أن أهبكم السلام». خضع الوفد بالفعل لسلطة البابا وصدقوا أنه سيعمل لصالحهم، ونصحهم البابا بالعودة للمدينة وأن يتركوا شخصاً واحدا لاستمرار المفاوضات وأشار لهم أن دانتي هو الذي سيبقي؛ كان يحدثهم بأدب جم وكأنه رجاء لكن بطريقة لا تقبل الرفض وكأنه أمر.

بقي دانتي في روما وأثناء محادثاته مع البابا سقطت فلورنسا، وفي غياب من يُوَحِّد البيض ويتكلم عنهم وقيام فالوا برشوتهم بأموال البابا لنشر الفتنة بينهم تفرقت مواقفهم وأخذ بعضهم يميل للسلم وغَيَّر آخرون ولاءهم، وبمواجهتهم للأعداء مُفَتَّتين استطاع السود القضاء عليهم في أسابيع قليلة وانتقموا منهم انتقاماً عنيفاً. بعد أن استقرت السلطة للسود سمح البابا لدانتي بالرحيل عن روما.

أصدر السود أمراً بعودة دانتي للمدينة ليواجه الاتهام والمحاكمة، وحين رفض أمروا بحرقه حتى الموت إن خطا بقدميه خطوة واحدة إلى فلورنسا. هكذا تذوق دانتي حياة المنفي متنقلاً من مدينة إلى أخرى بعد أن أُهين اسمه في المدينة التي أحبها والتي لم يستطع أن يعود إليها بعد ذلك أبدا حتى بعد وفاته.

التعليق:

أدرك بونيفيس أنه لو وجد طريقة لاستدراج دانتي خارج فلورنسا ستسقط المدينة بسرعة، ولتحقيق ذلك لجأ إلى واحدة من أقدم الحيل في التاريخ وهي الترهيب والترغيب. وقع دانتي في الفخ وبمجرد أن دخل إلى روما عمل البابا على مماطلته إلى أن ينتهي الأمر. كان بونيفيس عليماً بأحد القواعد الأساسية في لعبة السطوة: أن شخصاً واحداً لديه القدرة والعزم يمكن أن يحول قطيعاً من الخراف إلى أُسُود، وحين أُبعِد مُثير الفتن فقدت المدينة تماسكها وبسرعة تفرقت الخراف.

تعلم الدرس: لا تُضَيِّع وقتك في الهجوم على الرؤوس المتعددة لعدوك بل ابحث عن الرجل الأذكي أو الأكثر عزماً أو الأكثر تأثيراً على الآخرين، وابذل كل ما تستطيع لتبعده عن الجماعة لأن ذلك سيشل قدراتهم. يمكنك أن تعزله بدنياً (بنفيه أو إخراجه من دائرة الصفوة) أو سياسياً (بتضييق دائرة مؤيديه) أو نفسياً (بأن تجعل الجماعة تنبذه بالتشهير به ونشر الفضائح عنه). ولتعلم أن السرطان يبدأ بخلية واحدة وعليك أن تستأصلها قبل أن تنتشر ويستعصى المرض على العلاج.

مفاتيح للسطوة:

في الماضي كنا نرى أُمماً يتحكم بأمرها ملك وبضعة وزراء، ولم يكن يملك السطوة سوى رجال البلاط. لكن مع التقدم وانتشار الديمقراطية انتشرت السطوة وأصبحت في يد كثيرين، وأدى ذلك إلى الاعتقاد الخاطئ بأن السطوة أصبحت مشاعاً ولم تعد تتركز في أيادٍ محددة. الحقيقة أن دوائر السطوة قد انتشرت وتعددت ولكن لم تتغير طبيعتها، لم نعد نرى حالياً إلا القليلين من الطغاة الذي يتحكمون بمصائر الملايين، لكن يظل هناك طغاة كثيرون يحكمون دوائرهم الصغيرة ويفرضون إرادتهم على الآخرين بإجادتهم لقواعد وألعاب السطوة والتأثير. داخل كل جماعة تنحصر السطوة في يد شخص أو اثنين على الأكثر لأن ذلك من الطبيعة البشرية التي لا تتغير: فالناس بطبيعتهم يتجمّعون حول الشخصيات القوية کما تتجمع الكواكب حول الشمس.

لا ترهق نفسك عبثاً بتوهم أن السطوة مشاع بين الناس لأن ذلك يؤدي بك لارتكاب أخطاء لا حصر لها، ويهدر وقتك وجهدك ويجعلك لا تصيب أهدافك أبداً. رجال السطوة لا يهدرون وقتهم، من الخارج قد يجارون الشائع ويتظاهرون وكأن الجميع لهم سطوة ولكن من داخلهم يضعون أنظارهم على القلة القليلة داخل الجماعة التي تمسك بكل مقاليد الأمور ويركزون كل جهودهم عليهم، وحين تنشأ المشكلات يبحثون عن السبب في الشخصية القوية التي بدأت بتحريض الآخرين، ويعزل المحرض أو نفيه يستعيدون الهدوء والنظام.

اكتشف د. ميلتون ه. إريكسون أثناء ممارسته للعلاج الأسري أنه دائماً ما يوجد شخص محدد داخل الأسرة هو الذي يثير فيها الفوضى والاضطراب، وكان يقوم رمزياً أثناء الجلسة بعزل المحرض أو مثير المشكلات بأن يبعده في جلسته عن الآخرين ببضع أقدام. بالتدريج كان أعضاء الأسرة الآخرون يدركون أن هذا الشخص المعزول هو مصدر ما يواجهونه من مصاعب. بمجرد أن تتعرف على المحرض وتلفت إليه أنظار الآخرين تكون قد حققت إنجازا كبيراً. ولتفهم أن قدرتك على التعرف على من يتحكم بآليات الجماعة تعد من المهارات التي لا غنى لك عنها، ولا تنس أن المحرضين يحققون أهدافهم بالذوبان بين الآخرين وإخفاء أفعالهم وسط استجابة الجماعة للمواقف التي تواجهها، وإن أظهرت للآخرين ما يفعله هؤلاء المحرضون تكون قد أجهضت جهودهم وتخلصت من إزعاجهم.

من العناصر الأساسية في أي لعبة استراتيجية في أن تعزل قوي الخصم: في الشطرنج تحاول أن تحاصر الملك، وفي لعبة جو الصينية (أو ويجي اليابانية) يكون غرضك هو عزل قوات المنافس في جيوب صغيرة تشل حركتها وتجعلها عاجزة عن التهديد. وفي أغلب الأحوال يكون أفضل لك أن تعزل عدوك بدلاً من أن تدمره، لأن ذلك أقل وحشية ويأتي بنفس النتيجة لأن في لعبة السطوة العزلة تعني الموت.

أفضل الطرق لعزل الخصم هي أن تقطع بينه وبين قاعدة سطوته. حين كان ماو تسي تونج يريد أن يتخلص من أحد خصومه من الصفوة الحاكمة لم يكن يهاجمه مباشرة بل يعمل بصبر وخلسة لعزله بزرع الفرقة بين حلفائه وإبعادهم عنه وتقليص دائرة من يدعمونه، وبسرعة يسقط الرجل بنفسه.

للحضور أهمية قصوى في لعبة السطوة. وفي الإغواء خاصة في مراحله الأولى عليك أن تكثف حضورك أو أن تخلق لدى من تريد أن تؤثر فيهم الشعور بحضورك الدائم، وإن تكرر غيابك يزول تأثيرك عليها. كان لدى روبرت سيسل رئيس وزراء إليزابيث ملكة إنجلترا منافسان أساسيان في حظوة الملكة هما العزيز الحالي لديها إرل إسكس وعزيزها السابق السير والتر رالي. دبَّر سيسل إبعاد الرجلين معاً بإرسالها في حملة ضد إسبانيا، وبغيابها استطاع أن ينشر شباکه حول الملكة وأن يؤكد مكانته كبير مستشاريها وأن يقلل من تعلقها باني والإرل. الدرس هنا مزدوج: أولاً غبابك عن المشهد يعرضك للخطر، وعليك أن لا تختفِ أبداً في وقت التوترات لأن غيابك يرمز إلى فقدانك للسطوة وفي النهاية يفقدك السطوة بالفعل. ثانيا يمكنك أن تستدرج خصومك للابتعاد عن المشهد في اللحظات المصيرية وسيحقق لك ذلك أفضلية كبيرة.

عزل الآخرين له فوائد استراتيجية أخرى. حين تريد أن تفتن شخصاً أو تغويه لفعل شيء يكون من الحكمة أن تبعده عن واقعه الاجتماعي المألوف؟ فذلك يجعله أكثر عرضة لتأثيرك، ويجعل حضورك لديه طاغيا، كان المحتالون الكبار يجدون الوسيلة لعزل فرائسهم عن وسطهم الاجتماعي المعتاد ويأخذونهم لبيئة لا تشعرهم بالطمأنينة والارتياح، فهذه البيئة تشعرهم بالضعف ويسهل عليهم تصديق خداعك. العزل إذن وسيلة قوية لوضع الآخرين تحت تأثيرك لإفتانهم أو خداعهم.

ستجد الكثيرين من أصحاب السطوة يعزلون أنفسهم عن رعيتهم، لأن السطوة تصيبهم بالغرور وتشعرهم بأنهم أعلى من الآخرين أو لأنهم يفقدون براعة التواصل مع عامة الناس، تذكر أن ذلك يضعفهم ومهما كانت سطوتهم سيسهل عليك أن تستغل نقطة ضعفهم هذه.

استطاع الراهب الروسي راسبوتين أن يفرض سطوته على القيصر نيقولاس والقيصرة ألكسندرا باستغلال عزلتها الشديدة عن شعبها. ألكسندرا بالأخص كانت أجنبية وبعيدة عن عامة الناس، وتمكن راسبوتين أن يستفيد من أصوله الريفية ليشبع رغبتها في التواصل مع رعيتها ونال بذلك حظوة كبيرة لديها. وهكذا وحين دخل راسبوتين إلى دائرة السطوة وضع عينيه على الشخصية الأولى التي تملك الأمر والنهي في روسيا (فقد كانت القيصرونة متسلطة على زوجها) ، ولم يكن في حاجة إلى عزلها لأنها كانت بالفعل معزولة عن الآخرين. يمكنك باستخدام استراتيجية راسبوتين أن تحقق سطوة عظيمة: ابحث عن الأشخاص الذين يحتلون مناصب رفيعة والذين يعزلون أنفسهم عن من حولهم، فهم كالتفاح الناضج الذي يتساقط بين يديك، والذين من السهل عليك أن تفتنهم ومن السهل عليهم أن يرفعوك إلى أعلى درجات السطوة.

أخيرا فإن الحكمة في ضربك للراعي أن ذلك يخيف الخراف ويخضعهم لك بشكل أكبر مما تتخيل. حين قاد فرناندو کورتيز و فرانسيسکو بيزارو قواتها الصغيرة ضد إمبراطوريتي الأزتك والإنكا لم يرتكبا خطأ الحرب على جبهات متعددة ولم تخفهم الأعداد المحتشدة ضدهما بل أسرا الملكين موكتزوما وآتاهوالبا، وبسقوطها لم يعد لدي رعيتها من يجمعهم وتشتت جهودهم. أسقط القائد واستغل تشوش الرعية لتحقيق السطوة التي تريدها.

الصورة: قطيع الخراف السمان

لا تضيع وقتك الثمين في اقتناص خروف أو اثنين. ولا تخاطر بحياتك بمهاجمة الكلاب التي تحرس القطيع، بل استدرج الراعي بعيداً وسوف تتبعه الكلاب وحينها ستتساقط الخراف في يدك واحدا بواحد.

اقتباس من معلم: إن أردت قوساً خذ الأقوى، وإن أطلقت سهماً فليكن الأطول. ولكي تضرب الفارس صوب على الفرس. وإن أردت أن تبيد عصابة اقتل الرئيس لأن من الصعب أن تقتل الجميع. وإن كان يمكنك أن توقف هجوم عدوك (بالقضاء على القائد) فماذا يفيدك أن تثخن في القتل؟. (الشاعر الصيني تو فو، أسرة تانج، القرن الثامن).

عکس القاعدة:

کتب مكيافيللي «حين تريد أن تضرب شخصاً اضربه الضربة التي لا تسمح له أن يعود لينتقم منك». وإن سعيت لعزل عدو أحرص على أن تفقده الوسائل التي تمكنه من أن يرد لك الضربة. ولا تطبق القاعدة التي ذكرناها في هذا الفصل إلا أن كنت تملك السطوة والوضع الذي يؤمنك من انتقام خصمك.

رأى أندرو جونسون الذي خلف إبراهام لنكولن على رئاسة الولايات المتحدة أن أوليسيس س. جرانت عضو مزعج في حكومته وبدأ في عزله لإجباره على التنحّي، ولكن ذلك أغضب الجنرال العظيم جرانت وجعله يُكَوِّن قاعدة تدعمه في الحزب الجمهوري وتمكن من الفوز بالرئاسة في الانتخابات التالية. كان من الأكثر حكمة بكثير أن يحافظ على رجل مثل جرانت تحت عباءته بدلاً من أن يؤذيه ويدفعه للانتقام، ومن الأفضل لك غالبا أن تحتفظ بالناس في صفك لتتمكن من مراقبة أفعالهم عن أن تجعلهم خصوماً غاضيين يرغبون في الانتقام منك. قرِّب الآخرين منك ويمكنك حينها أن تُفَتِّت سراً القاعدة التي تدعمهم بحيث إن أتى الوقت الذي تريد فيه أن تتخلص منهم ستتمكن من إسقاطهم بسرعة قبل حتى أن ينتبهوا لما يحدث لهم.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق