الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

• السَّمَر على أنواعه


السَّمَر

كنت مشغولاً بموضوع أسامركم به في أمسية قراءتكم هذه السطور، أحاول أن أستدرجكم بعيداً عن القلق والتوتر والضجيج المتراقص مع مشاهد الدم الصارخ في شراسة العنف الحديث على شاشات التلفزيون، فإذ بي أتسمّر أمام وجه بالغ العذوبة السمراء:

سيدة - امرأة أفضل - تتسلق بعينيها أرقام بيوت الشارع، فتحركت نحوها مبتسماً، وبعد أن أشرت لها على المنزل البعيد الذي تبحث عنه، ودون أن ينطلق من فمها حرف واحد: انبثق إشعاع من عينيها السمراوين - لم أقل السوداوين - في امتنان، بعدها أحسست بانشراح صبياني يسعى بين جوانحي بحثاً عن سمر قديم - مفقود - كنا نسترخي نحن الأصدقاء تحت عذوبة ضوئه الخافت، والرقيق، والهامس، والمفعم بالمرح والحبور... أيضاً.

وأهم عناصر السمر: مسك السيرة، أي الكلام المرتبط بالغائبين، وهي مسألة مكروهة أخلاقياً ودينياً. إلاّ أن إثبات المقصود هنا على النحو الشرير يفسد علينا أنواعاً تخرج من مجالس السمر إلى صفحات الجرائد والمجلات والقصص والأغاني، مسك السيرة على النحو الطيب يخرجنا من الإحساس بالذنب، مع أن ثلاث مدن دخل السمر في خلايا تكوينات أسمائها:

- أسمرة عاصمة أريتريا على البحر الأحمر، والتي كانت في اتحاد مع إثيوبيا - الحبشة قديماً - ثم انفصلت، وسامراء العراقية على نهر دجلة ولا تزال بها أطلال مدينة سامراء العباسية التي أنشئت زمن الخليفة المعتصم، ولا يــزال باقــياً مــن أطــلالــهـا - أو مـن آثـارهــا-دار الخليفة المتوكل، والمنارة الملتوية على مسجدها، وفيها ضريحا الإمام علي الهادي وولده حسن العسكري، وعندها يقع سدّ سامراء، أما الثالثة التي تخضع عنوة للسمر فهي السامرة: منطقة بفلسطين تكثر بها التلال المستديرة، ويغلب عليها المظهر الجبلي رغم أن كثيراً من السهول تتخللها بوديانها الصغيرة. وفور الخروج من السمر الجغرافي فسوف نقع في تاريخ السامري: ذلك الإسرائيلي الذي أضل قومه في غياب النبي موسى، وأمرهم بأن يلقوا بما يحملون أو يحتفظون من حلي في النار، وصنع لهم عجلاً من ذهب تصدر منه أصوات غريبة بفعل الرياح، ودعاهم لعبادته فعبدوه، ولمّا رجع النبي موسى من غيابه كشف عن حيلة السامري ونفاه قال فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامري، ولا يزال اليهود - حتى اليوم - يسعون في العالم بحثاً عن العجل الذهبي ليعبدوه. والذي يراجع التاريخ القديم، والعصور الوسطى - في أوربا بالذات - سوف يجد السامري لايزال مهيمناً، والذي كان شيلوك الدموي في تاجر البندقية عند شكسبير رمزاً مكثفاً وبسيطاً وجميلاً له.

وبحثاً عن سمر آخر أقل ضغطاً على الأعصاب فإن الأسمر كان شاعراً مصرياً عرفنا قصائده الجميلة ونحن تلاميذ، ولم أجد تعريفاً له فيما أملك من كتب ومراجع، أما الأسمر والسمراء - صفة للمحبوب، فقد امتلأت بها القصائد وإن غلبتها الأغاني منذ تغنى بأنواعها فايزة أحمد وعبدالغني السيد وعبدالحليم حافظ (سمراء يا حلم الطفولة)، أما الأسمران فهما الماء والبُرّ - أي حبوب القمح ويقال: سمرت الماشية النبات: أي رعته وأكلته. وسمر اللبن أي أصبح سماراً صفة للبن المخلوط بالماء ويطلق أيضاً على لبن الظبية لأنه خفيف الكثافة. كما أن السمار نبات رقيق بأوراقه وسيقانه الممتدة طولاً تصنع منه أنواع من الحصير والسلال في مصر، وكان هذا النوع من حصير السمار يغطي أرض حجرات ومصاطب السمر ذات عصر - وقد بقي منه في بعض البيوت الحديثة قليل. وبين سمار الفرش وسمّار الجلسات في مجلسهم كان اللفظ أيضاً يطلق على ضوء القمر - هل رأيت ما هو أكثر رومانسية من ذلك؟!! وأليس ذلك وراء انتشار أسماء سميرة وسمير في أهلنا؟؟

لكنك إن ضممت ميم السمر فإنه يعني نوعاً من شجر الطلح الذي ترعاه الإبل دون المواشي، وينبت في السهول وبعض التلال تلقائياً. أما إذا وصفت العام بأنه أسمر فإنه يكون جدباً شديد القفر من الجفاف، فإذا تدخل المسمار - هذا المصنوع مدبباً من الحديد كما تعرف - في المسألة فإنه يستولي على السمر ليصبح تسميراً، وسمّر الخشب وغيره: شدّه بالمسمار المشار إليه وثبته بالدق على رأسه.

وفي الأعوام الأخيرة بدأت أشواقنا للسمر تطرف في عيون الشوق إلى الماضي، فظهرت كلمة السمر في برامج التلفزيون التي تسعى إلى أن تكون هادئة هامسة، ثم مسرح السامر الذي يروم تقديم الأمسيات ذات الصدى الشعبي في مسرحياته وتمثيلياته، مع أنني لاحظت أن معظمها يبدأ سمراً ثم لا يلبث أن يقع صريع ضجيج الطقوس والطبول ورغبة المسامرين أن يقلقوا أمثالنا، مع أن السمر نسيم عليل يرتاح العقل المتعب في وجدانه الهادئ، هذا الذي أراح شهريار الدموي ليغفو في الحلم الجميل الذي احتوته به شهرزاد.

المصدر: مجلة العربي (محمد مستجاب)

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق