الأربعاء، 25 مايو 2022

• الإنفلونزا الإسبانية الكارثة التي غيرت العالم


الإنفلونزا الإسبانية

اجتاحت العالم في عام 1918 واحدة من أسوأ الكوارث المعروفة في التاريخ المعاصر، نجم عنها موجة من الموت الجماعي لم تعهدها البشرية منذ حقبة االموت الأسودب، الذي دهى أوربا إبّان العصور الوسطى.

كانت هذه الجائحة - بحسب تعبير توبنبرغر  وهورنز - بمنزلة اأم الجوائحب، وقد عرفت في الأدب الطبي باسم االإنفلونزا الإسبانيةب، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك ما يربطها فعلا بإسبانيا، فإنها اكتسبت تسميتها تلك لأن صحافة هذا البلد المحايد تابعت أخبار  المرض دونما قيود، بخلاف صحافة الدول المتحاربة التي أُخضِعت أخبارها لرقابة صارمة. وبحساب بارد للربح والخسارة، نجد أن من أبلغ آثار هذه الكارثة عمقًا - إلى جانب ملايين الأنفس التي زهقت - تلك الثورة التي حدثت في طريقة تفكير  المهتمين بقضايا الصحة العامة، وبالوقاية من جوائح الأمراض المعدية على نحو خاص.

حدثت الهجمة الأولى من جائحة الإنفلونزا الإسبانية في ربيع عام 1918، وكانت موجة معتدلة بعض الشيء، فهي لم تكن أسوأ من الإنفلونزا الموسمية المعتادة، لكن الموجة الثانية التي ضربت العالم في خريف ذلك العام كانت بالغة العنف، ولم يصدق أحد أنها عين المرض الذي خبروه آنفًا.

فقد تسببت في وفاة نسبة عالية من المرضى بلغت 25 ضعف ما حصدته جوائح الإنفلونزا السابقة، مع زيادة نسبية للوفيات في أوساط الشباب الأصحاء، وهو على النقيض مما يحدث عادة في سياق هجمات الإنفلونزا الموسمية، حيث تتركز الوفيات في الشيوخ والأطفال.

ومع أن مسار المرض في بدايته لم يتجاوز المعتاد من صداع وحمى وألم في الحلق، إلّا أنه سرعان ما كان يتطور إلى الأسوأ عندما يصاب المريض بصعوبة في التنفس والزرقة ونزوف الطرق الهوائيةً، فسوائل الالتهاب التي تغمر رئتيه تمنعهما من تلقي ما يلزم من الهواء لاستمرار الحياة، وينتهي به المطاف في أحضان موت محتم خلال أيام إن لم يكن ساعات.

وقريبًا من نهاية العام انحسرت هذه الموجة الثانية، لكن بداية عام 1919 شهدت موجة ثالثة كانت وسطًا في شدتها بين الهجمتين السابقتين. وقُدّرت حصيلة ضحايا هذه الكارثة بين 50 و100 مليون نسمة( وهو ما يعادل 2.5 إلى 5 في المئة من مجمل سكان العالم آنذاك).

ولتوضيح فداحة هذه الأرقام، يكفي مقارنتها بما حصدته الحربان العالميتان الأولى حوالي 18 مليونًا والثانية حوالي 60 مليونًا.

وقد تفاوتت نسب الإصابة بالمرض والوفيات الناجمة عنه بحدة بين أصقاع الأرض المختلفة، وذلك لمجموعة معقدة من الأسباب التي لا يزال الباحثون في حقل الدراسات الوبائية يختلفون حولها. وكالمعتاد تحمل فقراء العالم معظم عبء الكارثة، إلّا أنّ النخب لم تنج هذه المرة من بعضه.

فيروس الإنفلونزا

تنجم الإنفلونزا - كما هو معروف لنا الآن - عن الإصابة بفيروس يتناقله الناس بوساطة الهواء المحمّل برذاذ من عطاس المريض أو سعاله، لذا فهو ينتقل بسهولة بين ساكني مدن الصفيح المزدحمة أو في خنادق القتال والمعسكرات.

وقد كان هذا الفيروس شديد الفوعة على نحو خاص وذا قدرة عالية على الانتشار، فأصاب ما يقرب من خُمُس البشرية، وتسبب في هلاك عشرات الملايين في عام واحد. ومما زاد في العجز عن مواجهته، غياب الفحوص المخبرية التي تكشفه والصادّات التي تفتك به والتطعيمات التي قد تقي منه.

أضف إلى ذلك أن نظام الإبلاغ عن الإصابة بالإنفلونزا لم يكن أمرًا مفروضًا على الأطباء آنذاك، وهذا ما حرم السلطات الصحية من رؤية الكارثة القادمة.

لقد كان باستطاعة وسائل الوقاية الصحية العامة كالحَجْر الصحي أو إغلاق أماكن التجمعات أن تحدث فرقًا فيما لو استخدمت مبكرًا وبالكفاءة اللازمة، لكنها حتى عندما استخدمت جاء ذلك متأخرًا وغير ذي جدوى.

الدرس القاسي

كان عالم الطب في بدايات القرن العشرين، وبخاصة في دول العالم الصناعي، مختلفًا تمامًا عما هو عليه اليوم، إذ لم تكن هناك نظرة موحدة ذ ولا شبه موحدة - للممارسة الطبية، ولا لطريقة تقديم الرعاية الصحية المثلى؛ فالأطباء يمارسون مهنتهم فرادى أو في مؤسسات تمولها جمعيات خيرية، بينما يفتقر معظم المرضى إلى الوسيلة اللازمة للحصول على خدماتٍ هم في أمسّ الحاجة إليها.

أما سياسات الصحة العامة، فقد كانت في غالب الأحوال مصبوغة بأفكار عنصرية تتمحور حول مفهوم النقاء العرقي؛ إذ اعتادت النخب أن تنظر إلى جموع العمال الفقراء على أنهم صنف أدنى من البشر تعرضهم وضاعتهم الطبيعية للأمراض والعاهات.

ولم يخطر ببال هذه النخب المستعلية أن تمعن النظر ولو قليلًا في الأسباب المؤدية للأمراض، والمتمثلة في الظروف المزرية التي تعيش فيها طبقات المجتمع الدنيا من مساكن مكتظة وساعات عمل طويلة وغذاء سيئ. بل إن أنصار النقاء العرقي كانوا يجادلون دومًا بأن هؤلاء البؤساء هم من يتحمل المسؤولية كاملة عما هم فيه، لأنهم - بزعمهم - كسالى ولا يتمتعون بالحافز للحصول على حياة أفضل.

لذلك - وفي سياق جائحة ما - كان مفهوم الصحة العامة في ذلك الزمان لا يتعدى مجموعة الإجراءات التي صممت لحماية هذه النخب من أن يصيبها التلوث المنتقل من هؤلاء االرعاعب المثقلين بالمرض.

لقنت هذه الجائحة درسًا قاسيًا للسلطات الصحية حول العالم، التي أيقنت على إثرها أنه ليس من المنطق في شيء أن نلوم فردًا ما لإصابته بمرض معدٍ، ولا أن نعالجه بمعزل عما يجري من حوله.

كانت هذه بداية التحول نحو مفهوم جديد للصحة العامة يتميز بتقديم الرعاية الصحية للجميع دون تمييز، وقد شهدت عشرينيات القرن الماضي حركة نشيطة نحو اعتناق عدد من الحكومات لهذا المفهوم. وكانت روسيا البلشفية سبّاقة في هذا المجال، إذ وضعت نظامًا مركزيًا للرعاية الصحية العامة مولته الدولة عبر نظام تأمين خاص، وسرعان ما حذت دول أوربا الغربية حذوها.

أما الولايات المتحدة فقد سلكت طريقًا آخر، حيث فضلت اللجوء إلى نظام تأمين صحي تحمل أرباب العمل نفقاته، إضافة إلى القيام بإجراءات أخرى لتعزيز نظامها للرعاية الصحية.

كيف تغير العالم؟

في غضون سنوات، وتحديدًا في عام 1924، أعلنت الحكومة السوفييتية عن رؤيتها لطبيب المستقبل، الذي ايتمتع بالقدرة على دراسة الظروف المهنية والاجتماعية التي تتسبب في المرض، وألّا يعالجه بقصد الشفاء فحسب، بل يقترح وسائل الوقاية منهب.

 وقد وجدت هذه الرؤية قبولًا تدريجيًا لدى دول العالم الأخرى وفي الأوساط الطبية والأكاديمية. ولم يعد الطب الحديث مقتصرًا في ممارسته على الأبعاد الحيوية للمرض, بل أخذ يبحث في متعلقاته الاجتماعية أيضًا.

وهكذا بدأت مفاهيم الصحة العامة تترسخ وتقترب مما نحن عليه اليوم.

ولأن علم الوبائيات - الذي يدرس أنماط الأمراض وأسبابها وآثارها - هو حجر الزاوية في بناء الصحة العامة، فإن الخطوة الأولى في حماية المجتمع تستدعي جمعًا منهجيًا ومستمرًا للمعلومات الصحية ذات الصلة، وهذا ما دعا الولايات الأمريكية جميعها إلى أن تنتظم بحلول عام 1925 في شبكة وطنية واسعة للتبليغ عن الأمراض، كما أخذ نظام الإنذار المبكر - الذي كان منعدمًا خلال جائحة 1918 -  في التشكل. وفي محاولة جادة للحصول على فهم أفضل للواقع الصحي، خضع مواطنو الولايات المتحدة بعد عقد من الزمان إلى أول مسح صحي على مستوى الأمة.

وفيما يشبه الرد المباشر على كارثة كشفت عوار المؤسسات الصحية وضرورة السعي لإصلاحها، تعاقبت دول العالم في عشرينيات القرن الماضي على إنشاء وزارات للصحة أو تطوير ما كان قائمًا منها، كما ترسخت قناعة في معظم الأوساط المعنية بالصحة العامة، ترى وجوب تنسيق الجهود لمحاربة المرض حول العالم، فالأمراض المعدية عند انتشارها لا تعبأ بحدود الدول ولا تكترث بالأنظمة السياسية القائمة.

 وقد شهد عام 1919 نشوء المجلس العالمي لمحاربة الأوبئة في العاصمة النمساوية فيينا، وهو الهيئة التي مهّدت لقيام منظمة الصحة العالمية فيما بعد.

وإثر ظهور منظمة الصحة العالمية، خبا صوت أدعياء النقاء العرقي، ونادى دستور المنظمة الجديدة بالتعاطي مع قضايا صحة المجتمع بروح من الالتزام وبطريقة أكثر عدلًا، وعبر عن ذلك بالقول: اإن التمتع بأفضل مستوى للصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان، دون التمييز في ذلك على أساس من العرق أو الدين أو القناعات السياسية أو الحالة الاقتصادية أو الاجتماعيةب. كما أن االحكومات مسؤولة عن صحة شعوبها، ولا يمكن الوفاء بهذه المسؤولية إلا باتخاذ تدابير صحية واجتماعية كافيةب.

وبالطبع، فإن هذه الفلسفة لن تمنع من حدوث المرض ابتداء أو تحد لاحقًا من انتشار الأوبئة، لكنها ستعدل بكل تأكيد من طريقة مواجهتها وتجعلها أكثر نجاعة، فالجوائح الصحية أولًا وأخيرًا هي مشكلة المجتمع كله لا بضعة أفراد .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

ذوو الإعاقة واقعهم وتحدياتهم في العمل

ست خطوات لتصبح أكثر استقلالية وأقل اعتمادية

لماذا يتصرف طفلي بقلة احترام؟

كيفية التصرف خلال مقابلة العمل

ابن بطوطة أشهر رحالة في تاريخ الإسلام

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق