المقدمة
في رقة التعبير وجزالة المعنى، تسطع قصيدة "يا ليل الصب" كدرّة بين درر الشعر العربي الغزلي. هي صرخة قلب متيم، تنساب كهمس حزين في سكون الليل، فيبوح الشاعر بوجدٍ شفيفٍ يلامس القلوب. يتهادى بين أنين العاشق وسهاد المحبّ، وتنبض أبياتها بأشواق الفؤاد الصابر. في هذا الشرح، نغوص في أعماق هذا النص الرائع، نكشف أسراره، ونفك رموزه، بلغةٍ أدبيةٍ عالية، تليق بجمال القصيدة وروعة صورها.
القصيدة
مع شرحها الأدبي:
يَا
لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ * أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ
يبدأ
الشاعر مناجاته الليل بنداء تفيض فيه الحسرة، ويسأله عن نهاية هذا السهر المضني،
متى سيحين صباحه؟ كأنما انتظار لقاء الحبيب عنده كقيام الساعة، لا يعلم ميعاده إلا
الله، أو لعله لن يأتي أبدًا!
رَقَـدَ
السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ * أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ
يمضي
الليل ثقيلًا على الشاعر، بينما نام الناس وسُمار الليل، بقي هو يقلب الأسى في
صدره، يعاوده وجع البعد ويجدد فيه لهيب الحنين، فأرّقه الفراق وأطار النوم من
عينيه.
فَبَكاهُ
النَّجْمُ ورَقَّ لـهُ * ممّا يَرْعَاهُ ويَرْصُدُهُ
وها
هو يرفع طرفه إلى السماء، يرصد النجوم، ويتأملها، فيجدها – كأنها – تشاركه حزنه
وتبكي لأجله رقّةً وعطفًا على حاله.
كَلِفٌ
بِغَزَالٍ ذي هَيَفٍ * خَوْفَ الوَاشِينَ يُشَرِّدُهُ
يعترف
بسره للّيل: هو مغرمٌ بغزالٍ فتانٍ، ممشوق الخصر، رقيق القوام. لا يراه إلا من
بعيد، لأن محبوبه يتحفظ ويهرب خوفًا من لسان الواشين وسهام النميمة.
نَصَبَتْ
عَيْنَايَ لَهُ شَرَكَاً * في النَّوْمِِ فَعَزَّ تَصَيُّدُهُ
إذ
استعصى لقاؤه في اليقظة، نصب له الشاعر شركًا في المنام، علّه يراه في الحلم، لكنه
كالغزال، صعب المنال حتى في الأحلام.
وَكَفَى
عَجَبَاً أنِّي قَنِصٌ * للسِّرْبِ سَبَانِي أَغْيَدُهُ
يعجب
من نفسه! فقد كان ماهرًا في صيد الغزلان، لكنه أمام هذا الغزال اللدن، لم يصطده،
بل استُدرج إليه وسُبي قلبه!
صَنَمٌ
للفِتْنَةِ مُنْتَصِـبٌ * أَهْوَاهُ وَلا أَتَعَبَّـدُهُ
جماله
قد بلغ حدّ الفتنة، كأنه صنم فُتن به الناس، غير أن الشاعر – على شدة حبه – لا
يعبد إلا ربّه، فحبّه طاهر، خالٍ من الشرك.
صَاحٍ
والخَمْرُ جَنَى فَمِهِ * سَكْرَانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
معشوقه
لا يشرب الخمر، ومع ذلك يُقطّر من فمه خمر الفتنة، وعينه سكرى عربيدة، تعبث بمن
تنظر إليه، دون ضوابط أو حدود.
يَنْضُو
مِنْ مُقْلَتِهِ سَيْفَاً * وَكَأَنَّ نُعَاسَاً يُغْمِـدُهُ
نظراته
كسيفٍ مسلول، يلمع في عينه، غير أن النعاس الناعم الذي يكلّل جفنه يرده إلى غمده،
فيخمد سيف النظرات المميتة.
فَيُرِيقُ
دَمَ العُشَّاقِ بِـهِ * والويلُ لِمَنْ يَتَقَلَّـدُهُ
ومع
ذلك، يهدر دم العشاق بعينه، وويلٌ لمن تعلق بنظراته أو علق بها قلبه؛ فالنظر إليه
هلاك محقق.
كَلاّ،
لا ذَنْبَ لِمَنْ قَتَلَتْ * عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَـدُهُ
لكنّ
الشاعر يبرّئه من الدم، فليس قاتلًا بيده، إنما سُلبت الأرواح بنظره، فهل يُحاسب
المرء على فتنة عينه؟!
يَا
مَنْ جَحَدَتْ عَيْنَاهُ دَمِي * وَعَلَى خَدَّيْهِ تَـوَرُّدُهُ
خَدَّاكَ
قَدْ اعْتَرَفَا بِدَمِي * فَعَلامَ جُفُونُكَ تَجْحَدُهُ
يناجيه
قائلاً: كيف تنكر عيناك دماءي؟! أما ترى حمرة خديك، وكأنها اعتراف صريح بالقتل؟!
فما بال جفونك تجحد ما أقر به خدّاك؟!
إِنِّي
لأُعِيذُكَ مِنْ قَتْلِي * وَأَظُنُّكَ لا تَتَعَمَّـدُهُ
ثم
يصفو، ويخفّف التهمة، ويقول: لا أظنك تتعمد قتلي، بل أعوذ بك أن تكون قاتلي ولو عن
غير قصد.
بِاللهِ
هَبِ المُشْتَاقَ كَرَىً * فَلَعَلَّ خَيَالَكَ يُسْعِـدُهُ
يلتمس
من معشوقه شيئًا يسيرًا: فقط نومًا علّه يرى فيه طيف الحبيب، أو خياله، فيأنس به
ويُشفى بعض جرحه.
مَا
ضَرَّكَ لَوْ دَاوَيْتَ ضَنَى * صَبٍّ يُدْنِيكَ وَتُبْعِـدُهُ
يسأله:
ماذا يضرك لو داويت عشقًا أتعبني؟! ألم ترى كيف أقترب منك وأنت تصدني بلا رحمة؟!
لَمْ
يُبْقِ هَوَاكَ لَهُ رَمَقَاً * فَلْيَبْكِ عَلَيْهِ عُـوَّدُهُ
حبّك
أتى على آخر رمق في حياتي، فدعوهم – زوّاري في مرضي – يبكوني على فراش الشوق
المُميت.
وَغَدَاً
يَمْضِي أَوْ بَعْدَ غَدٍ * هَلْ مِنْ نَظَرٍ يَتَزَوَّدُهُ
غدًا
أو بعد غد، سيمضي العمر، فهل من لحظة، من نظرةٍ أرتوي بها قبل أن يأخذني الرحيل؟!
يَا
أَهْلَ الشَّوْقِ لَنَا شَرَقٌ * بِالدَّمْعِ يَفِيضُ مُوَرَّدُهُ
ينادي
العشاق ويشاركهم لوعته: يا قوم، إني أشرقُ بدمي، دمعي يجري كالنهر من حرقة الشوق،
فهل منكم من بَلغ به الوجدُ ما بلغ بي؟!
يَهْوَى
المُشْتَاقُ لِقَاءَكُمُ * وَصُرُوفُ الدَّهْرِ تُبَعِّدُهُ
يحبكم
العاشق ويريد وصلكم، ولكن أقدار الزمان تباعده، تذريه كأوراق الخريف عن حبيبه.
مَا
أَحْلَى الوَصْلَ وَأَعْذَبَهُ * لَولا الأَيَّامُ تُنَكِّـدُهُ
بِالبَيْنِ وَبِالْهِجْرَانِ ، فَيَا * لِفُؤَادِي
كَيْفَ تَجَلُّدُهُ
كم
هو لذيذ الوصال، وكم هو عذب اللقاء، لولا نكد الأيام التي تفرق وتبعد! وكيف لقلبٍ
مثقوب أن يتجلّد في وجه هذه الهجرات المتكررة؟!
الحُبُّ
أَعَفُّ ذَوِيهِ أَنَـا * غَيْرِي بِالْبَاطِلِ يُفْسِدُهُ
وفي
ختام هذا النشيد الوجداني، ينقش الشاعر توقيعه بشرف العفّة: أما أنا، فحبي طاهر
نقي، أعفه وأصونه، بخلاف من يدّعي الحب ويفسده بالباطل والتعدي على حرمة من يحب.
الخاتمة
هكذا
تتهادى قصيدة "يا ليل الصب" كأنها ترنيمة صوفية تتغنى بصفاء العشق
وعذوبة العفة. هي أنين محبٍ متجلّد، لم تفسده الشهوة، ولم تُرهقه الرغبة، فظلّ
وفيًا لحبه، صابرًا على فراقه، طاهرًا في وجدانه. قصيدة تمزج بين السمو الأخلاقي
والتعبير الجمالي، فتغدو مثالًا خالدًا في ديوان العشق العذري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق