الأحد، 2 ديسمبر 2012

• الغزل فى العصر الأموي: خصائصه وأهم شعرائه


       في دراستنا للقصيدة العربية التقليدية في العصر الجاهلي، نجد التركيز على مقدمتها وهي في عمومها: غزل إن كانت وصفا لطلل أو لطيف أو نسيب، ولا تكاد تخلو مطولة من غزل، نراه في مقدمتها أو في ثتاياها، ولكنه لم يكن غرضًا مقصودًا لذاته، بل كان غرضًا من ضمن أغراضها المتعددة. نراه عفيفًا عند بعض الشعراء كعنترة العبسي، كما نراه فاضحًا إباحيًا عند آخرين كامرئ القيس.

حافظ الشعراء على هذه الصورة في شعرهم التقليدي من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، نراه في قصائد لشعراء في صدر الإسلام كقصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول والتي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول          متيم إثرها لم يفد مكبول
ونراه في عصر بني أمية عند الفرزدق والأخطل وجرير وغيرهم. يقول جرير في مطلع إحدى مطولاته:
لمن الديار كأنها لم تحلل       بين الكناس وبين طلح الأعزل
مرورًا بالشعر العباسي والأندلسي إلى عصرنا هذا، نجد الشعراء المحافظين على عامود القصيدة التقليدية ملتزمين بالمقدمة الطللية في مطولاتهم كالبارودي وشوقي وغيرهم.
لكن شعر الغزل تطور منذ عصر بني أمية وأصبحت له صورة أخرى لم تكن من المطولات، إنما كانت في أكثرها مقطوعات، ولم تكن غرضًا ضمن أغراض أخرى بل أصبح فنا قائما بذاته، لا يقال لينشد، وإنما ليغنى. وأصبح لشعر الغزل نكهته الخاصة في كل عصر من العصور. ولنا وقفة معه ومع شعرائه في عصر بني أمية .
لا يختلف اثنان من دارسي الأدب العربي على أن شعراء الغزل في العصر الأموي فريقان: شعراء الحواضر ويقصد بهم شعراء مكة والمدينة ويصنف شعرهم على أنه شعر صريح فاضح، وشعراء البوادي وهم شعراء بوادي الحجاز ونَجْد، كبني عذرة وبني عامر، وتميز شعرهم بنقائه وعفته الغزل العفيف .
شعراء الغزل العفيف:
من يقرأ كتاب الأغاني للأصفهاني يجد أخبارًا كثيرة تصور حب سكان مكة والمدينة للغناء، وكيف عاش الشعراء للحب والغزل، فانشدوا المقطوعات الغزلية التي تتناسب والغناء، ولذا نجد هذا الفن قد تطور في هذا العصر- بتأثير الغناء - تطورًا واسعًا، ومن مظاهر هذا التطور: أنه أصبح فنًا قائمًا بذاته، ولم يعد غرضًا من أغراض القصيدة المتعددة. وأصبحت كثرته مقطوعات قصيرة. وقد عدل الشعراء إلى الأوزان الخفيفة من مثل بحر الرمل والسريع والخفيف والمتقارب، واستعمال الألفاظ العذبة السهلة، كما أصبح في غالبه تصويرًا لأحاسيس الحب ولم يعد بكاءً على الأطلال .
لم يكن شعراء مكة والمدينة جلهم من شعراء الغزل الصريح، فقد كان منهم أصحاب تقوى وعفاف وورع، فكان شعرهم نقيًا طاهرًا مثل: عبد الرحمن بن عمار الجشمي، وعروة بن أذينة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
شعراء الغزل الإباحي
ولكن شعراء الغزل الإباحي الفاضح هم الجمهور الأكبر، وهم الذين ذاع صيتهم وانتشرت أخبارهم، وعلى رأسهم عمر بن أبي ربيعة والأحوص، والعرجي .
ولا يسعنا إلا التعرض لبعض الشعراء الامويين الذين برعوا فى فن الغزل وفى مقدمتهم عمر بن ابى ربيعة... هذا الشاعر الخطير الذى يعد من أشهر الشعراء فى التاريخ العربي.
عمر بن أبي ربيعة
نسب عمر وعشيرته وأهله
هو عمر بن أبي ربيعة المغيرة، ويغلب عليه أن ينسب إلى جده. فيقال ابن أبي ربيعة، وكنيته المشهورة أبو الخطاب، وهو ينحدر من عشيرة مهمة في مكة، وهي عشيرة بني مخزوم، والتي كانت أحد البطون العشرة التي تؤلف قريش البطاح، وكان صوتها مسموعًا بين هذه البطون وفي مجلس شيوخها .
وما زال نجم المخزوميين يصعد أواخر العصر الجاهلي حتى أصبحت لهم شهرة مدوية في الجزيرة العربية، وخاصة هذا الفرع الذي نجم منه عمر، وكان آباؤه وأعمامه يعدون من سادة قريش الأولين، ومنهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة، وجده الذي كان بطلاً من أبطال قريش.
وكما تقدم المخزوميون بالشجاعة تقدموا أيضاً بالكرم وبذل المال، فقد كانوا من تجار مكة الميسورين. وفي هذه الأسرة يلمع اسم عبد الله بن أبي ربيعة، وكان تاجرًا موسرًا، وكانت مكة تسميه "العدل" لأنها كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، فأرادوا أنه وحده عدل لهم جميعًا، وكان اسمه بحيراً، فلما أسلم عام الفتح سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. ويقول أبو الفرج: إنه كان لعبد الله عبيد من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، وكان عددهم كثيرًا، وعرض على رسول الله أن يستخدمهم، ويستعين بهم، حين خرج إلى حنين، فأبى.
واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على الجند ومخاليفها في اليمن، فلم يزل عاملاً عليها حتى قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستعمله عثمان بن عفان رضي الله عنه أيضًا، وما زال والياً حتى توفي في أثناء حصاره عام خمسة وثلاثين.
حياة عمر وأخلاقه وصفاته
نشأ عمر في أسرة نبيلة، ويقال أنه ولد في العام الذي قتل فيه عمر بن الخطاب عام 23 هـ في مكة، ويظن البعض أنه من سكان المدينة ولكن الأرجح أنه مكي مولدًا ونشأة فهو يقول:
وأنا امرؤٌ بقرار مكة مسكني        ولها هواي فقد سبت قلبي
ولم يكد عمر يتجاوز الثالثة عشرة من عمره حتى توفي أبوه، وبذلك خلّى بينه وبين أمه الغريبة، فربّته كما تهوى، أو كما تربي أمٌّ سبيّة فتاها الثري ثراء مفرطًا، تترك له الحبل على الغارب ليتناول من اللهو كل ما تصبو إليه نفسه. فنشأ بتأثير غناه ودلاله مفتونًا بدنياه وبما حوله من ملاهيها، وما ينقصه؟ فداره تعج بالجواري والسبايا، التي كانت تكتظ بها دور نبلاء قريش حينئذ، وليس هناك طرفة من طرف الدنيا إلا وهو يستطيع أن يقتنيها، وأن يلهو بها ما شاء له هواه .
وكان عمر جميلاً، ولم يلبث أن تفجر في نفسه هذا الينبوع العذب، ينبوع الشعر، مع فتنة في الحديث ورِقَّة شعور ومزاج، فأصبح حديث الشباب، وكانت موجة الغناء حادة كما قدمنا، وكان الشعر هو القطرات التي تعقدها في أسماع الناس، وكان عمر يحسن إرسال هذه القطرات النفسية، فتعلّق به مجتمع مكة تعلقًا شديدًا .
لا غرو، فقد حشد ثراءه لفنه، فهو يصنع المقطوعة من شعره، ثم يطلب لها أروع المغنين في عصره، ليغنوه فيها لحنًا خالدًا، ويجيزهم جوائز مختلفة، فهذا ابن سريج يعطيه في تلحينه لإحدى مقطوعاته ثلاثمائة دينار، وهذا الغريض يعطيه في تلحين مقطوعة أخرى خمسة آلاف دينار، ويعطي جميلة في تلحين مقطوعة رابعة عشرة آلاف درهم .
وهكذا كانت حياة عمر في مكة حياة شعر وغناء خالص، ولم يكن للناس حينئذ من لهو سوى هذا الغناء وما يصاحبه من شعر، فدار اسم عمر على كل لسان.
نذر عمر حياته لهذا اللون من الغزل الصريح وأخضعه لفن الغناء الذي عاصره، إذ يستخدم الأوزان الخفيفة والمجزوءة، حتى يحملها المغنون والمغنيات ما يريدون من ألحان وإيقاعات كما يستخدم لغة سهلة، فيها عذوبة وحلاوة، حتى تفسح لهم في روعة النغم.
كان مجتمع مكة حينئذ تسوده ضروب من الحرية المهذبة في لقاء الرجال بالنساء، فبرزت المرأة للشباب ولكنها تحتفظ بحجاب من الوقار، وقد كانت هناك مواسم تكثر فيها هذه الطلبات- الظهور في مرآة شعره - على عمر وغيره من شعراء مكة، وذلك في مواسم الحج وإذ كانت تحشد فيها نساء العرب وفتياتهم، وكان الذوق العربي العام لا يمنع أن يشيد شاعر بجمال امرأة، بل لعل في هذه الإشادة ما يعرف بها وبجمالها، ولذلك كانت تطلبها المرأة العربية ولا تجد فيها غضاضة، بل على العكس كانت تجد فيها طرافة وإعلاناً عنها وتمهيدًا لأن يطلبها الأزواج.
وهذا الذوق العام هو الذي أشاع الغزل في المرأة العربية الشريفة، وأخذ عمر يستغله ويبعد في استغلاله لا في فتيات مكة ونسائها، بل في فتيات العرب جميعًا ونسائهم ممن يحججن إلى مكة وتقع عينه عليهن، وكأنما كانت عينه "عدسة" مكة في هذا العصر، فلا تمر امرأة إلا وتهب عين عمر، فيسجل صورتها، ومن هنا كنا نقرأ في شعره أخبارًا وقصصًا عن جميلات الحواج، مثل فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية، وزوجة أبي الأسود الدؤلي، وليلى بنت الحارث البكرية، ورملة بنت عبد الله الخزاعية وغيرهن الكثير...
الأحوص شاعر المدينة
هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري. من بني ضبيعة، لقب بالأحوص لضيق في عينه، شاعر إسلامي أموي هجّاء، صافي الديباجة، من طبقة جميل بن معمر، وكان معاصرًا لجرير والفرزدق.
وهو من سكان المدينة، وفد على الوليد بن عبد الملك في الشام فأكرمه ثم بلغه عنه ما ساءه من سيرته فردّه إلى المدينة وأمر بجلده فجلد ونفي إلى دهلك (وهي جزيرة بين اليمن والحبشة) كان بنو أمية ينفون إليها من يسخطون عليه. فبقي بها إلى ما بعد وفاة عمر بن عبد العزيز وأطلقه يزيد بن عبد الملك، فقدم دمشق ومات بها، وكان حماد الراوية يقدمه في النسيب على شعراء زمنه.


العرجي
عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي، أبو عمر،
شاعر، غزل مطبوع، ينحو نحو عمر بن أبي ربيعة، كان مشغوفًا باللهو والصيد، وكان من الأدباء الظرفاء الأسخياء، ومن الفرسان المعدودين، صحب مسلمة بن عبد الملك في وقائعه بأرض الروم، وأبلى معه البلاء الحسن، وهو من أهل مكة، ولقب بالعرجي لسكناه قرية (العرج) في الطائف. وسجنه والي مكة محمد بن هشام في تهمة دم مولى لعبد الله بن عمر، فلم يزل في السجن إلى أن مات، وهو صاحب البيت المشهور، من قصيدة:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا        ليوم كريهة وسداد ثغر
شعراء الغزل العذري
الغزل العذري غزل عفيف طاهر ونسب إلى بني عذرة إحدى قبائل قضاعة التي كانت تسكن في وادي القرى بالحجاز، تميز شعر هذه الفئة من الشعراء بالنقاء والطهر والبعد عن الفحش، ويعزو بعض الدارسين ذلك إلى الإسلام الذي طهر النفوس وسمى بها عن الدنايا وإلى نشأتهم البدوية بعيدًا عن المدنية المترفة بمباهجها ولهوها، فعصمتهم بداوتهم وإسلامهم من الحب الذي تدفع إليه الغرائز إلى حب عفيف مثالي يسمو على رغبات الجسد وفي كتاب الأغاني أخبارهم وأشعارهم إليك بعضا منها:

كثير عزة
هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة وأمه جمعة بنت الأشيم الخزاعية، شاعر متيم مشهور، من أهل المدينة، أكثر إقامته بمصر ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك، وتوفي والده وهو صغير السن وكان منذ صغره سليط اللسان وكفله عمه بعد موت أبيه وكلفه رعي قطيع له من الإبل حتى يحميه من طيشه وملازمته سفهاء المدينة.
واشتهر بحبه لعزة، فعُرِف بها وعُرِفت به وهي: عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب كناها كثير في شعره بأم عمرو ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة.
وسافر إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش.
وتوفي في الحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل:
مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
جَميل بُثَينَة
هو أبو عمرو جميل بن عبد الله بن معمر العذري ، لقب بجميل بثينة لأنه أولع بابنة عمه " بثينة " منذ صغره ، وكان يأمل أن يتزوجها ولكن حيل بينه وبينها، وزُوِّجت من غيره فزاد هيامُه بها، ومضى يشكو حبه ويتغنى باسمها وتمضي السنون وحبه ينمو ويزيد وهو يلهج بشعر يذوب رقة وصدق عاطفة، فكان في قائمة العشاق العرب التي تضم جمهرة من الشعراء منهم: قيس بن الملوح صاحب ليلى، وقيس بن ذريح صاحب لبنى، وكثير عزة، وعروة بن حزام وصاحبته عفراء، والصمة القشيري وصاحبته ريَّا ، وغيرهم كثير ، وأكثر هؤلاء من بني عذرة تلك القبيلة التي نسب إليها ذلك الشعر العفيف وهو غزل نقي طاهر، فسمي ذلك   الشعر بالغزل العذري نسبة إلى هذه القبيلة التي كانت تنزل في وادي القرى بالقرب من المدينة.



تابعونا على الفيس بوك
إقرأ أيضًا




هناك 3 تعليقات: