روسيا والعرب
مَن يقرأ التاريخ سيجد أن العلاقات بين العرب وروسيا مدّت جسورها بين الحضارتين منذ أيام الدولة العباسية، عندما استجاب الخليفة المقتدر بالله إلى طلب ملك الصقالبة لإرسال مَن يُعلّمهم تعاليم الدين الإسلامي، وقد أرسل لهم سنة 921م بعثة على رأسها الفقيه والعالم أحمد بن فضلان، واللافت في العلاقات العربية - الروسية تجددها المتواصل عبر التاريخ، وعدم اقتصارها على نمط واحد.
وقد
لعبت المؤثرات الثقافية دورًا عميقًا في وضع الثقافة العربية الإسلامية في عمق
الأدب الروسي من خلال تأثر أعلامها بالقصص والحكايات العربية، مما يؤكد أهمية
ومكانة تلك القوة الناعمة في الجمع والبناء وفهم الآخر.
أخذت
بدايات العلاقة بين العرب والروس أشكالًا متعددة، منها التجارة، خصوصًا في العصر
العباسي الأول، ومنها زيارة بيت المقدس من قِبَل الحجاج الروس، وتدوينات بعض رجال
الدين الذين وثّقوا تلك الرحلات، وأخذت تلك العلاقة منحًى آخر عندما أرسل الخليفة
المقتدر بالله (908 - 929) بعثة إلى البلاد الروسية، استجابة لطلب من ملك البلغار
لتعليمهم أصول وتعاليم الدين الإسلامي، وفي زمن لاحق طلب قيصر روسيا من البعثة
بناء مسجد، هو الأول من نوعه في تلك البلاد البعيدة، وما زالت ذكرى هذه الرحلة
قائمة، فقد اتخذت جمهورية تتارستان من يوم وصول ابن فضلان عيدًا قوميًّا تحتفل به
كل عام.
أدقّ
تفاصيل حياة الشعوب
تبعت
هذه الرحلة المبكرة رحلة ثانية أحدث عهدًا، قام بها الشيخ الأزهري محمد عياد
الطنطاوي في عصر محمد علي الذي ذهب إلى روسيا لتعليم اللغة العربية خلال العهد
القيصري، وقد ساهمت كل رحلة منهما في ترك بصمات مهمة في تاريخ العلاقات بين العرب
وروسيا.
وذكر
المستشرق الألماني فراهن في تقديمه لترجمته لرحلة ابن فضلان بالألمانية: «إذا كان
الغرب قد أغفل روسيا، فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنوارًا كثيرة على تاريخ
الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات ناقصة، خصوصًا عن البلغار وروسيا في عهد القياصرة»،
ويسرد كتاب «رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة (921م)»، لمؤلفه شاكر
لعيبي، والصادر ضمن مشروع ارتياد الآفاق عام 2003م، أهم محطات رحلة ابن فضلان التي
تعد مصدرا مهمًّا لدراسات المستشرقين وكل باحث في التاريخ الروسي ودول البلقان.
لقد
تشعّب ابن فضلان فيما كتبه وصوّره، فلم يتوقف عند حدود مهمته كرحّالة، لكنّه كان
متأملًا، تقع عيناه على كل ما هو غريب وخارج عن المألوف، فقد رسم أدق تفاصيل حياة
الشعوب التي مرّ عليها، من عاداتهم وأساليب حياتهم، وبخاصة الطقوس المخيفة، مثل
توديع الجارية قبل قتلها لترافق سيدها في رحلته الأخيرة، كما يلاقي ابن فضلان
أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول: «ورأينا أقوامًا تعبد الحيات، وأقوامًا
يعبدون السَّمك، ومنهم من يزعم أنّ له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب،
وللمطر رب... إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلّا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق
ويرضي كل واحد منهم»، وقد وصف الصقالبة، فـ «أفاض في مراسم الاستقبال، وفي عيش
القوم، وجلوس المليك وطريقة الأكل مما يخالف حياة العرب ومأكلهم. ووصف الروس في
أبدانهم، فرأى أنهم شقر حمر، وأن الرجل فيهم يحمل سيفًا وفأسًا وسكينًا لا
تفارقه... والمرأة تحمل على ثديها حُقّة مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب على
قدر غناها، وفي كل حُقّة سكين مشدودة على الثدي، وفي عنقها طوق أو طوقان على قدر
ثروتها كذلك...».
علاقة
تتجاوز السياسة
كما
تعتبر رحلة الشيخ الأزهري محمد عياد الطنطاوي، الأحدث عهدًا، علامة بارزة في تاريخ
العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا، وبداية مثالية لمعرفة عمق ومتانة تلك العلاقة
التي وجدت في الأدب والشعر، فهذا الشيخ الأزهري كان موهوبًا في معرفة اللغات ويجيد
التحدث بـ «الفرنسية»، وكان مختصًّا في تعليم القناصل الأجانب، الذين يأتون للعمل
بالقاهرة، اللغة العربية، وقد قام بتعليم اثنين من القناصل الروس، وأعجبتهما قدرته
على إفهامهما اللغة بطرق سهلة، وطلبا من والي مصر إيفاده إلى روسيا لتعليمهم اللغة
العربية، وهكذا سافر الشيخ إلى سان بطرسبرغ، وسرعان ما تعلّم الروسية، وقام بتدريس
اللغة العربية لعشرات من الطلاب الروس والذين يسعون في العالم العربي، وساهم في
الترجمة، وأصدر أكثر من كتاب، وقضى خمسة عشر عامًا كاملًا إلى أن أصيب بالشلل
ووافته المنيّة ودُفن هناك.
كانت
هاتان الرحلتان بمنزلة مساحات تلاقت فيها صحارى الحر اللاهب مع صحارى الجليد،
علاقة تتجاوز السياسة بتعقيداتها وتقلبات مصالحها، ولم تتوقف بسبب تبدّل طبيعة
النظام من الملكي إلى البلشفي إلى الجمهوري. كما نلاحظ أن زمن روسيا في عصر ابن
فضلان مختلف تمامًا عن زمن الشيخ الطنطاوي الذي كانت فيه روسيا قيصرية، وما تلا
ذلك يدخل في نطاق السياسة التي لا مفرّ منها، والتي صبغت كل ملامح. وبعد الثورة
البلشفية وقيام الاتحاد السوفييتي وتَشكّل منظومة الدول الاشتراكية وحِلف وارسو،
لم تكن روسيا بعيدة عن العرب، ووجدت في الإرث ما دفع دار التقدم للنشر في مواصلة
عملها الثقافي من خلال ترجمة الأعمال الأدبية الكبرى لتولستوي وتشيخوف وتورغينيف.
الاستعراب
الروسي
أنتج
الاستشراق الروسي، الذي لا نعرف عنه الكثير بقدر ما نعرف عن الاستشراق الأوربي،
الكثير من الدراسات عن العالم الإسلامي، خصوصًا بعد دخول أكثر من جمهورية إسلامية
ضمن الاتحاد السوفييتي قبل أن يتفكك. وتعود بداية انطلاقة العهد الجديد في
الاستعراب الروسي إلى مطلع القرن التاسع عشر، إذ تم إدخال تدريس اللغات الشرقية في
الجامعات الروسية. وأُسس أول أقسام اللغة العربية في خاركوف وقازان، وفيما بعد في
موسكو. كما يمكن اعتبار البداية الفعلية للاستعراب العلمي في روسيا عام 1817م، حيث
أُسس «المتحف الآسيوي» في بطرسبرغ على يد أحد أكبر المستشرقين في ذلك الحين، خ. د.
فرين، وكان هذا المستشرق قد أجرى سلسلة كبيرة من البحوث في علم المسكوكات العربية،
وقام بدراسة المراجع العربية في تاريخ بلاد الروس.
وقد
تمت ترجمة القرآن الكريم أكثر من مرة إلى اللغة الروسية، أولاها في عام 1716م بطلب
من القيصر بطرس الأكبر، وكان من ثمار هذه الترجمة على الأدب الروسي أن استوحى منها
الشاعر ألكسندر بوشكين مجموعة من قصائده التي تركت أثرًا مهمًّا في نقاط التلاقي
بين الثقافتين، وبعد 162 سنة تواصلت أعمال ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية.
وفي مؤلفه القيّم «تأريخ الأدب الجغرافي العربي»، أشاد العلّامة المستشرق الروسي
المعروف إغناطيوس كراتشكوفسكي بفضل الرحّالة والجغرافيين العرب والمسلمين في نقل
وتسجيل عادات الشعوب التي زاروها في بقاع الشرق والغرب، وما زالت هذه التسجيلات
والمؤلفات التأريخـية تشكّل مصادر أساسية في التأريخ لتلك الأقــوام. وعن هذه
الآثــار يقول المستشرق كراتشكوفسكي: ترك لنا العرب وصفًا مفصلًا لجميع البلدان من
إسبانيا حتى تركستان ومصب السند شرقًا مع وصف دقيق لجميع النقاط المأهولة وللمناطق
المزروعة والصحارى... ولم يهتموا بالجغرافيا الطبيعية وظروف المناخ فحسب، بل
والحياة الاجتماعية والصناعيــة والزراعــية واللغــة والتعاليم الدينية.
أما الكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي فقد أعلن، مفاخرًا، تأثره الإيجابي بالثقافة
العربية فيما كتبه عن «الأساطير»، حيث قال: «ينبغي أن أعترف شخصيًّا بأن الحكايات
كان لها تأثير إيجابي تمامًا على نموي العقلي حين كنت أسمعها من ثغر جدتي والرواة
الريفيين، وقد أذهلني ورفع من تقديري للحكايات وأهميتها حقيقة، لكونها عملًا
منشورًا، لقد قرأت في عمر الثانية عشرة الأساطير العربية الجديدة.. لقد كانت طبعة
من طبعات الأقاليم الصادرة في القرن الثامن عشر».
موطئ
قدم
وبعيدًا
عن التاريخ، فإن العلاقات بين العرب والروس ظلت قائمة ثقافيًّا واقتصاديًّا، ولم
ينقطع الحجاج الروس عن القدوم إلى العالم العربي لزيارة مدينة القدس بالنسبة
للمسيحيين أو إلى مكة المكرمة للمسلمين، أي أن العرب كانوا حاضرين دائمًا في
الذهنية الروسية، وزاد هذا الأمر بعد الحرب العالمية الأولى وتكوّن الاتحاد
السوفييتي وضمّه العديد من دول وسط آسيا، وأصبح العالم العربي بمنزلة حدوده
الجنوبية، وزادت أهمية هذا الموقع إبان الحرب الباردة التي نشبت بين المعسكر
الشرقي، الذي يقوده السوفييت، والمعسكر الغربي بقيادة أمريكا، وأصبحت الاستراتيجية
السوفييتية الملحّة هي إيجاد موطئ قدم في المياه الدافئة، من هنا كان سعيها الحثيث
لإقامة علاقات وثيقة مع بلدان العالم العربي وعلى رأسها مصر، فقد كانت تربطهما
علاقات تجارية وثيقة بدأت في الأربعينيات من القرن الماضي عندما عقد بينهما اتفاق
يتم من خلاله تبادل القطن المصري مقابل الأخشاب والحديد الصلب، وتطورت هذه العلاقة
مع تعاظُم خطر إسرائيل ورفض الغرب تزويد مصر بالسلاح وتدخّل السوفييت لعقد صفقة
الأسلحة التشيكية المعروفة، وتلا ذلك وقوفهم إلى جانب مصر في مواجهة العدوان
الثلاثي، وبلغ التعاون قمته عندما ساهم السوفييت في تمويل بناء السد العالي.
وقد
أثمرت سياسة التعاون هذه كثيرًا، وأصبحت مصر هي مدخل السوفييت للعالم العربي،
فأقام الاتحاد السوفييتي علاقات وثيقة مع سورية والجزائر والعراق، بل إن اليمن
الجنوبي (سابقًا) تبنى خطّه الفكري وحاول أن يطبق نظامه في الحكم، لكن بقي هناك
حاجز أخير لم يستطع السوفييت اجتيازه، وهو حاجز الدِّين، فالشعوب المسلمة ظلت
متحصّنة خلف دينها قرونًا طويلة، ولم تستطع الاقتناع بالشيوعية ونظرتها إلى
الأديان، فرغم العلاقة الوثيقة مع الحكومات وقمة السلم من المسؤولين، فإنهم فشلوا في
التغلغل إلى الشعوب.
لقد
عادت روسيا بوجه مختلف تمامًا عن الوجه السوفييتي القديم، وجه براجماتي خالٍ من أي
شعارات، لا يؤمن إلا بحديث المصلحة وتبادل المنافع، وكان هذا مدخله الجديد الذي
كان على العرب قبوله بكل ما فيه من تقارب أو تناقضات، فروسيا الجديدة، بعيدًا عن
أي أيديولوجية، تقدّم مصالحها الاستراتيجية الخاصة، وتحاول إيجاد نوع من التوازن
مع النفوذ الأمريكي الطاغي في المنطقة العربية، وبطبيعة الحال لم يكن في استطاعة
روسيا الانضمام إلى حلف الأطلنطي المناوئ التاريخي لها، لكنها كانت تسعى لتكوين
كتل بديلة تدعم سياستها، وحتى الآن لم تستطع القيام بذلك.
واقع
لا مكان للتاريخ فيه
إن
العلاقة قديمة حقًّا، لكنّ العرب وروسيا يواجهان واقعًا جديدًا لا مكان للتاريخ
فيه، لكن يبقى أن هناك مصلحة لكل طرف لدى الآخر، ولكن إذا كانت المصالح الاقتصادية
تلتقي أحيانًا فإن للسياسة رأيًا آخر، فقد أُجري استطلاع بين عيّنة من
الشخصيات العربية حول السياسة الخارجية الروسية، حيث أكد 40 في المئة أنهم غير
راضين عنها، وقد اعترضوا على أهداف روسيا في المنطقة بأنها تسعى إلى الهيمنة
وتحقيق مصالحها على حساب المصالح العربية وزيادة دعمها لإسرائيل، ومن المؤكد أن
هناك سوء فهم عميقًا بين الطرفين يجب العمل على إزالته حتى تعود العلاقة إلى
صورتها الطبيعية.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ
أيضًا
التعليم الحضوري أم التعليم الإلكتروني
مرض التوحد: الأعراض، الأسباب، التشخيص والعلاج
5 خطوات تجعل الرضيع يشعر بالسعادة
اكتئاب المراهقين: الأعراض الأسباب والوقاية
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية
البشرية وتطوير الذات
أيضاً
وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل
العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين
والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق