تلخيص جديد
في قلب السوق، حيث يضج المكان
بالحياة، يلتقي الباعة من كل صوب، كبارًا وصغارًا، يعرضون بضائعهم المتنوعة، من
الحلوى إلى الكرافاتات، ومن السراويل إلى البطيخ والدلاع، في مشهد يعج بالحركة
والنداءات الصاخبة:
"هاو الدلاع، شيخ يا مولا البطيخ،
سراول سراول سراول!"
لكن بين هذه الجلبة، يلوح شبح الخوف
من "الرادار" – رجال الشرطة الذين يرصدون الباعة المتجولين، فيتحول
السوق إلى ساحة من الفوضى كلما ظهر أحدهم، يهرع الباعة يلمّون بضاعتهم، يفرّون
مذعورين، كأنما أصابتهم صاعقة.
كان بين هؤلاء الباعة فتى يُدعى
شفيق، لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، فقير الحال، يبيع حلوى "نبوت
الخفير" المصنوعة من نوع خاص من الأشجار. لم يكن يملك هذه الحلوى، بل كان
يعمل خادمًا عند رجل ثري يناديه بـ"المعلم"، رجل قاسٍ، غليظ القلب، لا
يعرف الرحمة، ينهال على شفيق ضربًا بعصاه الغليظة دون هوادة، ويحظر عليه حتى تذوّق
قطعة صغيرة من الحلوى التي يبيعها.
وذات يوم، بينما كان شفيق في السوق،
استبدّ به التعب، فنصب مظلته واستسلم للنوم. وفي غفوته، راوده حلم جميل: رأى نفسه
يتذوّق أخيرًا قطعة من "نبوت الخفير"، يحسّ بطعمها الفريد يذوب في فمه.
لكن حلمه لم يدم طويلًا، إذ دوّى في الأرجاء صوت صفّارة الشرطة، معلنًا عن اقتراب
الشاويش. استيقظ شفيق بفزع، ولمّ نصبة الحلوى على عجل، حملها على ظهره، وأطلق
ساقيه للريح، يحاول النجاة من تهمة "الانتصاب العشوائي" التي كان رجال
الشرطة يسارعون إلى تلفيقها للباعة الجائلين.
إلا أن الحظ لم يكن حليفًا لشفيق هذه
المرة، فقد تعثّر بحجر في طريقه، فسقط وارتطم رأسه بالأرض، بينما تناثرت قطع
الحلوى من الصندوق وتبعثرت على الطريق، واحدة تلو الأخرى. لم يكد ينهض حتى وجد
الشاويش يطبق عليه، يقبض على ذراعه، مستعدًا لتحرير مخالفة بحقه.
ابتسم شفيق رغم ألمه وقال مستهزئًا:
– على أي أساس ستكتب لي مخالفة، يا عم الشاويش؟
أجابه الشاويش بلهجة حازمة:
– لأنك تبيع الحلوى دون رخصة.
ردّ شفيق بخبث:
– وأي حلوى تعني؟
نظر الشاويش إلى الصندوق ليريه
الحلوى التي تمثل "دليل الجريمة"، لكنه لم يجد شيئًا! اختفت القطع
جميعها، تبعثر بعضها في السوق، بينما اختفى بعضها الآخر في بطون المتطفلين. عندها،
استدار الشاويش بخيبة دون أن ينطق بكلمة واحدة، وترك شفيق ينهض من جديد، يغمره
شعور بالظفر، وعاد إلى منزله تغمره السعادة، رغم أنه لم يبع شيئًا في ذلك اليوم.
لكن فرحته لم تكتمل طويلًا، فما إن
اقترب من البيت حتى لمح معلمه يقف في انتظاره، عابس الوجه، يناديه بغلظة.
– أين النقود التي قبضتها اليوم؟
أجابه شفيق بمرح:
– لا أموال اليوم، يا معلم!
احمرّ وجه الرجل غضبًا، وصاح مستنكرًا:
– ماذا تقول؟ 85 قطعة بيعت؟ أين المال؟!
تنهد شفيق، ثم ردّ وهو يحاول أن يكتم ابتسامته:
– الشاويش أكلها كلها وقال إن الحلوى ثمن المخالفة!
لم يمهله المعلم لحظة، ولم يترك له
فرصة لإكمال حديثه، فقد هوت عصاه الثقيلة على رأسه بقسوة. لكن، رغم الألم، ظل شفيق
غارقًا في فرحته، فقد كانت تلك أول مرة يتذوّق فيها طعم "نبوت الخفير"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق