الجمعة، 17 يونيو 2022

• قصيدة النثر وصراع المصطلحات


قصيدة النثر

إنّ الشعر العاري من الوزن والقافية الذي سمّاه بعضهم الشعر الطليق، وسمّاه بعضٌ آخر الشعر الحرّ (وهو مصطلح متنازع فيه)، وسمّاه بعض ثالث الشعر المنثور، وسماه بعض رابع النثر الشعريّ، وسمّاه بعض خامس قصيدة النثر، يبدو ميدان صراع بين مصطلحات، وأحياناً ساحة خلاف بين مترجِمين، ليس إلاّ، باسثناء مصطلح القصيدة الصحافيّة الذي ابتكره نزار قباني (1923-1998مولا نعرف له أصلاً سابقاً في اللغة العربيّة وفي اللغات الأجنبيّة.

وكما غلب على الظنّ أنّ الشعر القديم تطوير للنثر المسجوع، كذلك يبدو الشعر المنثور ومرادفاته، تطويراً للنثر الخالص، غير المقيّد بالسجع. أي أنّه خطوة مشابهة للانتقال من النثر الخالص إلى النثر المسجوع. فهو إذن ازدهار للنثر على ما قدّره الشاعر الفرنسيّ ستيفان ملاّرميه 1842 - 1898 م لكنّ الخلاف بين الانتقال من النثر الخالص إلى السجع، والانتقال من النثر الخالص نفسه إلى الشعر المنثور، هو أنّ النثر الذي يمتاز عادة بالوضوح وبحريّة الجملة وبقبوله التطويل والاستطراد والتحليل والشرح، صار بالسجع مقيّداً بما يشبه القوافي، وصار بالشعر المنثور مكثّفاً يُعنى بالصورة الغامضة، والإيحاء والتخييل. ففي السجع أُدخلت القافية دون الوزن من غير شروط خاصّة بالصورة، وفي الشعر المنثور وضعت شروط للصورة وحجمها وأثرها النفسي وأُهمل قيدا الوزن والقافية معاً. والملحوظ أن الانتقال المفترض من السجع إلى الشعر الموزون المقفّى كان انتقالاً ممّا هو مقفّى متعدّد القافية إلى موحَّدها، ومن غير الموزون - إلاّ عرَضاً - إلى الموحّد الوزن؛ أمّا الانتقال من النثر الخالص إلى الشعر المنثور، فهو بقاء في غير المقيَّد، أي في المتحرّر من قيد الوزن والقافية، ودخولٌ في قيد آخر هو قيد الصورة المكثّفة الموحية.

قصيدة النثر عند العرب

ومن هنا صحّ أن يَعُدّ مصطفى صادق الرافعيّ 1880 - 1937م بعض نثره شعراً، على الرغم من استبعاد نازك الملائكة ( 1923-2007)م،
 في كتابها: قضايا الشعر المعاصر - وتعني به الشعر العربيّ المعاصر - أن يكون كتاب رسائل الأحزان للرافعي كذلك، وإن وصفت ما يكتبه بالنثر «الشعريّ» جاعلة صفة الشعريّ بين مزدوجين، ربما على سبيل التحفّظ؛ ولعلّها لم تدر أنها استعملت ما استعمله الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير1821 - 1861م وصفاً لقصائده النثريّة، وما ستستعمله السيدة خزامى صبري التي يقال إنّها خالدة السعيد زوجة الشاعر أدونيس، وصفاً لشعر الأديب السوريّ محمّد الماغوط 1934 - 2006 م.

ورفْض جمهور الشعر العربيّ للقصيدة النثريّة نابع على الأكثر من رفض المصطلح، كالذي عند نازك الملائكة نفسها، التي ترى أن الكلام إمّا أن يكون شعراً أو نثراً، ولا توسّط بين الفنين؛ وهو نابع أحياناً من إنكار الأسلوب الشعريّ الجديد الذي قد يوحي تبعيّة للغرب وإلغاءً للتاريخ الشعريّ العربيّ.

لكنّ الذين رفضوا ذلك الأسلوب لم يرفضوا ما سبق شعر الماغوط وأشباهه من نثر تمتّع بكثير من الخصائص الشعريّة التي تمتّع بها شعر الماغوط، ونخصّ بالذكر نثر جبران خليل جبران1883 - 1931م، ولاسيّما المترجَم من أدبه الإنجليزيّ، ونثر مصطفى صادق الرافعيّ. لكنّهم أخذوا على قصيدة النثر، مع ذلك، غرابة صورها وانتماء تلك الصور إلى بيئات أجنبيّة، ولاسيّما أنّ كثيراً من شعراء ذلك النوع تأثّروا بالشعر الأجنبيّ، وعلى الأخصّ بقصائد شارل بودلير، حتى بدا شعرهم ضرباً من الترجمة أو السرقة من الأجانب، لا عملاً أدبيّاً عربيّاً، وبدا تعبيراً عمّا يسمّونه عقدة الدونيّة، ومحاولة بدء تاريخ الشعر العربيّ الحديث من الإبداع الغربيّ، ولذلك لقي المترجَم منه قبولاً عند الغربيّين، خلافاً لما لقيه هو نفسه عند العرب.

الخلاف الاصطلاحيّ

فالخلاف كائن غالباً في المصطلح، وفي ما ينجم عنه من بُعد نفسيّ وإيديولوجيّ. وسببه أن للشعر عند العرب، حتى الربع الثالث من القرن العشرين، على الأقلّ، مكانة خاصّة، تكاد تكون قدسيّة؛ وقد اكتسب أهميّة إضافيّة في المعركة التي أثارها كتاب طه حسين: في الشعر الجاهليّ 1926 م، لكون الشعر الجاهليّ «ممّا يُرجع إليه في فهم القرآن» على ما قرّرته لجنة العلماء في الأزهر حينئذ؛ ولذلك رفض العرب أن يُدخلوا في نَسَب الشعر العربيّ ما يرونه غريباً عنه أو هجيناً، كما رفضوا أن ينـزلوا عن صورته المعروفة المؤسَّسة على الوزن والقافية. وحين جرؤ بعض الشعراء على نشر الشعر الحرّ، بالمفهوم الآخر لهذا المصطلح أي الشعر الملتزم للوزن والقافية، لكن المتصرّف في عدد التفاعيل، وفي عدد القوافي، احتاطوا بأن زعموا أنّ عملهم تطوير للعَروض العربيّة، وتصرّف بالقافية؛ أي أنهم ظلّوا في حيّز تطوير الشعر القديم، ومع ذلك رفض المحافظون مزاعمهم، فكيف سيكون موقف هؤلاء المحافظين ممّن انقلبوا كليّة على ذلك الشعر وجعلوا مصدرهم النظريّ والتصويريّ أجنبيّاً: أميركيّاً أو أوربياً؟

إنّ أصحاب الشعر النثريّ لو ترفّقوا لَدُنْ اتّباعهم الشعراء الأجانب ونظريّاتهم، وأيّدوا عملهم بآراء بعض قدماء العرب والمستعربيّن، فذكروا، مثلاً، رأي مسكويه ت 421 هـ في كون الوزن حلية زائدة، ورأي أبي حيّان التوحيديّ ت بعد 421هـ في نفي فضل الشعر على النثر أو العكس، وفي جعلِه مدار التفضيل بينهما «اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع، واجتناب النبْوة الممجوجة في السمع»، إنّهم لو فعلوا ذلك، أو حتى لو استندوا إلى مصطفى صادق الرافعيّ في اعتباره الوزن والقافية عاملين مساعدين في إظهار موسيقى الشعر وليسا أساساً في الشعر، فربما تحاشوا الصدام مع الرأي العام الأدبيّ العربيّ، أو خفّفوا من أثر الصدمة، على الأقل. لكنّهم كانوا ميّالين إلى الشجار وإلى ما يعدّونه ثورة، فبدت ثورتهم وكأنّها تمرّد بتحريض خارجيّ، أو هجمة استعماريّة على التراث العربيّ، إذا صحّ التعبير، واستكمال، في تصوّر بعضهم، للحرب على الشعر الجاهليّ التي بدأها المستشرقون وتلميذهم طه حسين في العصر الحديث، فرُفضت ثورتهم تلك وصادفت مقاومة عنيفة. والدليل على ذلك أنّ المحافظين قبلوا تسمية النثر الفنيّ لمثل تلك الأعمال الأدبيّة، لكنّهم رفضوا مصطلح الشعر المنثور وأشباهه وسخروا منه.

مصطلح ملتبس وغايات مبهمة

ثم إنّ مصطلح قصيدة النثر، مثلاً، ملتبس جداً، فهو من ناحية يعني أن تحتمل القصيدة مختلف الفنون النثريّة، فتكون خارجة، إذن، عن الشعر؛ وهو من ناحية أخرى تسمية شكليّة تعني تحرير القصيدة من الوزن والقافية ليس غير؛ والشرطان الأولان اللذان وُضعا لها، أعني شرطي الوحدة والإيجاز يصحّان في الشعر عامّة، العَروضيّ وغير العَروضيّ، لا في قصيدة النثر وحدها. بل يمكن أن يصحّا في الأعمال النثرية، حتى العلميّ منها. لكن يبقى شرط ثالث، وهو شرط جديد ومميز، هو شرط المجّانيّة gratuité، التي تعني الامتناع من توظيف الكتابة لغاية تواصلية أو نفعية، وتحريرها من أي نُظم أو قواعد. هذا الشرط يرمي إلى تمييز قصيدة النثر من النثر الشعري الذي قد نجده في الروايات وغيرها، وإلى إعفائها من قيود العَروض والقافية، ومن قواعد الفن التي وضعها أرسطو وسائر أعلام الكلاسيكية.

لكن شرط المجّانيّة شرط غريب وغير منطقيّ، فهو كالتعريف بالنفي. إنه نهي عن أشياء وعدم الأمر بغيرها، إلا ما كان من خصائص الفنون المنهي عنها، نعني الوحدة والإيجاز. وتلك المجانيّة ضرب من البوهيمية، لأنّه إلغاء للنظام، وطموح إلى شاعر غير سوي من الناحية الإنسانية، لا وظيفة لشعره، ولا باعث عليه من خارجه أو خارج نفس الشاعر، ولا غاية له؛ وما من عمل أدبيّ يحتمل هذه الصفات السلبيّة. إنّ مجرّد القيام بعمل فنّي فعل إيجابيّ، أي غير مجّانيّ. ومجرد اشتراط الوحدة يعني طلب النظام وترك المجانيّة، وإلا دخلت القصيدة في حقول فنية أخرى غير محدودة. وتفسير المجّانيّة بكون الشعر يكتب لذاته لا لشيء آخر يُدخل الأمر في مقولة الفنّ للفنّ المختلَف في صحّتها وإمكانها. لذلك بدت هذه المجّانيّة التي تعني العدم الفكريّ بصورة من الصور، غير مقنعة، حتى رأينا أندريه بروتون 1896 - 1966 م، الشاعر السرياليّ المشهور يقول: «إنّ الشعر المكتوب يفقد يوماً بعد يوم مسوّغات بقائه (...) فليس من فائدة للشعر في رأيي إذا لم أتوقّع اقتراحه لبعض أصدقائي ولي حلاًّ خاصّاً لمشكلة حياتنا».

وللسيدة سوزان برنار 1932 - 2007م صاحبة الكتاب الأطروحة: قصيدة النثر من بودلير حتى أيّامنا، مأخذ آخر في هذا الموضوع وهو «أنّ قصيدة النثر تبغي أن تذهب إلى ما بعد الكلام، وهي تستعمل الكلام؛ وأن تكسر الشكل، وهي تنشئ أشكالاً؛ وأن تخرج عن الأدب، وها هي نوع أدبيّ مصنف. إنّ هذا التناقض الداخليّ، هذا التعارض الأساسيّ، هو الذي يمنحها خصوصيّة الفن الفاقع، الميّال إلى التجاوز المستحيل للذات، وإلى نفي شروط البقاء الخاصّة بها». فلا غرو أن تصف أَليزبتّة سيبيليو، الباحثة الإيطالية في جامعة كَسّينو، مصطلحَ قصيدة النثر بالـ oxymoron  أي التركيب المتضادّ الطرفين، أو أن تصفه بالمفارقة.

استحالة قصيدة النثر إلى موقف إيديولوجيّ

ولا شكّ في أنّ دعوة منظِّري قصيدة النثر إلى الثورة والتمرّد وتبديل اللغة دعوة إيديولوجيّة، تشبه دعوات الرومنسيّين الذين امتزج الأدب عندهم بالسياسة، وليست دعوة أدبيّة محضة؛ وهذا يتعارض مع دعوتهم إلى المجّانيّة. بل يحسن القول إن الرومنسيّين هم من بدأوا قصيدة النثر من خلال ترجمة الأغاني الشعبيّة لليونان الحديثة على يد دو فلوريال وذلك سنة 1824 - 1825 م، وكذلك من خلال تقديم بروسبار ماريميه قصائدَ كُرْواتيّة خياليّة تحت عنوان: الربابة وذلك سنة 1827م، ومن خلال كتابات أخرى. وقد استعاض شارل بودلير المعروف أنّه رومنسيّ مشرب بالرمزيّة، من عنوان: قصائد ليليّة، بعنوان: قصائد نثريّة صغيرة سنة 1867، يريد بذلك القصائد التي وصفها بالنثر الشعريّ المتميّز بالتحرّر من الوزن والقافية، وبالطواعية والتنافر والغنائيّة وقفزات وعي مفاجئة، وارتباط بالمدن الكبرى. بل لعل مصطلح قصيدة النثر يرجع إلى ما قبل ذلك، نعني إلى الكاتب الفرنسيّ الكلاسيكي نقولا بوالو 1636 - 1711م الذي جعل قصائد النثر مرادفة للروايات. فالحدود التي حاول المتأخّرون في عصرنا أن يجعلوها بين قصيدة النثر والنثر الشعريّ، لم تكن قائمة في البداية، بدليل أن الاثنين يبدوان شيئاً واحداً سواء في تعبير بوالو، أو في تعبير بودلير. وشيء آخر هو أن بودلير لم يكن، إذن، أوّل من استعمل مصطلح قصيدة النثر، خلافاً لما يوحيه عنوان أطروحة سوزان برنار ومَن تأثّر بها من شعراء الحداثة العرب، بل إنّ ذلك المصطلح قديم نسبيّاً، وكان يطلق على كل تعبير خيالي مجنّح، سواء في ذلك ما ورد في رواية أو في خطبة أو جاء مستقلاً.

جماعة شعراء لا مدرسة

وقد حاول القائلون بقصيدة النثر أن يجعلوا أنفسهم مدرسة، ولا يستقيم الأمر، لأنّهم جماعة شعراء فحسب، ذلك أنّك تستطيع أن تتخلّى عن قيود الوزن والقافية وتكتب في الوقت نفسه بأسلوب كلاسيكيّ أو رومنسيّ أو رمزيّ أو سرياليّ؛ والدليل على ذلك قصائد بودلير النثريّة الآنفة الذكر. ولذلك لا ينبغي أن يُزعم وجود قواعد وصِفات لهذا الضرب من القصائد، بل يكفي اعتباره تحلّلاً من القيود العَروضية. ومِثْل الفرنسيّين الذين رأوا في القِصص ذات الروح الشعريّة قصائد نثر، يمكن للعرب أن يعدّوا كثيراً من المقاطع النثريّة القصصيّة وغير القصصيّة التي وردت في أعمال الأدباء العرب الكبار أمثال طه حسين 1889 - 1973م وفؤاد سليمان 1912 - 1951 م ومصطفى صادق الرافعيّ وسعيد عقل1912 - 2014 م قصائد نثريّة. فليس لقصيدة النثر، إذا أقْررنا المصطلح، أي خصائص مميّزة تفرقها عن الأنواع الشعريّة الأخرى، بل نستطيع القول إنّ غياب الوزن والقافية يجعل من الصعب وضع حدود لهذه القصيدة؛ أي أنّنا لا نستطيع أن نضع مقياساً طبوغرافيّاً دقيقاً لتمييز القصيدة النثريّة من أعمال النثر الفنيّ ذات الصور الموحية، مثلاً، على حين أنّنا نستطيع ذلك في الشعر العَروضيّ، بسبب الوزن والقافية.  

والمؤسف أنّ الحريّة في قصيدة النثر فسحت المجال لكمّ هائل من المتطفّلين على الشعر لكي يقتحموا ميدانه، شجّعهم على ذلك بعض المسؤولين عن المجلاّت الأدبيّة، وعن الصفحات الثقافيّة للصحف السياسيّة، ممّن يؤمنون بالشعر المنثور ويعملون على نشره.

لكن هناك من أعلن موت قصيدة النثر، كالباحثة الإيطالية سيبيليو نفسها، التي رأت في المقالة التي سبقت الإشارة إليها أن ظروف الحياة التي ساعدت على نماء تلك القصيدة لم تعد موجودة، ولا يمكن أن يعاد إنتاجها. ولعل في هذا الرأي غلوّاً؛ لأنّ العمل الفنيّ الجميل يظلّ جميلاً ما دام يراعي مقاييس الجمال المتعارف عليها في زمنه وبيئته، أو يستطيع أن يتّخذ مقاييس جمال جديدة تروق القرّاء أو فئة منهم على الأقلّ. وهو في الحالتين لا يكون مجّانيّاً، لأنّ المراعاة والاستحواذ على الرضا أو الإعجاب عملان إيجابيّان، وإن بصورة غير مباشرة. ولا يهمّ أن نعرف حدود قصيدة النثر ولا أن نتفق على المصطلح بعد ذلك، بل يكفي أن يكتب الشاعر نثراً تصويريّاً موحياً ورائعاً وليسمِّه ما يشاء: نثراً فنيّاً أو شعريّاً أو شعراً منثوراً أو قصيدة نثر، فلا يضير الجميلة أن تسمَّى عفراء أو تماضر، ولا يزيد من جمالها أن تدعى حسناء أو بارعة أو غير ذلك، فالجمال بمعزل عن الأسماء.

بيد أنّ أدونيس بدا أكثر احتياطاً، في هذا الشأن، من سيبيليو، إذ أعلن أن معظم قصائد النثر أصبحت اليوم «جزءاً من النسق المفهوميّ الماضويّ السائد». وهذا يعني أن بعض تلك القصائد لا يزال ذا مفهوم حديث، ولا يزال حاضراً مستحسناً.

إن من الخطأ الحكم بالإعدام على نوع من أنواع الأدب، فمعظم المدارس والتيارات الأدبيّة التي راق لبعضهم إعلان وفاتها، لا يزال لها أنصار، ولا يزال يمارس قوانينها ويخضع لشروطها الفنيّة كثيرون، سواء القصيدة ذات الشطرين المتناظرين، أو القصيدة الرومنسيّة أو غيرها من القصائد.

النتائج

والنتيجة أن قضية قصيدة النثر أو الشعر المنثور تبدو قضية صوريّة بحتة، ونجد لها جذوراً بعيدة عند العرب، تمتد إلى الشاعر المخضرم بين الجاهليّة والإسلام، حسّان بن ثابت ت54 هـ الذي صاح: «قال ابني الشعرَ وربِّ الكعبة»، وذلك حين وصف ابنه عبد الرحمن الزنبور بعبارة بليغة غير خاضعة لميزان العَروض وهي: «كأنّه ملتفّ في بُردَيْ حِبَرة» (حِبَرة: ثوب مُوشَّى مخطّط. وقد علّل عبد القاهر الجرجانيّ ت 471 هـ  كلام حسّان بأن التشبيه يفرق «بين الذهن المستعدّ للشعر، وغير المستعدّ له»؛ أي تحدّث عن استعداد للشعر وليس عن التمكّن من قوله، وهو ما يمكن أن نسميه في التعبير الفلسفيّ: الشاعريّة بالقوة أو بالاحتمال، لكنّه أوحى أنّ التشبيه هو مناط الشعر. وهذه العبارة يمكن أن تدخل في ما سوف يسمّيه أبو نصر الفارابيّ ت 339هـ قولاً شعريّاً، أي قولاً فيه محاكاة ولا وزن له؛ فالمحاكاة هي العنصر الأساسيّ للشعر، عنده، فإذا كان القول الذي فيه محاكاة موزوناً كان شعراً، وإذا كان خلواً من الوزن فهو قول شعريّ؛ أمّا القافية فعنصر عرَضيّ، وإن كان من شأنها تحسين الشعر. ونذكّر هنا بأن المحاكاة عند الفارابيّ تعني الإيهام بالمشابهة، وأنها تكاد تكون هي التشبيه عينه عند ابن سينا ت 428 هـ، وابن رشد ت 595هـ، وحازم القرطاجنّيّ ت 684ه.     

وجماع أمر الشعر المنثور أو قصيدة النثر أنّها قصيدة غير مقيدة بالوزن والقافية، وبعبارة أخرى: غير منتظمة، فهي حرّة طليقة، إلاّ من الوحدة والصورة المكثّفة. لكن شرط الصورة وما يمكن أن يطرح من مجّانيّة ووحدة، لا علاقة له بنظام القصيدة، بل هو شيء يدخل في أسلوب الشاعر، ويصحّ في الشعر بكل أنواعه، وفي النثر الفنيّ أيضاً. فليس في الأمر مذهب شعريّ له قواعده الخاصّة، بل مجرد تفلّت من القيود.

لكن يبقى أنّ هذا المنحى الشعريّ الذي جُوبه بمعارضة أدبيّة شديدة عند العرب، إنما جوبه بذلك بسبب سلوك دعاته المكتوب، الذي لا يخلو من النـزق، وبسبب انغماسه في الروح الغربيّة وإيحائه بالتبعيّة والتنكّر للتاريخ الأدبيّ العربيّ والإسلاميّ، ولاسيّما أنّ أكثر حاملي لوائه وأبرزهم لم يكونوا يؤمنون بالقوميّة العربيّة ولا بالإسلام. ولو أنّهم اختاروا مصطلحات أخرى من المعجم الأدبيّ العربيّ، ولم يكثروا الغرف من الآنية الأجنبيّة، ولم يكونوا عدوانيّين، لبدوا أقرب إلى القبول في المجتمع الأدبيّ العربيّ، لأنّ هناك من كانوا يدْعون دعوتهم الأدبيّة، وإن بأسلوب مختلف، ويكتبون على المثال الذي اختاروه، لكن دون تبجّح، ومع ذلك كانوا مقبولين، بل تبوّأ بعضهم منـزلة أدبيّة رفيعة، وعُدّوا من القمم عند جمهور عربيّ واسع.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًاقصة                                    

عندما يصبح الأهل محتاجين إلى رعاية أبنائهم

فوائد قراءة القصص للأطفال قبل النوم

سبع خطوات للتعاطف مع الذات عند الشعور بالاكتئاب

سيكولوجية السلوك المستدام

هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق