تلخيص وتحليل نبوت الخفير لمحمود تيمور
في (نبّوت الخفير) تتصارع الرؤية الأرستقراطية - تلك التي لا مفرَّ لتيمور منها – مع تنزُّلِه من عليائه ليتواجَدَ مع أبطالِه المهمَّشِين، ومن حُسن الحظِّ أنّ المُواجَدَةَ تنتصر في النهاية. تتجلى الأرستقراطية في فقرةٍ مثل:
"وإنّ هؤلاء الباعةَ ليتصدّون للسابلة الذين
يَجُوزون بهم في الطريق، فيرددون أمامهم نداءات متشابكة مهوَّشَة، لا تستطيع أن
تميّز لها معنى. بَيدَ أنهم يصيبون بها أطيب الكسب. فليس ثمّة مِن حوانيت يؤدّون
أجرتَها في كل شهر، وليس وراءهم من ضرائبَ يفرضها عليهم السادة المحاسبون في كل
عام. ولم يكن ينغص عليهم حياتهم هذه إلا أن يَلُوحَ لهم رجُل الشرطة، ذلك الذي
تُناطُ به ملاحقة هذا الصنف المارق من سُلطة القانون".
هنا
ينظر تيمور إلى الباعة الجائلين من مكانٍ عليٍّ، ولا يبدو لنا أنّ تقمُّصًا
حقيقيًّا لحياةِ أحدِ هؤلاء يمكن أن يَتلُوَ هذه الفقرة. لكنّه بفِعل الحدَث
البسيط الذي صوَّرَه في أستاذيّةٍ - متمثّلاً في حماس شُرطيٍّ جديدٍ للقبض على أحد
صِغارِ هؤلاء الباعة ونجاح البائع الصبيِّ في الإفلات من قبضتِه – يَصِل إلى قرارة
نفس ذلك الصبيّ الذي يُضطَرّ إلى أكل كُلّ ما معه من حلوى (نبُّوت الخفير) للهروب
من الشُّرطيّ، وهو الذي كان يستنكِف أن يأكُل من هذه الحلوى ويظنُّها قذرةً رغمَ
النداء الذي يردِّدُه لترويجِها "يا أحلى من الشهد يا نبُّوت الخفير"!
هنا
لا يدرك الصبيُّ لذَّة الحِمل الذي يروح ويجيء به إلا تحت وطأة مطاردةٍ مفعمةٍ
بالتوتُّر، في تدبيرٍ غريبٍ للقدَر لا يمكننا أن نكتنه مَغزاه. وهي يلتذُّ طعمَ
حَلواهُ لدرجةِ أن يكرر فِعلَ أكلِها كثيرًا، ويُضطَرّ إلى الكذب على مُعلِّمِه
صانع نبُّوت الخفير مختلقًا حكاياتٍ عن شُرطيٍّ أصَرَّ على أكل كُلِّ ما معَه مِن
حلوى، ولا يتوقف عن تكرار ذلك رغم ما ينالُه كُلَّ مرّةٍ من ضربٍ على مؤخِّرَته
بهراوة المعلِّم!
ومن
اللافت أنّ الصبيَّ قبل أن يبدأ الشرطي مطاردتَه تأخذُه سِنَةٌ من النَّومِ وهو
مستندٌ إلى أحد الجدران، يرى خلالَها نبابيت الخفير السكريّة وهو تتهشم بن أضراسه
الطاحنة "فتعلو لها ضجة تشبه دقّ الأحجار.
وظلّت
دقات الأحجار تتوالى ويضخم صوتها حتى اتخذت لها طابعا متميزًا فإذا هي وقع
أقدام." وكانت هذه أقدام الشرطي (الشاويش جاد الله). المهمّ هنا هو ذلك
التماهي بين الحُلم والحقيقة وإفضاءُ أحدهما إلى الآخَر.
هذا
التماهي وذلك الإفضاءُ يمكن أن يتّسِعا ليشملا علاقةَ الحكايةِ نفسِها – بوصفِها
حُلمًا – بواقعِنا كقُرّاء، فأيٌّ مِنّا لم تَمُرّ بحياتِه حادثةٌ مماثلةٌ ساقَت
إليه لذّةً كان يستهجنُها بينما يحاول النجاةَ ممّا يكرَهُه؟! وأيٌّ مِنّا لم
يتعلّم تحمُّلَ وخزاتِ الإثم – الشبيهةَ بضربات هراوة المعلّم على مؤخرة البائع الصبيّ
– في سبيل لذّةٍ قصيرةٍ عاجلةٍ، ولم يتعلم في سبيلِها كذلك اختلاقَ الأكاذيبِ
وتكرارَها؟!
وأيٌّ
منّا أخيرًا لم يشعر ذاتَ يومٍ أنّه واقِعٌ بين نبُّوتَي خفيرَين (ممثَّلَين في
تهديدَي الشرطيِّ والمعلّم)، وأنه يحاول بينهما أن يقتنص من اللذّة السريعة واللحظاتِ
الهنيئة ما يستطيعُ إليه سبيلاً، ويا حَبَّذا لو كان مصدر هذه اللذّة شيئًا يُشبهُ
النبُّوتَين ظاهريًّا، وإن كان يفترِقُ عنهما في مضمونه ومعناه وخامتِه
الأوّليّة؟! لقد كان الصبيُّ المسكينُ بمعنىً من المعاني يأكُلُ الخطرَين اللذَين
يتهدّدانِه، وينتقِمُ منهما في شخص الحلوى اللذيذة الرخيصةِ التي كان يُفترَضُ أن
يبيعَها ويؤدّي للمعلم رِبحَها!
في تقديري أنّ هذا الصبيّ هو بطل أبطال هذه المجموعةِ، وأكثرُهم إنسانيّةً، إذ اختلَجَت فيه لحظاتُ الألم واللذة، والزهو والخِزي، والضعف والقوّة، كما ينبغي أن تختلج وتتواشَجَ في الإنسان كما نعرفُه. وربما لهذا نظر أديبُنا العظيم إلى مجموعته متأمّلاً فلم يجد أسمى مِن عنوان هذه القصّة ليجعله عنوانًا للمجموعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق