الأحد، 4 فبراير 2024

• خاطب في الناس آمالهم وأحلامهم وليس واقعهم

القاعدة 32 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة:

أغلبُ الناس يُحبّون تَجاهُلَ الحقائق والوقائع لأنها مؤلمةٌ وقبيحة، وينظرون لمن يصنع لهم الشاعرية والخيال كأنه واحةٌ وسطَ صحراء يتدافعون إليه أفواجاً. تَعَلَّم أن تُحَرِّك في الناس آمالهم وأحلامَهم وسوف تجني سطوةً كبيرة.

مراعاة القاعدة:

ازدَهَرت المدينةُ الدولةُ في البندقية لسنواتٍ طويلة، وجعلهم ذلك يظنون أن يَدَ الله تؤيد جمهوريتَهم الصغيرة وتحميها من صروف الدهر، فقد جَعَلَهم الاحتكارُ شبه التام لتجارة الشرق في العصور الوسطى وبدايات النهضة من أغنى المدن في أوروبا، وكانت حكومتهم الرشيدة تُوَفِّرُ لهم حرياتٍ لم يَتَمَتَّع بها أيُّ مواطنٍ في إيطاليا طوال تاريخها. لكن تَغَيَّرَت أقدارُهم فجأةً في القرن السادس عشر، فقد أَدّى اكتشافُ الأمريكتين إلى نَقلِ مركز السَّطوةِ إلى الجانب الغربي من أوروبا، بدايةً إلى إسبانيا والبرتغال، ولاحقاً إلى هولندا وانجلترا، ولم تَستطِع البندقيةُ الاستمرارَ في المنافسة الاقتصادية، وانهارت إمبراطوريتهم، وأَتَت الضَّربةُ التي قَضَت عليهم عام 1570 مع استيلاء الأتراكِ على جزيرة قبرص وكانت أهم ممتلكاتهم في البحر المتوسط.

أَفلَسَت أَعرَقُ الأُسَر في البندقية وانهارت مصارفُها، واجتاحَ الناسَ الركودُ والكسادُ. كانت حَداثةُ زوال ماضيهم الذهبي الذي عاشَه البعضُ وسَمِعَه الأخرون من أبائهم يجعلهم يشعرون بنوع من العار والإهانة، وظنوا أن الأقدار تتلاعب بهم، وأَنَّ أَمجادَهم ستعودُ قريباً، لكن كان ما يزعجهم هو السؤال: كيف يُدَبِّرون أُمورَهم إلى أن تعودَ أَمجادُهم؟.

انتشرت الشائعاتُ في عام 1589 بأنحاء البندقية عن وصول رجلٍ بالقرب منهم يُدعى «إل براجادينو» يُتقن السيمياء، وحَقَّقَ ثروةً هائلة من قدرته -کما ظنوا- من تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهبٍ باستخدام مادةٍ سِرِّية. كان من أسباب الانتشار السريع للشائعات أن أحدَ نبلاء البندقية سَمِعَ أثناءَ زيارته لبولندا نبوءةً من متنبي شهير بأن البندقيةَ سوف تستعيدُ مجدها وسطوتها إن وجدت رجلاً يتقن سيمياء صناعة الذهب، ولذلك وحين سمع أهالي البندقية عن مهارات براجادينو وأن هسيس الذهب يسمع دائماً بين يديه، وأنه يملأ أركان قصره بالمقتنيات الذهبية. بدأَ الناسُ في الحلم بأن البندقية سوفَ تَنتَعِشُ على يدي هذا الرجل.

تَحَرَّكَ وفدٌ من العائلات العريقة بالمدينة إلى مَقَرّ براجادينو في بريشيا، وتجولوا في قصره وانبهروا حين رأوه يَعرِضُ عليهم قدراته في صناعة الذهب، حيث أخذ حفنةً من المعادن الرخيصة وحَوَّلها إلى عدة أوقيات من تراب الذهب. كان نُوّاب المدينة في مجلسهم يناقشون عرض مشروع للموافقة على دعوة براجادينو للانتقال إلى البندقية والإقامة على نفقة المدينة، حين أتتهم أنباءٌ أن دوق مانتوا ينافسهم في شراء خدماته، وسمعوا أن براجادينو أَعَدَّ حفلاً لاستقبال الدوق في قصره مرتدياً رداءً ذهبياً بأزرارٍ من الذهب، وكانت ساعة يده وأطباق الطعام وغيرها من الأدوات كلها من الذهب. خوفاً من أن تخسرَ البندقية خدمات الرجل وافق المجلس بالإجماع تقريباً على دعوته إلى البندقية ووعدوا بإعطائه تلال المال التي كان يطلبها للاستمرار في الحياة المترفة التي كان يعيشها بشرط أن ينتقل إلى المدينة في أقرب فرصة.

في أواخر ذلك العام وصلَ براجادينو الغامض إلى البندقية، كان مظهره حازماً ومؤثراً بعينيه الثاقبتين وحاجبيه الكثيفين وكلبي الحراسة الكبيرين الذين كانا يصحبانه إلى كل مكان، واستقرَّ في قصرٍ فخمٍ بجزيرة جوديکا. كانت الجمهورية تُنفِقُ على مآدبه و ملابسه وعلى كل نزواته المُسرفة، واجتاح الناسَ الهوسُ بالسيمياء؛ ففي الشوارع والأركان كان الباعة المتجولون يعرضون بضاعتهم من الفحم وأجهزة التقطير ومنافخ الكير والكتب التي تشرح طرق التحضير، وأصبح الجميع يمارس السيمياء - ما عدا براجادينو.

لم يَبْدُ على السيميائي أنه متعجلٌ لتصنيع الذهب الذي سينقذ البندقية من خرابها، لكن الغريب أن تباطؤه لم يُقَلِّل من شعبيته، بل زاد من اتباع الناس له. تدفق المعجبون من كل أنحاء أوروبا بل ومن آسيا لملاقاة هذا الرجل النابغة، وطوال شهورٍ كانت الهدايا تنهال عليه من كل صوب، لكن دون أن تظهر أي بادرة للمعجزة التي كان سكان البندقية واثقين أنه سيفعلها، ولكن في النهاية مَلَّ المواطنون وتساءلوا إن كان انتظارهم سيطول إلى الأبد. في البداية كان النواب يطلبون منهم الصبر والتَّمَهُّلَ لأن براجادينو شيطانٌ حاذق يحب من يتملقه، ولكن بعدها ضَجِرَ النبلاء أيضاً وأصبح على النواب أن يُظهروا لسكان المدينة مقابلاً فعلياً لاستثماراتهم المتفاقمة.

كان براجادينو يتعامل مع المُتَشَكِّكين باحتقار، لكنه أجابهم هذه المرة بأنه قد حَضَّرَ بالفعل المادة الغامضة في مصنع المدينة ويمكنه أن يستخدمها كلها مرة واحدة فيحصلون حينها على ضعف ما لديهم من الذهب، لكن الانتظار يجعل المادة تعطي نتيجة أفضل، ولو تركوا المادة داخل صندوق لسبع سنوات يمكنها أن تضاعف الذهب في المصنع إلى ثلاثين ضعفا. وافق معظم قادة المدينة على الانتظار حتى يَخْتَمِرَ منجمُ الذهب، لكن الآخرين غضبوا من أن يواصل هذا الرجل حياته الملكية لسبع سنوات أخرى على حساب إفقار المواطنين، وأَكَّدَ المواطنون هذا الغضب. وأخيراً طَلَبَ الخصومُ من السيميائي أن يُثبِتَ مهارتَه ويُحَضِّرَ في أقربِ وقتٍ کماً كبيراً من الذهب.

رَدَّ براجادينو كمن يثق بعلمه أن البندقية بِتَعَجُّلِها أهانتْ كبرياءَه، وتَستَحِّقُ أن يحرمَها من مواهبه، وهَجَرَ المدينةَ واستقرَّ بدايةً في مدينة بادوا القريبة ثم انتقل في عام 1590 إلى ميونخ بدعوةٍ من دوق بافاريا الذي كان حاله مثل البندقية؛ فقد خَبِرَ الثراءَ في بدايات حياته، ثم أفلسه مجونُه، وكان يأملُ أن يستعيد له السيميائي الشهير ما أضاعه، هكذا عاد براجادينو إلى الحياة المترفة التي عرفها في البندقية وتَكَرَّرَ ما كان يفعله مع قادتها ومواطنيها.

التعليق:

عاشَ سبريوت مامونيا حتى السنوات الأولى من شبابه مواطناً في البندقية قبل أن يبتكرَ لنفسه هويةً جديدةً ويصبح السيميائي براجادينو. رأى مامونيا الكسادَ الذي أَصابَ المدينةَ، وكيف كان المواطنون يحلمون أن تأتي معجزةٌ وتنقذهم من مصيرِهم، وبينما كان غيرُه من المشعوذين يُتقِنون خِفَّةَ اليدِ، أَتقنَ هو التعاملَ مع الطبيعة البشرية. كانت البندقية هدفَه من البداية، فسافرَ إلى الخارج، وجَمَعَ بعضَ المال بِخِدَعِهِ السيميائية، ثم عادَ إلى إيطاليا وافتتح مَتجراً في بريشيا، واكتسبَ شُهرةً كان يعلمُ أنها ستصل إلى البندقية، والحقيقة أن السَّطوةَ التي تسمعُ عنها من بعيد تكون أكبر تأثيراً.

لم يستخدم مامونيا العروضَ المبتذلة لإقناع الناس بمهارته في السيمياء، لكن كان قَصرُهُ المُترَفُ وملابسُه المُكلّفة وهسيسُ الذَّهَبِ في يديه أكثرَ إِقناعاً من أي حجّة منطقية، وأطلقَ بهذا الأسلوب إعصاراً ظَلَّ يَشتَدُّ في كل خطوة: كانت ثَروتُه تقنعُ الناسَ بِتَفَوّقه کسيميائي، وشجعت أشخاصاً مثل دوق مانتوا على منحه الأموالَ التي زادت من ثروته، وأَكَدَّتْ أكثر وأكثر على سُمعته كسيميائي وهكذا. وحين تَرَسَّخَتْ سُمعتُه وبدأَ الأدواقُ والحُكّامُ في التنافس على خدماته لم يكن عليه أن يُشغِلَ نفسَه بتفاهات إثبات مهارته، بل أصبحَ من السَّهلِ عليه خداعُ الناس لأنهم أصبحوا هم من يخدعون أنفسهم. كان شيوخُ البندقية الذين راقبوه وهو يعرض عليهم قدراته من اليأس واللهفة بحيث لم يلاحظوا الأنابيبَ الزجاجية في أكمامِه التي يَصُبُّ منها ترابَ الذَّهَبِ على المعادن الرخيصة، فحين انطَبَعَ لديهم بأنه عبقريٌّ وغريبٌّ في تَصَرُّفاتِهِ تَرَسَّخَ لديهم الاقتناعُ بأنه السيميائي الذي ينتظرونه ولم يستطِع أحدُهم أن يلاحظَ سذاجةَ عروضه.

تلك هي سَطوةُ الأحلامِ التي تُسيطرُ علينا جميعاً خاصّةً في أوقاتِ القهر والحرمان، فالناسُ لا يحُبِوّن أن يعرفوا أنهم السببُ في سوءِ أحوالهم بحماقتهم وسوءِ أفعالهم، ويُفَضِّلون أن يظنوا أن شيئاً من خارج أنفسهم هو من سَبَّبَ لهم الدمارَ لأن ذلك يجعلهم يحلمون بأن الإنقاذَ أيضا سيأتي من خارج أنفسهم. تَخَيَّل كيف كان الناسُ سيستقبلون براجادينو إذا أتى لقادةِ المدينةِ بتحليلاتٍ مُتَعَمِّقَةٍ للأسبابِ الحقيقية التي أَدَّت إلى انكِماش اقتصادهم، وعَرَضَ عليهم الحلولَ الصعبة والمرهقةَ التي تُنقذهم من خرابهم، الحقيقةُ غالباً ما تكون قبيحةً، وحلولُها مؤلمةٌ، لكن هذا القبحَ والألمَ هو ما عاناه أجدادهم إلى أن استطاعوا تأسيسَ إمبراطوريتهم، لكن الأحلام - وفي حالةِ البندقية حلمُ السيمياء - أسهل على الفهم وأكثر إرواءً لرغبات القلوب.

عليك لكي تحصلَ على السطوة أن تُشعِرَ الناسَ بالبهجة من خلال مخاطبتك لأحلامهم، ولا تَعِدْ أحداً أبداً بالتَّحَسُّن التدريجي ببذلهم للجهود الشَّاقَّةِ بل عليك أن تَعِدَهم بالقمرِ والنجومِ، أو بالتَّغَيُّرِ الرائع والسَّريعِ في حياتهم، أو بكنزِ الذَّهَبِ الذي يمنَحهم الثروةً.

لن يَعجزَ الشَّخصُ عن جَعْلِ الناسِ يؤمنون بِأَشَدِّ آرائِهِ سُخفاً إن كانت لديه القدرةُ على إظهارها بأسلوبٍ جذابٍ (دافيد هيوم، 1711-1766).

مفاتيح للسطوة:

الأحلامُ لا تكفي وحدها وتحتاجُ للتعامل مع الواقع والإصرار بلا كَلَلٍ أو مَلَلٍ، وقَهرُ الواقع لنا هو ما يعطي للأحلام سَطوتَها وتأثيراتها العميقة. في القرن السادس عشر كان الواقعُ الذي تواجهه البندقيةُ هو الانهيار وفقدان النفوذ، وكان حلمُهم هو استعادة أمجادهم السابقة بمعجزة السيمياء، وكلما ازدادَ واقعُهم سوءاً كان حلمهم يكبر بأن تستعيد المدينة سطوتَها وثروتها فجأةً من تحويل الترابِ إلى ذهب.

الشَّخصُ الذي يستطيعُ صناعةَ الحلمِ من قسوةِ الواقعِ تتحققُ له سطوةٌ هائلةٌ. حين تبحثُ عن الحلمِ الذي سيأخذُ بقلوبِ الجُموعِ، عليك أن تَنتَبِهَ للحقائق البسيطة التي تفرضُ نفسها علينا جميعاً، ولا يُغرِيَنَّكَ الصُوَر المجيدة التي يرسمُها الناسُ لحياتهم، بل عليك أن تَجِدَ ما يأسرُهم حقاً ويأخذ بألبابهم، وحين تكتشف ذلك يصبحُ في يَدِك المفتاحُ السحريُّ الذي يُتيحُ لكَ السَّطوةَ عليهم.

بالرَّغمِ من تَغَيُّرِ الناسِ والأزمان إلا أنَّ هناك عددٌ محدودٌ من الوقائع التي تقهرُ الناسَ نَعرِضُها فيما يلي، ونعرض معها الفُرَصَ التي تُوَفِّرها للحصول على السطوة:

الواقع: التَّغيرُ يحدثُ تدريجياً وببطء، ويَتَطَلَّبُ الجُهدَ والتوفيقَ وقدراً كبيراً من إخلاص الذات، وقدراً أكبر من الصبر.

الحلم: بِضربةٍ واحدةٍ يمكنكَ أن تُغَيِّرَ حياتَك ولا تحتاج للعمل الشاقّ أو الحظّ أو التفاني أو الانتظار.

ذلك بالطبع هو الحلمُ الذي يستخدمه المشعوذون إلى يومنا هذا، وكان السبب في نجاحِ براجادينو، قَدَّمَ للناس الوعدَ بالتحولِ المفاجئ والكبير من الفقر إلى الغنى، أو من المرض إلى الصحة، أو من البؤس إلى السعادة، وستجدهم يتبعونك حشوداً وأفواجاً،

فمثلاً كيف استطاعَ الدَّجّال العظيم في القرن السادس عشر ليونارد تورنايسر أن يصبح طبيب القصر في براندنبرج بألمانيا القديمة دون أن يدرس الطب؟. بدلاً من أن يقدم العلاجَ بالبتر أو العلقة أو مطهرات الأمعاء كريهة الطعم والرائحة (وهي العلاجات التقليدية في عصره) كان تورنايسر يقدم شراباً معسولاً ويَعِد مرضاه بالشفاء الفوري. وكان رجال الصفوة المتأنِّقون يفضلون "شراب الذهب" الذي كان يدفعون ثمنه باهظاً. وكان حين يواجه مرضاً عُضالاً يراجع النجوم ويلجأ إلى التعاويذ، فمن كان يستطيع أن يقاوم إغراء أن يتحقق له الشفاء دون أن يعاني أو يتألم.

الواقع: المجتمعات لها قوانين وحدود تحكم الجميع وتجعلهم يلتزمون بعاداتهم المألوفة التي لا تتغير بسهولة.

الحلم: يمكننا أن نصنع عالماً جديداً يزيل القواعد والعادات ويتيح الفرص للمغامرة.

في بداية الأعوام 1700م انتشَرَ بين اللندنيين أَحاديثُ عن شابٍ غامضٍ اسمه جورج سالمانزر، وأنه جاءَ من بلادٍ يراها الإنجليزُ ساحرةً، هي جزيرة فرموزا (تايوان حالياً)، قِبالة شاطئ الصين. تعاقدت جامعةُ أوكسفورد مع سالمانزر لتدريس لغة الجزيرة، وبعدها بسنواتٍ قليلةٍ كُلِّفَ بترجمةِ الإنجيل إلى اللغة الفرموزية، وبعدها أَلَّفَ كتاباً حَقَّقَ أعلى المبيعات من لَحظةِ ظُهورهِ عن الأماكن والعادات في فرموزا، وأصبحَ الشابُ ضَيفاً دائماً على أعضاءِ الأُسرةِ المَلَكِيَّةِ يُسَلِّيهم ويَحكي لهم غرائبَ الأَحداثِ والعادات في بلاد نشأته.

لكن بَعدَ مَوتِهِ تَبَيَّنَ من وصِيّةِ سالمانزر أنه ليس أكثرَ من رجلٍ جاءَ من فرنسا، ويملكُ خيالاً واسعاً، وكل ما قاله عن فرموزا - من أبجديتها ولغتها وآدابها وثقافتها- كان من ابتكاره، فاستغلَّ جَهْلَ الإنجليز بهذه البلادِ لِيُؤَلِّفَ قصةً مُتقَنَةً تُشبِعُ رغبتَهم في المغامرة واكتشاف العجائب، وقد وَفَّرَتْ له قسوةُ المجتمع الإنجليزي في وَأْدِ الرغبات والأحلام التي تُهَدِّدُ قِيَمَ المجتمع فرصةً رائعةً للتلاعب بخيالهم.

وبالطبع يمكنُ للحُلم بغير المألوفِ أن يأخذَ شكلاً جنسياً بشرط أن لا يَتَحَدَّدَ في صورةٍ جسديةٍ جامدةٍ، لأنَّ الجسدَ يَحِدُّ من سطوةِ الخيال، لأنك تستطيعُ أن تراه وتُمسكَهُ وتَملّ منه كما كان يحدث مع معظم المَحظِيّات. مفاتنُ الجَسَدِ لدى المرأةِ تُثيرُ في الرَّجلِ شَهِيَّته إلى البحث باستمرار عن بهجةٍ مختلفةٍ وجمالٍ جديد، ولكي تظل للحُلم بالمرأة سطوته عليه أن يظل دائماً متجاوزاً للواقع، فالراقصة ماتا هاري مثلاً التي أبهرت جماهيرَ باريس قبل الحرب العالمية الأولى، كان جمالُها عادياً، وكان مَرَدُّ سَطوتِها هو ابتكارها لحالة الغربة والغرابة وعدم القدرة على فهمها واستيعاب سِحرها، فكان السِّحرُ لديها ليس الجنس نفسه، ولكن كسرها للمألوف والمعتاد في المجتمع.

من الأشكال الأخرى للحلم بالغريب وغير المألوف هو ببساطة الأملُ في التَّخَلُّصِ من الملل والرتابة. كان كبار المحتالين يحبون أن يستغلوا ما يتميز به العمل من قهر ورتابة وفقدانٍ للمغامرة، فكان المحتالُ مثلاً يستثير الحلم باکتشاف كنزٍ إسبانيٍّ قديم بمشاركة من شابةٍ مكسيكية فاتنة، وابتداع علاقةٍ برئيس دولة من أمريكا الجنوبية، أو أي شيء آخر يكسر رتابة الكدح والعمل.

الواقع: المجتمعاتُ مُنقسمةٌ وتتكون من أفرادٍ تتنازعهم المصالح والخلافات.

الحلم، أن تُوحّد المثل العليا والروابط الروحانية بين الناس وتسمو بهم فوق النزاعات.

في 1920 استطاعَ المُحتالُ أوسكار هرتزل أن يجمعَ ثروةً كبيرةً في وقتٍ قليل باستخدام حيلة السير فرانسيس دراك القديمة والمعروفة. قام هرتزل بإقناع كل من كان لقبهم «دراك» أنه علم بمكان «کنز آل دراك» وهو كنزٌ يكفي أن يمنحَ كلاً منهم مالاً وفيراً، وأن عليهم أن يتكاتفوا معاً لمواجهة الحكومة والنافذين الذين يرغبون في مَنعِ الوَرَثَة الحقيقيين من نَيل حقوقهم، وتَكَوُّن بين هؤلاء الناس رابطٌ روحاني من الإحساس بالقهر وحلم مشترك لاسترداد ميراثهم المنهوب، وبدأوا في شَنِّ حملاتٍ واجتماعات تُؤَجِّجُ المشاعر. اصنع مثل هذا الرابط بين الناس وسوف تحصل على سطوة كبيرة؛ إلا إنها سطوةٌ خطيرة قد تنقلب ضدك في أي لحظة، فتلك هي حيلة المحرضين ومثيري الفتن.

الواقع: الموت حَقٌ، وما زال وانقضى لا يعود أبداً للحياة من جديد. الحلم: يمكن إحياء الماضي وبَعْثُ الأعمال العظيمة للحياة.

تلك حيلة يستخدمها المحتالون بطرق مختلفة ولكنها تتطلب الكثير من المهارة والمكر.

يُجمِعُ النقّادُ والهواةُ على قيمة وجمال لوحات فيرمير، إلا أنها لوحات نادرة للغاية. لكن في 1930 بدأت تظهر أعمال جديدة لفيرمير، وتَمَّ عرضُها على الخبراء، فأكدوا أنها أصلية، وكان امتلاك واحدة منها يُثري صاحبها للأبد. وكما عاد عُزَيْر عاد فيرمير بمعجزةٍ للحياة، وتَمَّ إحياءُ الماضي.

اكتُشفَ لاحقاً أن اللوحات الجديدة كانت من إبداعٍ مُزَيِّفٍ هولندي في منتصف العمر هو هان فان ميجران، وقد اختار فيرمير موضوعاً لاحتياله، لأنه كان يفهمُ سَطوَة الحلم، فقد صَدَّقَ الخبراء والجمهور أن اللوحات أصلية، لأنهم كانوا يتمنون من أعماقهم أن تكون أصلية.

تَذَکَّر: مفتاحُ الحلم هو أن تنأى بالناس عن الواقع، فهذا التنائي يوحي لهم ويغريهم ببساطة الحياة وخلوها من التعقيدات. لذلك عليك أن تجعل ما تطرحه عليهم مخالفاً لما يعيشونه من قهر، واجعله هائماً كالسراب الذي يُغري ظَمأهم ويفرُّ من بين أيديهم إذا اقتربوا منه. ولا تكن محدداً في وصفك لما تُمَنّيهم به، بل اجعله مفتوحاً على كل التفسيرات. فالسِّرُّ في قدرة الحلم الزائف هو أن يظل قريباً من الناس بما يكفي لإغرائهم وإثارة خيالهم، ونائياً بما يُبقي على ظمأهم ورغبتهم في المزيد.

 

الصورة: القمر يظهرُ لنا ثم يغيب، ويَتَغَيَّرُ شكلُه ولا يُمكننا أن نصل إليه أو نحتويه، ننظرُ إليه فيأخذنا الشَّغَفُ والخيال، ولا نستطيع أبداً أن نعتاده ونبتذله، بل يظل يُثير فينا الأحلام دون انقطاع. لا تقدم للناس الواضح والمعتاد، بل مَنّيهم بالقمر.

اقتباس من معلم: الكذبةُ شيءٌ يَختَلِقُة الإنسان ويزخرفه ليثير في النفس الأحلام، وقد تُدخِله في نَشوةٍ صوفية، أما الواقعُ فَمُحبِطٌ وكئيبٌ ولا يطيبُ لأحد مَذاقه. وأكثرُ من يكرهه الناس هو من يذكرهم دائماً بواقعهم، ولا يُثيرُ فيهم الأحلامَ والرومانسية ... وقد وجدتُ دائماً أن الخيالَ والحلمَ أكثرُ ربحاً وإثارةً بكثيرٍ من قول الحقيقة. (جوزيف وايل؛ «الفتى الأصفر»، 1857-1976).

عکس القاعدة:

التلاعبُ بأحلام الناسِ قد يمنحك السَّطوَةَ، ولكنه يُعَرِّضُكَ أيضاً للمخاطر، فالحلم يحتفظ دائماً بروح اللعب- فمن دواخلهم يعرفُ الجمهورُ إلى حد ما أنك تستغفلهم، ولكن يرغبون في الإبقاء على الحلم حيّاً، لأن ذلك يُسَلِّيهم ويُبعِدهم مؤقتاً عن الواقع، فلا تأخذ الأمر بجدية زائدة وتقترب كثيراً من النقطة التي تجعلهم يطلبون منك أن تُحَقِّقَ ما تَعِدهم به، لأنك إن وصلتَ إلى هذه النقطة تكون في خطر كبير.

بعد أن وَصَلَ براجادينو إلى ميونخ، وجَدَهم أعقلَ وأقلَّ اعتقاداً بالسيمياء من أهالي البندقية، فلم يكن يؤمن بها سوى الدوق الذي كان يَتَمَنّى أن ينقذه السِّحرُ من ورطته، وحين بدأ براجادينو في ممارسة لعبة الإغراء المعتادة وأخذ بتلقي الهدايا متوقعاً من الجمهور أن ينتظر، فوجئ بتصاعد غضبِ الناس من أنهم يدفعون المال دون أن يحصدوا النتائج. وفي عام 1952 طالب الناس بالقصاص، وسريعاً سقطت رأس براجادينو في سَلّة المقصلة. لعب براجادينو نفس لعبته القديمة بإلقاء الوعود دون تحقيق النتائج، ولكن هذه المرة لم يقدر مدى صبر مضيفيه، وادي اکتشاف فشله عن الوفاء بوعوده لهم إلى فقدانه لحياته.

نقطة أخيرة: لا ترتكب أبداً خطأ الاعتقاد بأن الأحلام يجب أن تكون دائماً حالمة وخيالية، فالحلم بطبيعته يناقض الواقع، لكن الواقعً يكون أحياناً استعراضياً ومُنَمَّقاً لدرجةٍ تجعلُ الناس يَحِنّون للبساطة. مثالٌ لذلك الصورةُ الخشنة للمحامي الريفي الملتحي التي صنعها إبراهام لنكولن لنفسه وجعلت الناس ينتخبونه للرئاسة كرجل عادي يمثل عامة الشعب.

استطاع ب. ت. بارنوم أن يُقَدِّمَ عرضاً ناجحاً مع توم ثامب القزم الذي كان يُقَلِّدُ مشاهير قادة الماضي من أمثال نابليون، ويسخر منهم سخريةً لاذعة، وقد أُعجِبَ الجميعُ وحتى فيكتوريا ملكة إنجلترا بهذا العرض، لأنه كان يلائم مزاج العصر: فقد مَلَّ الناسُ من أمجاد القادة المغرورين، ورأوا أن الحكمة الحقيقية هي حكمة الرجل العادي والبسيط. هكذا کَسَرَ توم ثامب النَّمَطَ المُعتادَ لاعتقاد الناس بأن الاستثنائي وغير المألوف هو الأمثل، لكن دون أن يُخالف قاعدة الأحلام، لأنه أظهر الرجل البسيط خالياً من العيوب ويعيش بسعادة على عكس الأثرياء وأصحاب النفوذ.

تلاعب لينكولن وتوم ثامب بخيال العامة ولكن دون أن يفقدا تنائيهما عن الواقع. إحرص أنت أيضاً أن تنأى بأحلامك عن الواقع، وأن تبتعد بشخصيتك «الجماهيرية» عن المعتاد، وإلا لن يرى فيهما الناس ما يُحَرِّكُ خيالهم.

 المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق