القاعدة 34 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين
الحكمة:
المكانة التي تضعها لنفسك هي غالباً التي يضعها لك الناس. فالتعامل بسوقِيَّة وتَدّني يجلب عليك في النهاية ازدراء من حولك. تَصَرَّف كالملوك الذي يلزمون أنفسهم بالعزة والوقار فيجبرون الناس على النظر إليهم برهبة وإكبار. اِرْتَقِ في تصرفاتك وسيرى الناس كأنك وُلِدتَ لتكون ملكاً.
انتهاك
القاعدة:
في
يوليو من عام 1830
اشتَعَلَت في باريس ثورةٌ أَجبَرَت الملك شارل العاشر على التنازل عن العرش، وتَكَوَّنَت
لجنةٌ لاختيار من يَخلفه، ووَقَعَ اختيارهم على لويس فيليب دوق أورليانز.
ظَهَرَ
من البداية أن لويس فيليب يُشَكِّلُ نوعاً مُختلِفاً من الملوك؛ ليس فقط لأنه من فَرعٍ
آخر من العائلة الملكية، أو لأنه حَصَلَ على المُلك من قِبَلِ لجنةٍ وليس بالوراثة
مما يُشَكِّكُ في شرعيته. كان السبب في اختلافِ أُسلوبِهِ هو أنه شَخصيّاً لم يكن
يُحِبُّ الالتزام بمراسيم وقيودِ المَلَكِيَّة، وكان لَدَيْهِ أصدقاء من المصرفيّين
أكثر كثيراً من أصدقائه من النبلاء، ولم يكن يهدفُ إلى وَضْعِ أسلوبٍ جديدٍ
للملكية کما فَعَلَ نابليون، بل إلى التَّنازُلِ عن مَكانَتِه مُفَضّلاً الاختلاطَ
برجال الأعمال وأبناء الطبقة الوسطى الذين اختاروه مَلِكاً. وهكذا لم يكن الرَّمزُ
المُمَثَّل للويس فيليب التاج أو الصولجان بل القبعة والمظلة، وكان يمشي بها
متفاخراً في شوارع باريس كأنه بورجوازيٌّ يَتَجَوَّلُ في نُزهة. وحين قامَ لويس
فيليب بدعوة جيمس روتشلد أهمّ المصرفيين في فرنسا إلى قصره أَخَذَ يُعامِله کَنَدٍّ
له، وعلى عكس الملوكِ من قَبلِه لم يَتَحَرَّج عن الحديث مع روتشلد في المال
والأعمال التجارية، بل إنه لم يَتَحَدَّث معه في أي شيءٍ آخر لأنه كان يُحِبُّ
المالَ وكان قد جَمَعَ بالفعل ثروةً هائلة.
أَخَذَ
الناسُ بمرور الوقت يحتقرون هذا الملك البورجوازي»، ولم يَحتَمِل النبلاءُ ذلك
الملك الذي ليس فيه شيءٌ من المَلَكِيَّة، وحتى جموع الفقراء التي أخذت في التزايد
والتي أَنهَت على حكمِ شارل العاشر، لم تَرضَ عن هذا الرجل الذي لم يَبْدُ لهم مَلِكاً
حقيقياً أو مُصلِحاً حقيقياً، وحتى المصرفيين الذين ظَلَّ لويس يُقَرِّبهم إليه
رأوا أنهم هم من يديرون دَفَّةَ البلاد وليس هو، وبدأوا في التَّعامُلِ معه
باستهانة، حتى أن روتشلد لم يَتَحَرَّج أن يُعَنِّفه على الملأ لِتَأَخُّره في
الوصول عن رحلةٍ كانت مُقَرَّرَةً بالقطار الملكي، أي أن مُعاملةَ المَلِكِ
للمصرفيين باعتبارهم أنداداً له جَعَلَت المصرفيين يتعاملون معه وكأنه أقلُّ منهم
شأناً.
وأخيراً
بدأت تعودُ انتفاضاتُ العُمّال التي أَطاحَت بالمَلِكِ السابق، وقد قَمَعَها لويس
فيليب بعنف، ولكن قد نَنْدَهِشُ ونتساءلُ ما الذي كان يدافع عنه لويس بهذه
الوحشية؟ من المُؤَكَّد أن السبب لم يكن الإبقاء على المَلَكِيَّة التي طالما
احتقرَها، أو من أجل الجمهورية الديمقراطية التي منعها حكمه. وبدا أن ما يدافعُ
عنه حقاً هو ثروتُه الشخصية وثروات المصرفيين أصدقائه، وذلك بالطبع لم يكن كافياً
لأن يضمن له ولاء المواطنين.
مع
بداية عام 1848
بدأَ الناسُ من كل الطبقاتِ في فرنسا في التَّظاهُرِ من أجل إجراءِ إصلاحاتٍ
انتخابية تُنشئ في البلاد ديمقراطيةً حقيقية، وفي فبراير تصاعدت المظاهراتُ وتَحَوَّلَت
إلى العنف. لكي يهدئ لويس فيليب من غَضَبِ العامة فَصَلَ رئيس وزرائه وَعّيَّنَ
مكانه ليبرالياً، إلا أن ذلك قد أَدّى إلى عكس ما أراده الملك، لأن جُموع الشَّعبِ
رأتْ أنها قد تُجبِره على المزيد، وبسرعةٍ تَحَوَّلَت المظاهراتُ إلى ثورةٍ حقيقية،
وبدأَ القتالُ وَوَضْعِ المتاريس في الشوارع.
يوم
23 فبراير حاصَرت جموعُ
الباريسيين القصرَ المَلَكيّ، وفي مفاجأة باغَتَتْ الجميعَ قَرَّرَ لويس فيليب التَّنازلَ
عن العرشِ وَفَرَّ إلى أنجلترا دون أن يتركَ خَلَفاً له، أو حتى أن يُرَشِّحَ أحداً،
وانْفَضَّتْ حكومتُه وغابَ رجالُها عن الساحة كأنها سيرك مُتجول يغادرُ إحدى المدن.
التعليق:
أَخَذَ
لويس فيليب بإرادته يُبَدِّد الحالة التي تحيط بالقادة والملوك، وظنَّ أن استهانته
بمظاهر العظمة ستُمَهِّدُ لعصر جديد يتصرف فيه القادة الأشخاص العاديين. كان مُحِقّاً
بالفعل في أن عصراً جديداً يخلو من ملوك وملكات الماضي كان في طريقه للبزوغ، لكنه
كان مُخطئاً تماماً حين ظنَّ أن آليات السَّطوة سوف تَتَغَيَّر.
استَلْطَفَ
الفرنسيون في البداية مَظهَرَ قُبّعة ومظلة الملك البورجوازي، لكن بمرور الوقت أخذ
يزعجهم. كان الناس يعرفون أن لويس فيليب ليس مثلهم، وأن القبعة والمظلة لم تكونا
أكثر من حيلةٍ تُوَلِّدُ فيهم الحلم بأن البلاد قد عرفت أخيراً المساواة بين البشر، إلا أن الحقيقة هي أن
فرنسا لم تشهد أبداً فروقاً في الثروات أكثر من التي شهدتها في عصر لويس فيليب.
كان الشعبُ الفرنسي يَتَوَقَّعُ من حاكِمه نوعاً من الاستعراض والحضور، وحتى مُتحمساً
مثل روبسبيير الذي حصل على السطوة في ذروة الثورة الفرنسية قبل ذلك بخمسين عاماً
كان يعرف هذه الحقيقة، وكذلك نابليون الذي حَوَّلَ الجمهورية الثورية إلى حُكْمٍ
إمبراطوري كان يستوعب هذه الحقيقة حتى النخاع، وبالفعل أظهر الفرنسيون رغبتهم
الحقيقية بعد أن فَرَّ لويس فيليب من الساحة بانتخابهم حفيد نابليون بونابرت رئيساً
للبلاد، ولم يكن حينها شخصاً معروفاً، ولكن اسمه كان يثير فيهم الأمل في استعادة
هيبة السطوة التي كانت لِجَدِّه وأن ينسيهم الذكرى الهزلية التي تَرَكَها لديهم
"الملك البورجوازي".
قد
ينجذبُ رجال السَّطوة أحياناً لإغراء التظاهر بأنهم لا يختلفون عن رعاياهم، لكن
الناسَ المُراد أن تُؤَثِّرَ فيهم هذه اللَّفْتَة سرعان ما يعرفون الحقيقة بأن
المقصود ليس أنهم سيحصلون على المزيد من السَطوة، بل أن مصيرهم سيَتَحَدَّدُ بمصير
قائدهم. النوعُ الوحيد الناجح من المشاركة مع العامة هو النوع الذي اتخذه فرانكلين
روزفلت، والذي يبين أن القائد يتشارك مع العامة في القيم والأهداف، ولكن من داخله
يظل سيداً حتى النخاع، ولا يتظاهر أبداً أنه لا يوجد فارقٌ يفصله عن جموع الناس.
القادةُ
الذين يُبَدِّدون الفوارقَ بينهم وبين جماهيرهم بالاستغراق في الحميمية والتَّوَدُّد
يفقدون قدرتهم تدريجياً على حصد الولاء أو الخوف أو الحب من رعاياهم، بل لا يجدون
منهم إلا الازدراء والاستهانة، ويصبحون في نظرهم مثل لويس فيليب، لا يستحقون حتى
الموت على المقصلة - وأفضل ما يمكنهم فعله هو أن يختفوا فجأة في ظلام الليل
وينساهم الجميع وكأنه لم يكن لهم أبداَ وجودٌ.
مراعاة
القاعدة:
حين
كان کريستوفر كولومبوس يبحث عمّن يُمَوِّلُ له رحلاته الأسطورية عبر المحيط الأطلنطي، كان الكثيرون من حوله يظنّونه
من نُبلاء إيطاليا، وقد نَقَلَ ابنه هذا الاعتقاد إلى الأجيال التالية حين نَشَرَ
سيرةً لوالده تَحكي أنه سَليلُ الكونت کولومبو
حاکم قلعة کوکارو في مونفرات، وأن الكونت كولومبو نفسه
سليل القائد الروماني الأسطوري کولونيوس، وأنه يُرجّح أن اثنين من أبناء عمومته
الأقربين يمتد أصلهما إلى إمبراطور القسطنطينية، وهي نشأة مميزة بالتأكيد لو كانت
حقيقية ولكنها لم تكن أبدا كذلك. الحقيقة هي أن كولومبوس كان ابن دومنيکو کولومبو،
وكان يعمل نَسّاجاً متواضعاً، ثم افتتحَ مَتجراً للخمور، وحين وَصَلَ کريستوفر إلى
سِنّ الشباب بدأ يعمل في بَيْعِ الأجبان.
عَمِلَ
کولومبوس بنفسه على خَلْقِ الأسطورةِ حول أَصلِهِ النبيل، لأنه كان يشعر دائماً أن
الأقدارَ تَدَّخِرُ له إنجاز أعمالٍ عظيمةٍ، وأن شيئاً من الدماءِ المَلَكِيَّةِ
يجري في عروقه، وبدأ بالفعل يتعاملُ وكأنه سَليلُ نبلاء، بعد أن عَمِلَ لسنواتٍ
كتاجرٍ مُتَنَقِّلٍ على سفينةٍ تجارية، وهي مهنةٌ لم تُحَقِّق له أيَّ خُطوةٍ في
سبيل طموحاته، انتقلَ كولومبوس إلى لِشبونة، وكان أصلاً من مدينة جَنَوَة، وبفضل
قصته المُخْتَلَقَةِ عن أصله النبيل، استطاعَ أن يتزوجَ فتاةً من أُسرةٍ راسخةٍ في
لشبونة، لها صلاتٌ قَوِيَّةٌ بالعائلة المَلَكِيَّةِ في البرتغال.
بمعارف
أنسبائه وبالخديعة استطاع كولومبوس أن يُدَبِّرَ مقابلةً مع جياو الثاني ملك
البرتغال، وطَلَبَ منه أن يُمَوِّلَ له رحلةً في اتجاه الغرب لاكتشاف طريقٍ مُخْتَصَرٍ
للقارة آسيا، وفي مقابلِ أن يجعلَ كل ما يكتشفه تحت سلطة ملك البرتغال، طالَبَ بأن
يُمنَحَ عدة حقوق أولها أن يُعَيَّن قائداً أعلى لأساطيل البحر المحيط، وأن يَنُوبَ
عن المَلِك في حُكْمِ كل الأراضي التي يكتشفها، إضافة إلى 10
بالمائة من واردات التجارة مع هذه الأراضي المكتشفة، وأن تُوَرَّثَ هذه الحقوق
لأبنائه على مر العصور. طالب کولومبوس بكل هذا رغم أنه لم يعمل قبلها أكثر من بائعٍ
بسيط على سفينة تجارية، ولم يكن يعرف شيئاً عن الملاحة، ولم تكن له أي خبرة في
قيادة طاقَمٍ من الرجال، باختصار أنه لم يكن لديه أي مؤهلات تُمَكِّنه من إنجاز
الرحلة التي عرضها على الملك. الأدهى من ذلك أنه لم يذكر تفاصيل للكيفية التي يريد
أن يحقق بها خطته المقترحة، وما طرحه لم يكن أكثر من وعود فضفاضة.
بعد
أن انتهى كولومبوس من مطالبه ابتسم له جياو وَرَدَّهُ بلطفٍ، وتَرَكَ البابَ
مفتوحاً للتفكير في الأمر في المستقبل. ومن المؤكد أن كولومبوس قد أدركَ حينها
شيئاً لن ينساه بعدها أبداً، رغم أن الملك قد رَدَّ مطالبَه، إلا أنه اعتبرها مَطالبَ
مشروعة، ولم يسخر من كولومبوس أو يَتَشَكَّك في أصله أو وثائق اعتماده. الحقيقة أن
الملك كان قد انبهر بجرأة كولومبوس في طرح مطالبه، وأحبَّ التعامل مع رجلٍ لديه
مثل هذه الثقة في نفسه. وقد أَكَّدَت هذه المقابلة صِدْقَ غرائزه: بأنه حين يطالب
بالقمر ينال الاحترام وتعلو مكانته، لأن الملك رأى أن من يطالب بأحقيته بهذا القدر
من الجرأة، إما مجنونٌ أو فعلاً يستحق ما يطلبه، ولم يكن يبدو على كولومبوس أي
علامات على الجنون.
بعد
سنواتٍ قليلة انتقل کولومبوس إلى إسبانيا، وبفضل معارفه في البرتغال استطاع أن يصل
إلى الدوائر العليا في البلاط الملكي الإسباني وحصل على إعانات من ممولين كبار،
وحل ضيفاً على موائد الأدواق والأمراء. وكان يكرر لدى هؤلاء جميعاً طلبه بتمويل
رحلةٍ باتجاه الغرب، إضافة إلى الاستحقاقات الأخرى التي طلبها من جياو الثاني. كان
بعض رجال الصَّفوة يرغبُ حقاً في مساعدته مثل دوق مدينا، لكن كان يعوزهم المال
والقدرة على منحه المناصب التي يطلبها. لكن كولومبوس لم يتراجع وأدرك أنه لا يوجد
سوى شخص واحد يستطيع أن يساعده ويحقق له مطالبه: الملكة إيزابيلا. وفي عام 1487
استطاع أن يُدَبِّرَ مقابلةً مع الملكة، وعلى الرغم من أنه لم ينجح في إقناعها
بتمويل رحلته إلا أنه استطاع أن ينال إعجابها وأن يَتَرَدَّدَ كثيراً على قصرها.
في
عام 1492
استطاع الإسبان أخيراً أن يُخرجوا المسلمين من المناطق التي حکموها لعدة قرون،
وأزاحوا عن كاهلهم ميزانيات الحرب، ورأت إيزابيلا أنها
تستطيع أخيراً أن تُحقق مطالب صديقها المُسْتَكْشِف،
وقَرَّرَتْ أن تدفع ثمن ثلاث سفن بمعداتها ورواتب طواقمها مع راتب متواضع
لكولومبوس. الأهم أنها أبرمت عقداً يمنح كولومبوس الألقاب والحقوق التي أصرَّ
عليها، واستثنت من العقد النهائي مطالبه بالحصول على 10
بالمائة من عائدات البلاد التي سوف تكتشف وخاصة أنه كان مطلباً مفتوحاً لا يتحدد بزمن
(ولو لم يتم حذف هذا المطلب لأصبح كولومبوس وورثته أغني العائلات على وجه الأرض،
ولكن كولومبوس لم يقرأ أبدا العقد النهائي).
بعد
أن رأى کولمبوس أن مطالبَه قد تَحَقَّقَتْ، بدأ في نفس العام الإبحار بحثاً عن
الطريق المختصر إلى آسيا (دون أن يغفل عن تعيين أفضل بحار في عصره ليساعده في
الملاحة عبر المحيط). لم تستطع الرحلة أن تجد طريقها، ولكن حين أعاد كولومبوس طلبَه
على الملكة لتمويل رحلة أخرى في العام التالي، وكانت هذه المرة أكثر طموحاً وكلفةً،
وافَقَت الملكةُ دون تَرَدُّدٍ لأنها أصبحت ترى في كولومبوس بالفعل رجل الأعمال
العظيمة.
التعليق:
كانت
مهارات کريستوفر كولومبوس في أفضل التقديرات متواضعة، وكانت معرفته بالبحر أقلّ من
أي بحار في سفينته، ولم يكن يستطيع أن يحدد خطوط الطول والعرض للبلاد التي
يكتشفها، وكان لا يُفَرِّق بين الجُزر المحدودة والقارات الشاسعة، وكان يُسئ
معاملة طاقمه. لكنه كان بارعاً في شيء واحد: أي في الكيفية التي يُرَوِّجُ بها
لنفسه، وبدون ذلك لم يكن لابن بائع الجُبن الذي يعمل هو نفسه تاجراً بسيطاً أن
يحظى بمخالطة الملوك والعائلات العريقة.
كان
لَدى کولومبوس مَقدِرَةً مُدهشة على إبهار النبلاء، وكان مَرَدُّ ذلك هو الطريقة
التي يُظهِر بها نفسه، فقد كان لديه دائماً شعور مُشِعٌّ بالثقة بنفسه لا يتناسب
مع إمكاناته المحدودة، كما أن ثقته بنفسه لم تكن من النوع العدائي والمُنَفِّر
الذي يُظهره محدثو النعمة، بل كانت اعتزازاً بالذات من النوع الهادئ والرزين.
الحقيقة
أنها كانت من نفس طبيعة ثقة النبلاء بأنفسهم، فلم يكن أصحاب السطوة في العصور
القديمة يشعرون بالحاجة لإثبات أنفسهم أو تأكيد مكانتهم بل كانوا يرون أنهم
يستحقون دائماً الأفضل، ولا يطالبون أبداً بالأقل. وهكذا كان هؤلاء يشعرون سريعاً
بالأُلفة مع كولومبوس، لأنه كان ينظر لنفسه كما ينظرون لأنفسهم بأنهم مختلفون عن
العامة، وأن قَدَرَهم هو تحقيق البطولات والأعمال العظيمة.
ولتفهم
أنك أنتَ من تُحَدِّد سعرك لنفسك، فالطريقة التي تظهر بها نفسك تعكس تقديرك لما
تستحقه، فإن طالبتَ بالقليل برأس منخفض وساقين ترتعدان سيُظن الآخرون أن ذلك
طبيعتك، لكن هذا السلوك ليس أنت حقاً، ولكنه الطريقة التي اخترت أن تُظهر بها نفسك
للآخرين، ويُمكنك بسهولة أن تَتَعَلَّم أن تَتَّخِذَ مَظهر كولومبوس، أي الطلاقة
والثقة بالنفس والشعور بأنك وُلِدتَ لِتُتَوَّجَ مَلِكاً.
هناك
شيء مميز يحدث لكل المخادعين الكبار هو السبب في ما لهم من سطوة، ذاك أنهم أثناء
ممارسة الخداع يتملكهم إيمان عميق بأنفسهم هو الذي يُمَكِّنهم بشكل معجز من الأخذ
بألباب الناس وإجبارهم على فعل ما يريده منهم المخادع (فريديريك نيتشه 1844
– 1900).
مفاتيح
للسطوة:
في
بداية حياتنا حين كُنّا أطفالاً كانت تملأنا جميعاً الطاقة والحماس، نتمنى الكثير
ونشعر بأن كل ما نتمناه سوف يَتَحَقَّق. وفي أول مشوارنا المهني يظلّ معنا غالباً
هذا الحماس ونتوقع أننا سوف نُحَقِّق الكثير، ولكن بالتدريج يُؤَثِّر فينا الفشل
والإحباط ويضع حدوداً لما نَتَمَنّاه ونَتَوَقَّعه، وبمرور الوقت تَتَرَسَّخ فينا
الحدود التي نفرضها على أنفسنا وتُقَلِّل من آفاق طموحنا، ونَنحني ونخضع لضغوط
الواقع، ونَتَوَسَّل حتى ونحن نطلب أبسط حقوقنا. علاج هذا التقلص في آفاق طموحاتنا
هو أن ندرب أنفسنا ونجبرها على العكس، أي أن نُقَلِّل من تأثير الفشل علينا،
ونتجاهل الحدود التي يفرضها الواقع علينا، ونَتَعَلَّم من جديد أن نطالب بالكثير،
ونثق أنه سوف يَتَحَقَّق
لنا كما يفعل الأطفال، ولتحقيق ذلك علينا أن نستخدم إستراتيجية خاصة يمكننا أن نُطلق
عليها إستراتيجية التاج.
تعتمد
إستراتيجية التاج على تسلسلٍ بسيط من الأفعال والنتائج: إن آمَنّا أنَّ قَدَرَنا
هو أن نُحَقِّقَ إنجازاتٍ عظيمة يشعر مَن حولنا بهذا اليقين ويؤثر فيهم كتأثير
الحالة التي تحيط بتاج الملك، وسوف يظن الناس أن لدينا أسباباً نَبني عليها هذا
اليقين بأنفسنا، من يرتَدُون التاجَ يبدو عليهم أنهم لا يُبالون بأي فروض من
داخلهم تُحَدِّد لهم ما عليهم أن يطلبوه أو يتوقعوا أن يحققوه، ويرى الناس فيهم
ذلك، فلا يفرضون عليهم هم أيضاً حدوداً. استخدم إستراتيجية التاج وستندهش من أنها
غالباً ما تُحَقِّقَ لك ما تريد. تَأَمَّل الأطفال السعداء الذين يطلبون ما يرغبون
وتتحقق لهم مطالبهم، وثقتهم بأنه سيتحقق لهم ما يريدون هو الذي يُضفي عليهم سحراً
ويجعل الكبار يسعدون بتحقيق أمنياتهم كما أَسعَدَ إيزابيلا أن تحقق مطالب كولومبوس.
يَصِفُ
لنا التاريخ الكثيرينَ من الأشخاص الذين لم يَرِثوا مكانةً كبيرة بمولدهم، لكنهم
استطاعوا باستخدام إستراتيجية التاج وبإيمانهم العميق بقدراتهم أن يحقّقوا المكانة
التي تَمنّوها، أشخاصٌ من أمثال تيودورا البيزنطي وكولومبوس وبيتهوفن ودزرائيلي،
كانت حيلة هؤلاء بسيطة، وهي أنهم رَسَخّوا في أعماقهم إيمانهم الواثق بأنفسهم.
عليك أن تتصرف كملك لأنك حتى وإن رأيتَ أنك بذلك تُخادِعُ نَفسَكَ ستجد في أغلب
الأحوال أن الآخرين يعاملونك بالفعل كأنك مَلِكٌ.
التّاجُ
يُمَيِّزُك عن الآخرين، لكنك أنت من تجعل هذا التمايز حقيقياً بالتَّصَرُّف بطريقة
مختلفة بإبراز الفارق والمسافة بينك وبين الآخرين. أحد الطرق التي تميزك هي أن تَتَصَرَّف
دائماً بكرامة مهما كانت الظروف. لم يكن لدى لويس هذا الشعور بالفارق بينه وبين
الآخرين لأنه كان مصرفياً أكثر من كونه ملكاً، وبمجرد أن بدأ رعاياه في تهديده
استسلم لهم، وشَعَرَ الجميع بضعفه فتجرأوا على الانقضاض عليه. هكذا أَدّى فقدان
لويس فيليب للكرامة الملكية وثبات العزيمة إلى رؤية الآخرين له وكأنه مُحتالٌ،
فأصبح من السهل عليهم إسقاطُ التاج عن رأسه.
عليك
أن لا تخلط بين التَّصَرُّف الملكي والغطرَسَة، فقد تظن أن الغطرسة هي ما يميز
الملوك لأن الحقيقة أنها صفة الضعفاء ومن يؤرقهم الخَوَر من داخلهم، وذلك هو العكس
تماماً مما يتصف به الملوك.
في
صغره كان اسم هيلا سيلاسي الذي حكم أثيوبيا لأكثر من أربعين عاماً ليج تافاري،
وكان سليل عائلة من النبلاء لكن كان أمله ضعيفاً في أن يصبح ملكاً لأنه كان متأخراً
في سلسلة النسب عن الملك الحاکم وقتها منليك الثاني. لكن تافاري كان يَتَصَرَّف من
عمر مُبَكِّر بثقة واعتزاز مَلَكي كان يدهش كل من حوله.
في
سن الرابعة عشر انتقل تافاري ليعيش في القصر الملكي وتأثر الملك كثيراً برباطة جأش
الفتى حين يتعرض للضغوط، وبما كان يظهره من صبر وأناة وثقة شديدة بالنفس، بسرعة
أصبح تافاري من المقربين من الملك. كان الفتيان الآخرون من أبناء النبلاء مغرورين
ومشاكسين وحاقدين وكانوا يهينون تافاري المحب للقراءة ويسخرون منه، لكنه لم يكن
يستجيب أبداً بغضب لأنه كان يرى ذلك علامة على الضعف الذي لم يسمح لنفسه أبداً أن
يسيطر عليه. كان الكثيرون من المحيطين يتنبأون لتافاري أن يصل يوماً ما إلى قمة
السلطة لأنه كان يَتَصَرَّف وكأنه يملكها بالفعل.
بعد
ذلك بسنوات وفي عام 1936
احتلَّ الفاشيون الإيطاليون أثيوبيا ونفوا الأسرة الملكية ومنها تافاري والذي كان
يسمى حينها هيلا سيلاسي، من المنفى استطاع سيلاسي أن يخاطب عصبة الأمم دفاعاً عن
قضية بلده، وأخذ الإيطاليون الحاضرون يهينونه بالتعليقات البذيئة، لكنه لم يَتَخَلَّ
عن وقاره وتَصَرَّفَ وكأنه لا يسمعهم، وقد رَفَعَ ذلك من قَدْرِهِ في عيون
الحاضرين وأضاف المزيد من القُبْحِ إلى خُصومه.
الحقيقة
أن الوقار هو القناع الذي عليك دائماً أن ترتديه في المواقف الصعبة: فهو يجعلك
تبدو وكأنك لا تتأثر بشيء وأنك جاهزٌ للرَّدِّ في أي لحظة، وهو انطباعٌ يمنحك
بالفعل سطوة كبيرة.
الأسلوب
الملكي في التعامل له استخدامات أخرى، فقد اكتشف المحتالون من قديمٍ فوائد انتحال
مظهر النبلاء، فهو من ناحية يَشِلُّ هجوم ضحاياهم ويمنعهم من التشكيك في ما يطرحه
عليهم المحتال، ومن ناحية أخرى يرهبهم ويضعهم في موقف الدفاع، وكما اكتشف الكونت
لوستج أنه بمجرد أن يُدخِل الضحية في موقف الدفاع تصبح خسارته محتومة. كان المحتال
الآخر الشهير الفتى الأصفر وايل كثيراً ما يستخدم فَخَّ الرجل الثري الذي يتصرف
برباطة جأش وعدم القلق من شيء، ويشرح لضحيته مشروعاً سحرياً لِجَنْيِ المال الوفير
متحدثاً بتحفظ واعتزاز ملكي دون إبداء الشغف أو الحماس، فَيُشعِر الضحية وكأَنَّ
الرجل بالفعل فاحش الثراء ويتوسل إليه أن يمنحه الفرصة للمشاركة في مشروعه الذي
سيمنحه هذا القَدْر من المال.
أخيراً،
ولكي تُعَزِّز الحيل النفسية الداخلية التي تجعلك تَظهر بمظهر ملكي، عليك أن تُؤَكِّدها
باستراتيجيات خارجية تساعدك على إضفاء هذا التأثير. أولا يمكنك أن تستخدم
إستراتيجية كولومبوس بأن تطالب بجرأة وتضع سعراً عاليا لمواهبك ولا تتردد. ثانياً
يمكنك أن تطلب باعتزاز ووقار أن تقابل أعلى شخص في المؤسسة، وهكذا ستجد نفسك فوراً
على نفس مستوى المدير التنفيذي أو صاحب النفوذ الذي تستهدفه. إنها إستراتيجية النَّبي
داود مع جالوت: اختيارُك لخصمٍ قويّ يُظهرك أنت أيضاً بمظهر القوي.
ثالثاً
امنح خدمةً أو هديةً لمن هم أعلى منك مَرتبةً، وهي إستراتيجية تَصلُح خاصةً لمن
لديهم راعٍ لأعمالهم: فحين تمنح هدية لراعيك تُصبح كأنك تقول له أنكما متساويان.
حين أراد الكاتب الشهير في عصر النهضة بيترو مارتينو من دوق مانتوا أن يكون راعيه
القادم، لم يُخاطبه بِتَمَلُّق أو تَوَسُّل، لأن ذلك كان سيُدني من قَدْرِهِ في
نظر الدوق، ولذلك تَقَرَّبَ للدوق بالهدايا، وكانت عبارة عن لوحات من إبداع الرسام
تيتان الصديق المقرب لأرتينو. أَدّى تَقَبُّل الدوق للهدايا إلى خلق نوع من
الصداقة بينه وبين الفنان: وكان ذلك يُشعِر الدوق بالراحة لأنه يتعامل مع رجل
يتصرف بنفس طريقة
النبلاء، وقد أَغدَقَ بالفعل على آرتينو بالمال. إستراتيجية الهدايا ماكرة وذكية
لأنها تُعفيك من التَّوَسُّل وتُمَكِّنك من أن تطلب ما تريد بوقار وكرامة، وتجعل
الأمر بينك وبين مانحك علاقة بين رجلين تصادف أن أحدهما يملك مالاً أكثر.
تَذَكَّر
أنك أنتَ من تُحدِّد سعرَك لنفسك، فإن طلبتَ القليل فلن تحصل على أعلى منه، لكن إن
طالبت بالكثير ستُظهر للآخرين أنك إنها تطلبُ فِديَةَ مَلك، لأن حتى من يَردُّ طلبَك
سيحترمك، وهذا الاحترام سيعود عليك بفوائد لا يُمكنك أن تحصيها أو تتخيلها.
الصورة: التاج: ضعه على رأسك وسيراك الناس
بشكل مختلف، سيرونك هادئاً وفي نفس الوقت واثقاً من نفسك. لا تُظهر أبداً مخاوفك،
أو تُقَلِّل من وقارك وأنت ترتدي التاج لأنه سيظهره غير ملائم لك وأن غيرك أَحَقُّ
به منك. ولا تنتظر أن يُتَوِّجَك أحدٌ، فالأباطرةُ العظامُ هم من يُتَوِّجون أنفسهم بأنفسهم.
اقتباس
من معلم: على كل شخصٍ أن يبدو للآخرين ملكياً
بأسلوبه الخاص، اجعل تصرفاتِك تُظهرك بأنك وإن لم تكن ملكاً فإنك تستحق أن تكون
ملكاً. كن راقياً في تصرفاتك؛ ونبيلاً في اعتقاداتك وآرائكُ واعمل على أن تُثْبِتَ
بكل أفعالك أنك تستحق فعلاً أن تكون ملكاً (بالتسار جراتسيان، 1601-1658).
عکس
القاعدة:
الغرض
من إِظهارك لثقتك واعتزازك الملكي بنفسك هو أن تَتَمَيَّز عن الآخرين، لكنك ستخسر
ما تسعى إليه إن بالغت في إظهار الثقة بنفسك. ولا ترتكب أبداً خطأ الاعتقاد بأنك
تعلو بنفسك حين تهين الآخرين أو تَمتهن قدرهم، ومن الخطأ أيضاً أن تبالغ في إظهار
تمايزك عن عامة الناس، فذلك يجعلك صيداً سهلاً للحاقدين. وهناك أوقات يُشَكِّل
فيها ظهورك بمظهر النبلاء خطراً حقيقياً عليك.
واجَهَ
تشارلز الأول ملك انجلترا في أعوام 1640
ضِيقاً شعبياً واسعاً من المؤسسة الملكية، وبدأ التَّمَرُّد يندلع في كل أنحاء
البلاد يقودهم أوليفر كرومويل، ولو كان لدى تشارلز البصيرة الكافية للتعامل مع هذا
الموقف لَأَيَّد الإصلاحيين وتنازلَ عن جزءٍ من سُلطاته ولَتَغَيَّر التاريخ، لكنه
تَصَرَّفَ بالمزيد من الاعتزاز الملكي وأظهر غَضَبه من الاعتداء على سلطاته الملكية
التي أنعم الله بها عليه، وأَدّى تشبثه بهذا الاعتزاز بالذات إلى شعور جموع الناس
بالمَهانة وإلى تصاعد التمرد الذي أدى في النهاية إلى الحكم على تشارلز بالإعدام.
تذكر أن عليك أن تظهر الثقة بنفسك وليس الغطرسة أو احتقار كرامة الآخرين
أخيراً
فإنك أحياناً تجني بالفعل بعض السطوة من التصرف بسوقية والذي قد يغريك بالمبالغة
في هذا التصرف. ولكن تَجاوُزِكَ لِحُدود هذه اللعبة بإظهارك لأصحاب القرار بأنك مُتَمَيِّزٌ
على الآخرين في السوقية يُشَكِّل هو الآخر خَطَراً عليك: فسيظل هناك دائماً أشخاصٌ
أكثر سوقية منك، وسوف يجعل ذلك المنتفعين من سوقيتك يتخلون عنك ويَتَّجهون إلى شخص
أكثر منك شباباً وأسوأ سلوكاً.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
التوظيف الصيفي للمراهقين بين المسؤولية والتحديات
أفكار لقضاء عطلة صيفية ممتعة ومفيدة للأطفال
مهارات أساسية لإعداد طفلك للروضة
حلول سريعة لتخفيف الأزمات النفسية للأطفال
كيف تختارين عربة الأطفال المناسبة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق