النباتات المنزلية
سواء كان من أجل الزينة أو لأغراض الطهي أو لفوائدها الصحية أو خصائصها العطرية، كان الناس يعمدون إلى استحضار النباتات إلى منازلهم منذ آلاف السنين.
يمكن
العثور على الأمثلة الأولى المسجلة للنباتات المنزلية في أعمال فنية من اليونان
القديمة، بحيث كان اليونانيون القدامى يزينون كل جزء من حياتهم تقريبًا، من
شوارعهم إلى دواخل منازلهم، وكانت النباتات جانبًا مهمًا من تلك الزينة، فكانوا
أول من استخدم الأحواض لزراعة النباتات خارج تربتها الطبيعية. كما تشير السجلات
المصرية القديمة إلى أول تجارة رسمية للنباتات بين الدول، وفي مصر القديمة كانت
الملكة حتشبسوت قد قامت بزراعة اللبان في معبدها عام 1478 قبل الميلاد.
أما
في الصين، فكان الصينيون القدماء ينشرون النباتات، لا سيما أشجار البنجينغ في
منازلهم للدلالة على ثروتهم، كما كانت منازل الأثرياء في روما القديمة معطرة
بأزهار أشجار الحمضيات. وفي حوالي 600 قبل الميلاد، بنى الملك نبوخذ نصر الحدائق
المعلقة في مدينة بابل وذلك إكرامًا لزوجته، الملكة أميتيس، التي كانت تفتقد العيش
في تلال بلاد فارس وكانت تكره العيش في أرض بابل المسطحة، لذلك قرر أن يسكنها في
مبنى فوق تلال خضراء ملأها لها بالأزهار العطرة وكل ما يمكن تخيله من نباتات
بالإضافة إلى الأشجار المعلقة. ومع مرور الزمن، عمد البشر إلى زراعة النباتات
المفيدة في الحدائق الخلفية للمطابخ، إذ إنه في العصور الوسطى ازدهرت هذه الحدائق
التي كانت تضم الكراث والكرنب والبصل والثوم والخضراوات الأخرى، كما كانت الحال
عند العرب الذين قاموا بزراعة مجموعة واسعة من النباتات لخصائصها الطبية
ولاستخدامها في الطهي، فكانت أعشاب النعناع والريحان والبقدونس تُزرع بشكل شائع
داخل المنازل لاستخدامها في الشاي والتيسان والعلاجات التقليدية. وتم تقدير نباتات
أخرى، مثل الياسمين والورد، لزهورها العطرة، والتي كانت تستخدم لتقطير العطور
والزيوت وأطباق الطهي.
وفي
القرن السابع عشر ساهم قباطنة البحر في اكتشاف مختلف النباتات على نطاق واسع في
أمكنة متنوعة، أما الاهتمام الخاص الذي نالته النباتات المنزلية في تلك الفترة،
فكان مع صدور كتاب «جنة عدن»، وهو كتاب ضخم من تأليف المتخصص في علوم النباتات
البريطاني السير هوغ بلات عام 1652، بحيث كتب بإسهاب عن كيفية زراعة النباتات في
المساحات الداخلية. وفيما بعد أسهمت حضارة الحقبة الفكتورية في إنجلترا في إدخال
النباتات إلى المنازل لدواع صحية، لا سيما نبات السرخس الذي عرف بفوائده في تنقية
الهواء من التلوث، كما أدت لغة الزهور في العصر الفكتوري إلى زيادة الأهمية
الرمزية للنباتات المنزلية، حيث يحمل كل نبات معناه ورسالته الفريدة. أما في
الماضي القريب، وتحديدًا في القرن التاسع عشر، أدى انتشار ما يُعرف بـ «نافذة
الوشاح» التي نشأت، أول ما نشأت، في هولندا إلى تصميم عتبات النوافذ والشرفات التي
تم تزيينها بمختلف النباتات المزهرة. أما في القرن العشرين، وابتداء من فترة
السبعينيات، اكتسبت النباتات المنزلية أهمية كبيرة تمامًا مثل قطع الأثاث ومختلف
عناصر الديكور، لا سيما مع الاتجاه نحو البيوفيليا في العمارة الذي يعزز اعتماد
العناصر البيئية في التصميم والبناء، ويهتم بإدخال المساحات الخضراء والمياه
والهواء النقي والمواد والأشكال الطبيعية في التصميمات الداخلية.
وهكذا،
فإن النباتات المنزلية قديمة قدم البشرية نفسها، وما زال البشر يلجأون إليها
لأسباب متنوعة، إما ليكونوا مثل الإغريق في استخدامها للزينة، أو مثل الفكتوريين
لمكافحة التلوث، أو مثل العرب لاستخدامها في الطهي ولأغراض علاجية، لكن، بالإضافة
إلى كل تلك الأسباب وغيرها، فالنباتات المنزلية تعطي معاني لوجودنا، إذ من خلال
التواصل معها والاعتناء بها تتراكم لدينا مفاهيم فلسفية ودروس حياتية تضيف طبقة
ثقافية غنية على تجربتنا الإنسانية.
استعادة
التواصل مع الطبيعة
نعيش
اليوم في عصر باتت فيه الطبيعة ومكوناتها أشبه بعالم افتراضي بعيد لا يحظى إلا
بالقليل من اهتمامنا، ففي الوقت الذي تتوسع فيه مدننا الصديقة للأجهزة عالية
التقنية، يزداد مدى وسرعة ابتعادنا عن الطبيعة. لكننا، كما يقول الكاتب الأمريكي
ديفيد لوي في كتابه «الشفاء عن طريق علم البيئة»، جزء لا يتجزأ من العالم الطبيعي؛
مما يعني أنه يجب علينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه سلامة محيطنا الحيوي؛ لأن سلامته
متعلقة برفاهنا نحن كبشر. وفيما قد لا يؤدي إحضار النباتات إلى المنزل والعناية
بها إلى إنقاذ كوكب الأرض، ولكنه بالتأكيد يشكل حلًا، ولو بسيطًا لمشكلة انفصالنا
عن الطبيعة أو، بكلام آخر، كما تقول المتخصصة في علم النباتات إيما سيبلي، إن:
«العناية بالنباتات المنزلية ينبع من رغبة الناس في إعادة اتصالهم بالطبيعة الأم».
ولكن هناك فرقًا بين علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية الخارجية وكيفية تفاعله معها،
وبين علاقته بالنباتات المنزلية. لاستكشاف هذه العلاقة يمكننا العودة إلى ما ذكره
الكاتب الأمريكي المتخصص في الكتابة عن العلاقة بين الطبيعة والثقافة، مايكل
بولان، في مؤلفه الذي يحمل عنوان: «الطبيعة الثانية: تعليم البستاني»، أنه مع
البستنة الداخلية، لا يوجد نقاش أخلاقي حول ماهية البرية البكر، لأن النباتات في
البيئة الداخلية الشخصية يتم اختيارها عن قصد، ولا توجد نقاشات حول أخلاقيات
مكافحة الآفات كما لا توجد حواجز بين البيئة البشرية وبقية الطبيعة البرية. ولكن
بغض النظر، ووفقًا لبولان: «يجب على أي مجموعة من النباتات المنزلية أن تجعلنا
نشعر بأننا دخلنا مكانا مميزًا - مكانًا ليس فقط منفصلًا عن الخارج، ولكنه مؤثر
أيضًا - ويبدو لي أنه لتحقيق ذلك، يجب على البستاني أن يضع نوعًا من الإضافة على
النباتات الطبيعية، أي أن يحول «النثر» المكتوب فيها إلى شيء أقرب إلى «الشعر».
بالتالي، يجب دمج النباتات المنزلية في أرجاء المنزل ومساحات المعيشة فيه لخلق
مناظر طبيعية فريدة وأجواء هي أقرب إلى نفحات شعرية تضفي سحرًا وحياة على الأمكنة،
حياة قد لا يمكن أن توفرها إلا الطبيعة بأزهارها ونباتاتها الخضراء الممتلئة
بالحياة.
الترياق
لقلق الحياة المعاصرة
في
ظل الحياة الرقمية السريعة التي نعيشها والقلق المتزايد والمواعيد النهائية
الوشيكة والإشباع الفوري والاستهلاك السريع والدافع المستمر لتحقيق الإنجازات
والإنتاجية المفرطة والمنافسة الشرسة، قد تكون العناية بالنباتات المنزلية هي الترياق
الملائم للضغوط الذي يفرضها هذا الإيقاع الحياتي المتطلب والسريع. إذ إنه مع
البستنة، لا شيء فوري، ولا شيء مضمون، ولا يمكن النقر على أي زر من الأزرار لحل
المشكلات الطارئة، فهي نشاط بطيء واختبار للصبر. تقول أليس فينينت، المتخصصة في
علم النباتات في كتابها «متجذر: إعادة بناء الحياة»: إن الاعتناء بالنباتات يعلمنا
دروسًا في الصبر، إذ تبدأ النبتة مع بداياتها الصغيرة؛ ومن ثم تكبر ببطء، وتتكون
أوراقها ومن ثم تزهر، إذا كانت من النباتات المزهرة، وبعدها تذبل في الخريف، وتعود
لتتجدد في الربيع أو الصيف. ومهما حاولنا مساعدتها، إن كان من خلال الاستثمار في
تحسين الإضاءة أو استخدام المرطبات لخلق مناخ أكثر طبيعية في الداخل، لا سيما
للنباتات الاستوائية، أو استخدام التجذير للسماح للنبتة للنمو والتكاثر، فإنه لا
يمكننا استعجال الطبيعة فهي التي تفرض قوانينها علينا. أو بمعنى آخر، لا يمكننا
تسريع العملية الطبيعية للنمو، بل الاستمتاع بها كما تتكشف بكل مراحلها المتعاقبة.
النباتات
المنزلية والإحساس بالسيطرة
إن
النباتات المنزلية هي في الأساس حدائق داخلية أصغر حجمًا وأكثر بساطة من الطبيعة
الخارجية، وهي تخلق بيئة زراعية شخصية يمكننا التحكم بها بحيث يمنحنا الاهتمام بها
إحساسًا بالمسؤولية والسيطرة. هناك لدى البشر حاجة قوية للسيطرة نابعة في الأساس
من خوفهم من المجهول، إذ إن محاولة التحكم بكل جانب من جوانب حياتهم يمنح البشر
الشعور بالأمان والقدرة على التنبؤ بما هو قادم. ولقد تم استكشاف هذا الميل إلى
التحكم والسيطرة، لا سيما في علاقة الناس بالبيئة المحيطة، من قبل أستاذ
الأخلاقيات البيئية في جامعة كورنيل الأمريكية، ريتشارد باير في كتابه: «حاجتنا
إلى السيطرة: الآثار المترتبة على التعليم البيئي»، حيث يقول إن «العالم الحديث
موجه في الأساس نحو التحكم، فهو يقيس النجاح، إلى حد كبير، من الناحية الكمية وهو
مصمم من كل جانب من جوانبه، إن كانت العلمية أو الصناعية أو التجارية، على أساس
التفوق على الطبيعة، فقلما يصغي الإنسان الحديث، ويتأمل وينصت لعله يجعل الطبيعة
هي التي تتحدث إليه، هي التي تغيره». ونحن كبشر نحكم على الكثير من الأمور من خلال
قياس القدرة على التحكم، فمثلاً، يقيس الكثير من الناس نجاح وازدهار أي حديقة
منزلية من خلال صيانة أصحابها لها وعنايتهم بها، ويقيس آخرون نجاح البساتين
الزراعية من خلال إنتاجها، وفي كلتا الحالتين لا يتم تحقيق مثل هذه النتائج
الإيجابية إلا من خلال التحكم في الأرض الطبيعية ومعالجتها لخلق بيئة مثالية، حتى
لو كانت تتعارض مع المناظر الطبيعية والنظام البيئي. وهكذا فإن النباتات المنزلية
هي بالنسبة لنا نسخة قابلة للتعديل من الطبيعة، بحيث غالبًا ما يكون التعامل معها
أسهل من التعامل مع الحدائق الخارجية، ويمكن التلاعب بها بسهولة أكبر لتحقيق
التفضيلات الجمالية الشخصية، كما يمكن دمجها في التصميم الداخلي من أجل خلق بيئة
متماسكة تمنحنا إحساسًا بالسيطرة. كما أننا قد نقوم مع بعض النباتات بتحدي الطبيعة
لنجعلها تنمو وحتى ولو في غير مواسمها، فيمكننا، مثلاً، أن نجعل أزهار البسنت أن
تزهر في الشتاء بدل الربيع، أو نجعل نبتة الأزاليا تزهر طوال السنة عوضًا عن
تزهيرها في الربيع فقط، فمع النباتات الداخلية نحن المايسترو ونحن من يتحكم.
تذكرنا
بفنائنا نحن كبشر
على
الرغم من أنه قد يكون من الصحيح أننا نشعر بالسيطرة مع اعتنائنا بالنباتات
المنزلية، ولكن لا بد أن تكون هناك تجارب غير ناجحة تؤدي إلى موت واضمحلال بعضها.
فعلى الرغم من مدى اهتمامنا بها وإجراء الأبحاث حول كل نوع محدد من النباتات
وكيفية العناية بها وتدوين ملاحظات حول توصيات كميات المياه والضوء المطلوبة ودرجة
الحرارة ونوع التربة والسماد المناسب لكل منها، لا يمكننا في نهاية الأمر التحكم
في دورة حياتها الطبيعية. يمكننا أن نحاول، ولكن حتى أكثر الأيادي الخضراء ستظل
«تشهد خسائر» تمامًا مثل أفضل طبيب جراح عندما يخسر مرضاه حين يغلبهم الموت، فكلنا
بشر ومحدودون. وهذا يضعنا في مواجهة مباشرة مع فكرة الفناء، ويذكرنا بأنه مهما
بلغت قدرتنا على السيطرة هناك حقيقة الموت التي لا يمكننا معها الإبقاء على التحكم
لا بأنفسنا ولا بالبيئة المحيطة بنا. وهنا يمكن الإشارة إلى ما قاله الشاعر
الأمريكي والت ويتمان في قصيدته: «أعشاب صدري المعطرة»، وهي قصيدة يخاطب فيها نبتة
الوج المائية التي كما قال جعلته يفكر في الموت، فكتب يقول: «غالبًا ما تكونين
أكثر مرارة مما أستطيع تحمله، أنت تحرقينني وتلدغنني،/ ومع ذلك فأنت جميلة بالنسبة
لي، فأنت بجذورك الباهتة، تجعلينني أفكر في الموت،/ والموت جميل منك». كما هناك
استعارات عديدة من موت النباتات في قصيدة «موت الزهور» للشاعر الرومانسي الأمريكي
ويليام كولين براينت الذي يتساءل فيها وهو في فصل الشتاء عن أزهار البنفسج والورود
وعباد الشمس وزهور النجمة التي رآها في الربيع عندما كانت تقف منتصبة متبسمة، ومن
ثم يعبّر عن إحساسه بالحسرة كونها باتت في قبورها تحت الأرض المحاذية إلى قبورنا
نحن.
هكذا
فالنباتات المنزلية تقدم أكثر بكثير من مجرد متعة بصرية؛ فهي قنوات قوية للتفكير
الفلسفي والنمو الشخصي، سواء كانت موضوعة على طاولات منازلنا أو معلقة على جدران
شرفاتنا أو قابعة على عتبات نوافذنا، فإن للنباتات المنزلية القدرة على لمس
دواخلنا وإعطائنا دروسًا في الصبر والتواضع وفوائد التواصل مع الطبيعة. عندما
نعتني بها ونرعاها، فإننا لا نرعى نموها فحسب، بل نبني أيضًا فهمًا أعمق لأنفسنا
ولوجودنا في هذا العالم.
تعلق الطفل بالموبايل أثناء الدراسة: الأضرار والحلول
كيف تُعلِّمين ابنتك التعامل مع الفتيات اللئيمات في المدرسة
القِيَم التربوية لتعزيزها في طفلك مع بداية العام الدراسي
إرشادات لضمان تحصيل جيد لطفلك أثناء الدراسة
طرق فعالة للتعامل مع طفلك المصاب بنقص الانتباه
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق