الاثنين، 3 يوليو 2023

• اتقِن دورَ التّابِع


القاعدة 24 من كتاب 48 قانون للقوة (تَحَلّى بخصال رجلِ الحاشِيَةِ البارع)

الحكمة:

خِصالُ رجل الحاشية تجعله يزدهر في عالم الواقع الذي تحدد فيه السَّطوة والبراعة السياسية مكانة كل الأشخاص وكل الأمور. هذه الخصال تجعل رجل الصفوة يبرع في المكر والتملق وإظهار الخضوع لرؤسائه وتمكنه من فرض سطوته على الآخرين بأكثر الطرق دهاءً ورشاقةً. اتقن قواعد مجتمع الصَّفوة ولن تقف حدودٌ دون ما يمكنك أن تحققه من مناصب في بلاط القادة وأصحاب النفوذ.

مجتمع الصفوة:

من حقائق الطبيعة البشرية أن مجتمعات الصَّفوة تتشكل حول السَّطوة. في الماضي كان رجال البلاط يلتفون حول الحاكم وكان للبلاط الملكي وظائف عديدة: إضافة للتَّسرية عن الحاكم؛ كان يؤكد على هرمية مراتب الطبقات الملكية والنبلاء والطبقة العليا، وكان يقرب النبلاء لمراقبة خضوعهم والتزامهم. كان البلاط يُرَسِّخ السّطوة بطرق عديدة إلا أن أهمها كان تمجيد الحاكم وتكوين عالم مصغر يتنافس لإسعاده.

الانتماء للصفوة له مخاطر تتطلب اليقظة. ذكر أحد الرّحالة العرب في القرن التاسع عشر بعد أن زار بلاط سلطنة دارفور -السودان حالياً-، أن رجال الحاشية كانوا يفعلون كل ما يفعله السلطان: فإن أصابه جرحٌ كان عليهم أن يُجرحوا مثله، وإن سقط عن الحصان كانوا عليهم أن يسقطوا من فوق أحصنتهم. كانت المحاكاة ظاهرة من ظواهر البلاط في كل أنحاء العالم. كان الأخطر أن ينزعج منك الحاكم، فتَصَرُّفٌ واحدٌ خاطئ قد يؤدي بك إلى النفي أو الموت، وكان على رجل الصفوة الناجح أن يتصرف كمن يمشي على الحبل، فيعمل على إرضاء الحاكم لكن دون إفراط، وكان عليه أن يُطيع لكن مع الاحتفاظ بالتميز عن رجال البلاط الآخرين، وكان عليه أيضاً أن لا يتميز لدرجة تشعر الحاكم بتهديد مكانته أو تُحرج نقاط ضعفه.

أتقن رجال الصُّفوة العظام فَنَّ التأثير والتلاعب بالناس، فكانوا يُشعرون الملك بجلال مكانته بينما يجعلون كل من عداه يخشون سطوتهم. كانوا يسحرون الناس بمظهرهم لأنهم يعلمون أن كل شيء في عالم الصَّفوة يقاس بالمظهر، وكانوا مهذبين، وكانت شراستهم مستترة وماكرة. كانوا يجيدون استخدام الكلمات ولا ينطقون إلا لحاجة ويُعبّرون عن أقصى ما يريدون من المدح أو الذم الخفي بعبارات وجيزة. كانوا يجيدون التسرية عن الآخرين وإسعادهم لكن دون تَمَلُّقٍ أو تقليل من کرامتهم. كانت لهم الحظوة لدى الملك ويستمتعون بما يوفره لهم ذلك من مكانة، وفي النهاية كانت سطوتهم تتجاوز سطوة الحاكم نفسه لبراعتهم في جمع وتراكم النفوذ.

كثيرون الآن يتجاهلون حياة البلاط الملكي باعتبارها من ذكريات الماضي أو مخلفات التاريخ، ويظنون کما قال مكيافيللي كما لو أن الشمس والسموات وعناصر الطبيعة والناس أجمعين قد غيروا من قدراتهم وقوانين حركتهم وأصبحوا على غير ما كانوا عليه في الماضي. نعم لم يبقَ لدينا من يُلَقَّبُ بالملك الشمس، ولكن يبقى لدينا الكثيرون الذين ما زالوا يؤمنون بأنهم يتحكمون بالناس والطبيعة، ربما يكون البلاط الملكي قد اختفى في معظم البلدان أو فقد الكثير من السَّطوة التي كانت له قديماً، لكن مجتمعات الصفوة ما زالت قائمة بيتنا. لم يعد على رجل الصفوة أن يسقط نفسه عن حصانه ولكن القواعد التي حكمت تعاملات البلاط مثلها مثل قواعد السطوة لا تنتهي ولا تزول، ولذلك فإن هناك الكثير لنتعلمه من رجال الصفوة العظام في الماضي والحاضر.

قواعد تعاملات الصفوة:

1)       تجنب التفاخر بنفسك. ليس من الحكمة أبداً أن تُكثِرَ من الكلام عن نفسك أو أن تبالغ في الإشارة إلى إنجازاتك. إكثارك من الحديث عن إمكاناتك يُشكِّكُ الناس بك ويُحرِّك الحسد في قلوب رفاقك ويجعلهم يكيدون لك ويغدرون بك. احرص بل وبالغ في الحرص على أن تُقلِّل من التفاخر وأن تتكلم عن نفسك أقل من كلامك عن الآخرين، فالتواضع عموماً يفيدك أكثر.

2)       تَدَرَّب على إظهار الثقة والتحكم. لا تُظهر للآخرين كأنك تكافح لإنجاز العمل، بل عليك أن تجعلهم يعتقدون أن إبداعاتك تتدفق تلقائياً بحيث يرونك عبقرياً ولستَ مدمنا على العمل. حتى لو رأيت أن أمراً يتطلب منك الكثير من الجهد فاعمل على أن تجعل أداءك يبدو سلساً - فالناس لا يحبون أن يراقبوا معاناتك وتعبك فذلك نوع آخر من التفاخر، بل يرغبون في الانبهار بروعة ما أنعم الله به عليك من موهبة.

3)       اقتصد في التَّمَلُّق. ربما ترى أن رؤسائك لا يَمّلون من تَمَلُّقك لهم، ولكن المبالغة في الأشياء التي يرغبها الآخرون تفقدهم الاهتمام بها، كما أنها تُوَلِّدُ لدى زملائك الارتياب والنفور منك. تَعَلَّم أن يكون إطراؤك لَبِقاً بأن تُقَلِّل مثلاً من الدور الذي بذلته في العمل وتنسب الفضل لرؤسائك، فذلك يرضيهم ويشعرهم بالامتنان.

4)       احرص على أن تلفت الأنظار. يوجد هنا ما يشبه التناقض، ذلك أن عليك أن تتجنب فرض نفسك بوقاحة من ناحية، ومن الناحية الأخرى عليك أن تحرص أن ينتبه إليك الناس، في بلاط الملك لويس الرابع عشر كان من يحظى بالْتِفات الملك إليه يصعد سريعاً في تراتب المكانة بالبلاط. ولن تتوفر لك أي فرصة في الارتقاء إن لم يلاحظك الحاكم وسط زحام المنافسين. هذه المهمة تتطلب قدراً كبيراً من المهارة والفن، وغالباً ما تكون أولى الخطوات هي أن تجعل الناس يرونك بالمعنى الحرفي بأن تحرص على الاهتمام بأناقتك ثم تبحث عن لَفْتَةٍ رقيقة تُمَيّز أسلوبك ومظهرك وتَلْفت الناس إليك.

5)       خاطب الناس على قدر مكانتهم وعقولهم. من الخطأ أن تظن أنك لو تحدثت مع الجميع بنفس الطريقة بغض النظر عن مكانتهم ستبدو مثالاً للتحضر، فالذين أدنى منك سيرون في تعاملك معهم وكأنك تتنازل، والذين هم أعلى منك سيشعرون بالإهانة حتى لو لم يظهروا لك ذلك. عليك أن تخاطب الناس حسب مكانتهم وهذا ليس كذب، ولكنه نوع من تمثيل الأدوار، والتمثيل فَنُّ يكتسب وليس موهبة تولد بها، وعليك أن تتعلم هذا الفن. ويصدق ذلك أيضاً عند التعامل مع التنوع الكبير في الثقافات في مجتمع الصفوة الحديث: فلا تفترض أن معاييرك في التصرف ونظرتك للأمور تنطبق على الجميع، فهذا الجهل بآداب التعامل مع ثقافات وعقليات الآخرين لا يعتبر قمة الهمجية فحسب ولكنه يؤدي بك أيضاً إلى الخسارة.

6)       لا تجعل نفسك أبداً نذير شؤم. «الملك يقتل حامل النبأ السيئ»، هي عبارة مبتذلة لكن فيها شيء من الحقيقة. عليك أن تبذل كل جهدك حتى إن اضطررت للاستعانة بالكذب والغش لكي تُبعد عنك مصير حامل النبأ السيئ وتترکه يحلّ على أحد غيرك. احرص دائماً على أن تكون بشيراً لا نذيراً لأن ذلك سيسعد أولياءك.

7)       لا تَتَصَرّف بحرارة وحَميمِيّة مع وليك، فرئيسك لا يرغب لإنجاز العمل أصدقاء بل تابعين، فلا تتجرأ عليه أو أن تعامله كأنه صديقك المقرب، أو أن لك تَمَيّزاً خاصاً في معاملته. وإن اختار هو أن يعاملك على هذا المستوى فتعامل معه بتردّد حذر أو التزم بالأمان وحافظ على المسافة الفاصلة بينکما.

8)       لا تُصَرِّح بنقد من يرأسونك. قد تبدو هذه القاعدة في غير حاجة إلى شرح، لكن غالباً ما تواجه ظروفاً يكون عليك فيها إبداء اعتراضك لأن صمتك سيُعرّضك لمخاطر من نوع آخر، لكن عليك أن تتعلم كيف تجعل نقدك مهذباً ولَبِقاً على قدر ما تستطيع، فَكِّر أكثر من مرة لتطمئن أن أسلوبك ليس جارحاً واجعل الأولوية دائما للتأكد من دماثة ولُطف عباراتك.

9)       اقتصد في طلب الخدمات من رؤسائك. لا شيء يستفزّ وليّاَ أكثر من رفضه طلباً لأحد أتباعه لأن ذلك يشعره بالذنب والاستياء. قلّل من طلب الخدمات على قدر ما تستطيع وأعرف متى تمتنع عن طلب شيء معين. وأفضل لك بدلاً من التوسل أن تعمل على استحقاق ما تريد بحيث يمنحه لك الحاكم عن طيب خاطر. والأهم أن عليك أن لا تطلب أبدا خدمات لصالح شخص آخر خاصة إن كان من أصدقائك.

10) لا تَسخَر أبداً من مظاهر أو أذواق الآخرين، من الصفات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها رجل الصّفوة الجيد الميل للمرح والقدرة على المداعبة الودودة. وهناك أوقات تحتاج فيها للتصرف بشيء من السّوقية كي تجذب إليك الآخرين، لكن عليك أن تبتعد عن أي نوع من التهكّم على مظهر أو ذوق الآخرين، فهي من الأمور شديدة الحساسية خاصة لدى من يرأسونك، ولا تحاول ذلك حتى بعيداً عنهم فذلك أشبه بحفر قبرك بنفسك.

11) لا تندفع إلى هجاء الآخرين. عَبِّر عن إعجابك بالإنجازات الجيدة لدى المحيطين بك، فإن كنت دائم الانتقاد والهجاء لزملائك أو مرؤوسيك فسوف يحوم حولك شيء من هذا الهجاء كالغرامة التي تتبعك أينما ذهبت، وستجد الآخرين يهمهمون منزعجين في كل مرة تُطلق فيها هجاءك. المفارقة أن إدلاءك بتعبير معتدل عن إعجابك بإنجازات الآخرين يجلب التقدير لإنجازاتك أنت. وهناك مهارة هامة إلا أنها أصبحت نادرة وآخذة في الاختفاء؛ ألا وهي القدرة على إظهار الإعجاب والتأثر بتعبيرات توحي بالصدق، وهذه القدرة لها قيمة كبيرة واكتسابها يفيدك كثيراً.

12) کن مرآةً لنفسك، المرآة اختراعٌ معجز بدونها لا نستطيع أن نحافظ على حُسن أشکالنا وأناقة مظهرنا، إلا أنك في حاجة إلى مرآة أخرى تهندم من خلالها أناقة شخصيتك، يمكنك أن تستخدم رأي الآخرين فيك كمرآة ولكنها لا تكون صادقة تماماً: لذلك عليك أن تصبح مرآة لنفسك بتدريب عقلك أن يرى ذاتك بعيون الآخرين لتعرف؟ هل تتصرف بالكثير من التذلل؟ هل تبالغ في إرضاء الآخرين؟ هل أصبح أصعب عليك أن تحظى باهتمام الآخرين مما يعني أنك تخسر مكانتك؟. كن مرآة لنفسك وسوف يعفيك ذلك من ارتكاب الحاقات.

13) تَحَكَّم بانفعالاتك، عليك أن تدرب نفسك لتصبح كالممثل المسرحي قادراً على أن تبكي وتضحك حسب إرادتك وفي الوقت الذي يفيدك. وعليك أن تتعلم أن تكتم مشاعر الغضب والضيق وأيضاً مشاعر الرضا والإعجاب. تحكم بتعبيرات وجهك واعتبره كذباً إن شئت، ولكن لو أفرطتَ في الصراحة فلا يصدمنك أن تجد أن الآخرين يعتبرونك بغيضاً ومغروراً.

14) تَحَلّي بروح العصر. إظهار مسحةٍ من روح الماضي لها تأثير ساحر بشرط أن لا يتجاوز هذا الماضي عشرين عاماً خَلَتْ، لكن إن ارتديتَ زيّاً انتهي من عشرة سنوات مثلا فستدفع الآخرين للسخرية منك ولن يفيدك ذلك في شيء إلا إن كنتَ تحب أن تلعب دور المهرج. وعليك أن تظهر معاصراً في تفكيرك حتى وإن كانت لا تعجبك أفكار عصرك، لكن احذر لأنك لو أصبحتَ تَقَدُّمِياً كثيراً فلن يفهمك الآخرون وتمسكك بذلك لفترة يضر بمصالحك. أأمن لك أن تظهر متمسكاً بروح حاضرك لا ما قبله ولا ما بعده.

15) کن مصدراً لإبهاج الآخرين. تلك صفة مصيرية لأن من القواعد الحاكمة للطبيعة البشرية أننا نهرب من الأشياء المزعجة والكريهة وننجذب نحو ما يشعرنا بالبهجة كما تنجذب الفراشات لشعلة الضوء. كن أنت هذه الشعلة وسوف ترتفع بك إلى القمة. ولأن الحياة كئيبة ولا يمكن احتمالها دون مصادر للبهجة فستجد أنك أصبحت للآخرين كالماء والهواء لا غنى عنك. كلنا نعرف ذلك ولكننا لا نقدره حق قدره. وليس كل الناس سواء في ذلك، فليس الجميع موهوبين في إثارة إعجاب الناس ونيل حظوتهم، لكن علينا جميعاً أن نتحكم بخصالنا الكئيبة لنتمكن من إخفائها عند الضرورة.

الرجل الذي يتقن حياة القصور يكون قديراً في التحكم بتلميحاته وتعبيرات وجهه وعينيه، وبيدو عميقاً وغامضاً، ينافق الأشرار من أصحاب النفوذ ويبتسم في وجه عدوه، ويحكم غضبه، ويكتم مشاعره ويخفي ما يجيش في قلبه، ويتكلم ويتصرف على غير ما يحب. (جان دي برويير 1645-1696).

مشاهد من حياة الصفوة: أمثلة للمآثر والأخطاء القاتلة

المشهد 1:

كان أرسطو المعلم والمربي الخاص للإسكندر الأكبر قاهر منطقة حوض البحر المتوسط وبلاد المشرق حتى الهند، وقد أخلص الإسكندر طوال حياته القصيرة لفلسفة وتعاليم أستاذه، وشکا ذات مرة أنه أثناء غزواته الطويلة لا يجد من يناقش معه القضايا الفلسفية فاقترح عليه أرسطو أن يصحب معه في حملته التالية کاليسنيس وهو تلميذ سابق لأرسطو وفيلسوف واعد.

كان أرسطو المعلمَّ والمربي الخاص للإسكندر الأكبر قاهر منطقة حوض البحر المتوسط وبلاد المشرق حتى الهند، وقد أخلصَ الإسكندر طوال حياته القصيرة لفلسفة وتعاليم أستاذه، وشکا ذات مرة أنه أثناء غزواته الطويلة لا يجد من يناقش معه القضايا الفلسفية، فاقترح عليه أرسطو أن يصحب معه في حملته التالية کاليسنيس وهو تلميذ سابق لأرسطو وفيلسوف واعد.

كان أرسطو قد عَلَّمَ جميع تلاميذه المهارات اللازمة للتعامل مع رجال الصفوة ومجتمعات القصور، ولكن كالينسيس كان يهزأ بهذه التعاليم في سره، لأنه كان يثق بقدرة الفلسفة النقية والعبارات الصريحة غير المزخرفة، ورأى أن الإسكندر إن كان يرغب حقاً في أن يتعلم، فلن يعترض على رجل يبوح بها في قلبه.

وفي إحدى الحملات تجاوز کالينسيس كثيراً في التعبير بصراحة عما يدور في خَلَدِهِ لدرجةٍ جعلت الإسكندر يحكم عليه بالموت.

التعليق:

في مجتمعات الصفوة تُعَدُّ الصراحة لعبة الحمقى، فلا يغرنّك أبداً إعجابك بنفسك لدرجةٍ تجعلك تظن أن أولياءك يهتمون بنقدك لهم مهما كان صادقاً.

المشهد 2:

بدءًا من أسرة هان التي حكمت قبل ألف عام أخذ الحكماء الصينيون يجمعون سلسلة من الكتابات كانوا يسمونها التواريخ الإحدى وعشرين، وهي سِيَرٌ ذاتية رسمية لكل سلالة حاكمة تشمل قصصاً وإحصاءاتٍ ووقائع الحروب.

وكان كل تاريخ يحوي أيضاً فصلاً يسمى «أحداث غير معتادة» يصف قوائم بالزلازل والفيضانات وهكذا، وفجأة ترى بينها أوصافاً لظواهر غريبة مثل النعجة ذات الرأسين، والإوزة التي تطير للخلف، والنجوم التي تظهر فجأة في السماء وغيرها. الزلازل والبراكين هي حقائق تاريخية يمكن التأكد منها، لكن من الواضح أنه تم إقحام الوحوش والظواهر الغريبة والتي كان وصفها يأتي دائماً في مجموعات، لكن لأي سببٍ تم إقحامها؟

كان الصينيون ينظرون للإمبراطور على أنه أكثر من مجرد بشر، وكانوا يعتبرونه كقوةٍ من قوى الطبيعة، وكانوا ينظرون لمملكتهم على أنها مركز الكون يدور حولها كل شيء. كان الإمبراطور رمزاً للكمال الدنيوي وكان نقده يشبه نقد الحقيقة الإلهية. لم يكن الوزراء أو رجال القصر يستطيعون أن يوّجهوا أي عبارة تحذير مباشر للملك، ولكن بالطبع كان الملوك بشراً خطائين، وكانت أخطاؤهم تُعَرِّضُ المملكة للمخاطر.

كان إقحام مشاهد من الظواهر الغريبة في التواريخ هو الوسيلة الوحيدة لتحذير الملوك. كان الحاكم يقرأ عن الإوزة التي تطير للخلف أو الأقمار التي تخرج عن مدارها فيدرك أنهم ينبهونه للخطورة من أن أفعاله قد خرجت عن الاتزان وأن عليه أن يغيرها.

التعليق:

كانت الكيفية التي يمكن أن ينصحوا بها الإمبراطور من المشكلات الهامة التي تواجه رجال الصفوة الصينيين، فطوال تاريخهم فقد آلاف الأشخاص حياتهم وهم يحاولون تقديم النصيحة أو تحذير أوليائهم، ولكي يأمنوا من هذه المخاطر كان عليهم صياغة النقد بطريقة غير مباشرة، ولكن لو أصبح النقد غير مباشر تماماً فلن يفهمه الحاكم ولذلك كان الحل هو في كتابة التواريخ: فهي لا تحدد شخصاً بعينه كمصدر للنقد، وتجعل النصيحة تبتعد عن شخص الملك بأقصى درجة ممكنة وفي نفس الوقت تنبهه لما يحيط بالمملكة من مخاطر.

لم يعد لدينا سادة نعتبرهم مركزا للكون، ولكن هناك من يعتقدون أن كل شيء يخضع لإرادتهم، وحين تنتقدهم فلن ينظروا إلى النقد نفسه بل إلى شخص المنتقد. عليك حين توضح ما قد يأتي من أخطار أن تجد - كما فعل الصينيون - طريقة ما تخفي بها هويتك وهوية من تنتقد، مثل استخدام الرموز أو الأمثال أو غيرها من الأساليب غير المباشرة.

المشهد 3:

في بداياتٍ مساره المهنيّ تَمَّ تكليف المعماري الفرنسي جول مانسار بأمرٍ من الملك لويس الرابع عشر أن يصمم ملحقات لقصر الفرساي، وكان يتأكد في كل خطوة أن تَتْبَعَ تصاميمُه تعاليمَ الملك بدقةٍ قبل أن يعرضها على جلالته.

کَتَبَ سان سيمون عن الطريقة التي اتَّبَعَها مانسار في التعامل مع الملك: «كانت مهارته الأساسية هي أنه يعرض على الملك مخططات تحوي عمداً شيئاً غير مُتقَن، وغالباً ما يكون هذا الخلل في الحدائق التي لم تكن تخصص مانسار، وكان الملك يُشير بإصبعه کما تَوَقَّعَ مانسار إلى مكان الخلل ويقترح الحلّ، وكان مانسار عندها يعبر بصوت يسمعه الجميع عن إعجابه ببراعة الملك ويقول أنه لم يلاحظ هذا الخلل، وأنه مقارنة بالملك تلميذ مبتدئ».

بتكراره هذا الأسلوب تَلَقّى في عمر الثلاثين تکليفاً مَلَكِيّاً مُشَرِّفاً بأن يتولّى التَّوَسُّعات في قصر الفرساي، وبعدها أصبح المعماري الخاص للملك رغم أنه لم يكن أكفأ المعماريين الفرنسيين.

التعليق:

من عمر صغير رأى مانسار الكثيرين من الحرفيين الذين يخدمون الملك لويس الرابع عشر يخسرون وظائفهم ليس لنقص في مواهبهم بل لخطأ مدمر في لباقتهم الاجتماعية، وعمل على أن لا يرتكب هذه الأخطاء وأخذ يسعى دائما لتأكيد اعتزاز الملك بنفسه ويرضي غروره على الملأ.

لا تظن أبدا أن المهارة والموهبة هما كل شيء، ففي مجتمعات الصفوة تعد فنون التعامل أهم من الموهبة، لذلك لا تقضي كل وقتك في الدراسة وتهمل مهاراتك الاجتماعية، وأهم المهارات الاجتماعية هي قدرتك على أن تجعل وليك يظهر أكثر موهبة وذكاء عن كل من حوله.

المشهد 4:

كان جان بابتيست إيسابي الرَّسّام الخاص غير المعلن في بلاط نابليون، وأثناء مؤتمر فيينا عام 1814 تم إقرار سَجن نابليون في جزيرة إلبا بعد هزيمته، وقام المشاركون في المؤتمر بدعوة إيساي لرسم لوحة ملحمية تُخَلِّد هذا الاجتماع الذي كان سيُقرّر مصير أوروبا.

حين وصل الفنان إلى فيينا زاره تاليران المفاوض الرئيسي للفرنسيين، وشَرَحَ له أهمية دوره في نتائج المؤتمر، وقال أنه يتوقع أن تَحتَلّ صورته مكاناً مميزاً في اللوحة، فوافق إيسابي بِمَوِدَّة.

بعد أيامٍ قليلةٍ جاء دوق ولينجتون المفاوض الرئيسي للإنجليز إلى إيسابي وقال له تقريباً نفس ما قاله تاليران فوافق إيسابي على الطلب بنفس الأدب والرد على أن الدوق يستحق فعلاً مكان الصدارة في اللوحة.

أثناء الرسم أخذ إيسابي يُفَكِّر في حلٍ لهذه المعضلة، فلو استجاب لطلب أي من الرجلين وتجاهل الآخر لحدث استياءٌ وانشقاقٌ دبلوماسي في وقت كان إحلال السلام والتفاهم مطلباً مصيرياً، لكن حين أُزيح السِّتار أخيراً عن اللوحة شعر الدوق وتاليران معاً بالرضا والامتنان: كانت اللوحة تُصَوِّرُ قاعةً فسيحة تمتلئ بالدبلوماسيين والسياسيين من كل أنحاء أوروبا، وفي جانب من اللوحة كان يظهر دوق ولينجتون يدخل القاعة وكانت كل عيون الحاضرين تنظر إليه، وفي مركز اللوحة تماماً كان يجلس تاليران.

التعليق:

غالبا ما يكون من الصعب أن ترضي ولياً واحداً، أما أن ترضي سيدين بضربة واحدة فذلك ما يتطلب عبقريةً في استخدام قواعد مجتمع الصفوة. هذه المعضلات شائعة في مجتمعات الصفوة فتركيزك على وليّ واحد يسيء للآخر، وعليك أن تتعلم أن تتفادى الرمضاء والنار معاً، وأن تُقَدِّمَ لكل وليّ ما يرضيه، وتُركّز على أن لا تقع في خطأ إرضاء أحدهما على حساب الآخر.

المشهد 5:

استطاع جورج برومل والذي كان يعرف أيضا باسم برومل الوسيم أن يحقق الشهرة والمكانة في الأعوام الأخيرة من 1700 من خلال تميزه في الأناقة وترويجه الإبزيم الحذاء (وقلده كل المتأنقين في عصره) وكذلك من خلال أسلوبه في التلاعب بالكليات. كان منزله في لندن مزارا لكل الباحثين عن صيحات الذوق والرقي، وكان إن اعترض على حذاء يخلعه صاحبه فورا ويشترى ما يلبسه برومل أيا كان. وكان يجيد عقد رابطة العنق وقيل أن اللورد بايرون كان يقضي ليالي أمام المرآة يحاول اكتشاف سر عقدة العنق التي يصنعها برومل.

كان أمير ويلز من أكبر المعجبين ببرومل، وكان يرى في نفسه أنه أيضا شاب أنيق. ضم الأمير برومل إلى بلاطه (وخصص له معاشاً ملكياً). اغتر برومل سريعاً بالسطوة التي منحت له وبدأ في إطلاق التعليقات الساخرة حول وزن الأمير وأخذ يطلق عليه اسم بج بن برج الساعة الشهير. كان هذا التهكم مدمراً لمشاعر الأمير لأنه كأي متأنق يتأثر كثيراً بالتعليقات حول حسن مظهره. ذات مرة وحين تأخر تقديم العشاء قال برومل للأمير «رن جرسك يا بج بنا، فرن الأمير الجرس لكن حين حضر خادمه الخاص طلب منه أن يصحب برومل إلى طريق الخروج، ولم يسمح له بالعودة بعدها أبداً.

على الرغم من فقدان برومل للحظوة لدى الأمير، لم يكف عن غطرسته وظل يعامل الجميع بتهكم، وبعد أن حرم من رعاية الأمير تثاقلت عليه الديون وهجره الجميع لغطرسته ومات في فقر مدقع وحيداً وبائساً.

التعليق:

كانت السخرية المميزة لبرومل هي التي جذبت إليه أمير ويلز في البداية، ولكن لم يكن لأي أحد وإن كان مرجعاً للذوق والأناقة أن يسخر من مظهر أمير، على الأقل ليس في مواجهته، ليس لك أن تتندر أبدا ببدانة الآخرين حتى ولو بأسلوب غير مباشر - خاصة إن كان هذا الشخص وَلِيّك.

المشهد 6:

كان البابا أوربان الثامن يظنُّ أن التاريخَ سيظلُّ يَذكرُ عبقريته في نظم الشعر، إلا أن شِعره كان في أحسن التقديرات متواضعاً. كان الدوق فرانسيسكو ديست يَعرِفُ عن الميول الأدبية لدى البابا، ولذلك اختار في عام 1629 الشاعر فولفيو تستي سفيراً لبلاده لدى الفاتيكان.

تُبَيِّنُ إحدى الرسائل التي أرسلها تستي إلى الدوق فرانسيسكو الغرض من تعيينه في هذا المنصب «بمجرد أن انتهت مناقشتنا رکعت مستأذناً بالخروج، فأشار لي قداسته أن أبقى وغادر إلى الغرفة الأخرى التي ينام بها وأحضر بعض الأوراق من فوق طاولة ثم نظر لي بابتسامة وقال: «نود أن نقرأ عليكم قصيدة من نَظْمِنا»، والحقيقة أنه قرأ عليّ قصيدتين طويلتين للغاية إحداهما في مدح السيدة العذراء، والأخرى عن الكونتيسة ماتيلداه».

لم يصلنا بالضبط رأي تستي في القصيدتين لأنه كان حذراً من إبداء رأيه حتى في خطاب، لكنه أكمل في خطابه «لقد قُمتُ بما ينبغي بأن مَدحَتُ القصيدةَ سطراً بسطرٍ وقَبَّلْتُ قَدَمَيْ قداسته على هذا الفضل والإحسان ثم غادرت».

بعد ذلك وحين قام الدوق نفسه بزيارة البابا استظهر أبياتاً كاملة من شِعرِهِ ومَدَحَها لدرجةٍ جعلت البابا «يكاد أن يُجَنُّ من الفَرحَة».

التعليق:

عليك أن لا تقلل أبدا من ذائقة وليك، فالذائقة تعد من أرق مكونات الذات وأكثرها قابلية للتجريح، فلا تطعن أبدا أو تشكك في ذوق وليك- فشعره مهيب وأناقته دون شائبة وطريقته في التعامل مثال يحتذى به.

المشهد 7:

في ظهيرةِ أحدِ الأيّامِ في الصين القديمة سَكِرَ "شاو" حاكمُ مملكة "هان" الذي عاشَ في الفترة من 358 حتى 333 ق. م.، وغَلَبَه النومُ في حديقة قصره، ورآه حافظُ التاج الملكي بينما كان يتجول في الحدائق.

كان الدور الوحيد لحافظ التاج هو العناية بکِساءِ رأسِ الملكِ، لكنه حين رأى الملكَ نائماً دونَ معطفٍ، وكان الطَّقسُ بارداً، غَطّى الملكَ بمعطفه ورَحَلَ.

حين استيقظَ الملكُ "شاو" ورأى المعطفَ فوقه سأل الحاضرين «مَنْ وَضَعَ على جسدي هذا الملبس الإضافي؟»، فأجابوا «إنه حافظُ التّاج»، فطلبَ الملكُ حاملَ المعطف الرسميّ وعاقَبَهُ لإهمالِ واجبِهِ، واستدعى حافظَ التّاج وأَمَرَ بِقطعِ رأسِه.

 التعليق:

عليك أن تقوم بما كُلِّفتَ به بأفضل ما تستطيع، ولكن لا تتجاوزه لفعل شيء آخر، فمن الأخطاء الشائعة أن تظن أن قيامك بالمزيد يُظهرك مجتهداً. ليس من المفيد لك أبداً أن تَظهر وكأنك تكافح وتُرهق نفسك في العمل، إن ذلك يجعل الآخرين يعتقدون أنك تُغطّي على نقيصة ما فيك. قيامك بمهمة لم تُطلب منك يستثير الريبة والتشكك لدى الآخرين، ولذلك إن كنت حافظ التاج فقم بواجبك كحافظ التاج وادخر طاقتك الزائدة لحين الخروج من القصر.

المشهد 8:

في أحدِ الأيام ذهبَ رَسّامُ عصرِ النهضة الإيطالي فرا فيليبو ليبي (1406-1469) للتّنَزُّهِ مع بعض أصدقائه في مركبِ صيدٍ من شاطئ أنكونا، وفي البحر أَسَرَتْهُم سفينتان للمسلمين، وقَيَّدوهم وأَخذوهم إلى شمال أفريقيا، وَتَمَّ بَيْعُهم کعبيد.

ظل فيليبو يَکْدَحُ طوال ثمانية عشر شهراً دون أملٍ في العودة إلى إيطاليا.

كان فيليبو يرى الرَّجُلَ الذي اشتراه يغدو ويروح، وفي أحدِ الأيّامِ قَرَّرَ أَن يرسُمَ له صورةً بالحجم الطبيعيّ باستخدامِ الفحم المُحتَرِقِ من الموقد، ورغم الأغلال في يديه فقد وجد حائطاً أبيض وبدأ في الرسم، وشاعَ الخبرُ لأنه لم يكن أحدٌ في هذه البلاد يرسمُ بهذا القَدْرِ من المهارة.

وقد أُعجِبَ المالكُ بالصورة لدرجة أنه مَنَحَهُ حُرِّيَتَهُ وعَيَّنَه في قصره. توافد الناس من المناطق المجاورة، وسحرتهم الرّسوماتُ المُلَوَّنَةُ والرائعةُ التي أخذ فيليبو يرسمُها بعد ذلك، وتقديراً منه لأعمال فيليبو أعاده المالك إلى إيطاليا معززاً مكرماً.

التعليق:

نحن جميعاً نكدح في خدمة آخرين ولذلك نحن أسري نوعاً ما ونباع كالعبيد. ولدينا جميعاً موهبة أو قدرة تجعلنا نتميز عن الآخرين في فعلِ شيء ما، کالموهبة التي كانت لدي فرا فيليبو، ولكن ربما بدرجة أقل. اظهِر لوليك عملاً من إبداعك وسوف يميزك ذلك عن غيرك من المنافسين، واجعله ينسب لنفسه الفضل إن لزم، فهو حجر مؤقت تستخدمه لِتَصعدَ عليه وطريقة لإبراز موهبتك، وفي النهاية سوف يُمَكِّنُك من شراء حريتك وتخليص نفسك من القهر والعبودية.

المشهد 9:

كان لدي ألفونسو الأول ملك أراجون خادمٌ أَخبَرَهُ ذات مرةٍ أنه رأى حلماً في الليلة الماضية: رأى ألفونسو يمنحُه هديةً تحوى أسلحةً وخيولاً وملابس، كان ألفونسو رجلاً سَخِيّاً، ورأى أن من اللُّطفِ أن يُحَقِّقَ للرَّجُل حُلمَه، فأعطاه ما جاءَ في الحلم بالضبط.

بعدها بفترةٍ قليلةٍ جاءَهُ الخادمُ بحلمٍ آخر يرى فيه ألفونسو يعطيه كومةً من العملات الذهبية. ابتسمَ الملكُ وقال له «لا تُصَدِّق الأحلام بعد ذلك، فهي تكذب عليك».

التعليق:

في الحلم الأول كان الأمر ما يزال بيد ألفونسو، فتحقيقه للحلم أظهر ما لديه من إنعام القادرين وإن كان بطريقة بسيطة ومضحكة. أما في الحلم الثاني فقد زال السحر والبهجة ولم يتبقَّ إلا الاحتيال واضحاً وقبيحاً، لا تُفَرِّط أبداً في الطَّلَبِ وتَعَلَّم متى عليك أن تَمتَنِع عنه. حَقُّ المَنْحِ مكفولٌ للولي وحده، فهو الذي يعطي ما يريد وقتما يريد دون إيعاز من أحد. لا تترك له الفرصة أبداً أن يرفض طلبك، فالأفضل أن تكسب الحظوةَ والأَفضالَ بجدارتك وتنتظر حتى تُوهبَ لك دون أن تطلبها.

 

المشهد 10:

كان الرَّسّامُ الإنجليزي العظيمُ في عصر النهضة ج. م. و. تيرنر (1772 - 1851) معروفاً باستخدامه الغريب والبارع للألوان. ولم يكن الفنانون الآخرون يُحبّون أن يَعرضوا لوحاتِهم بجوار أي لوحةٍ لتيرنر لأنها كانت تجعلُ كلَّ ما حولها يبدو باهتاً وقبيحاً.

في إحدى المرات أصابَ الرَّسّام سير توماس لورنس سوءَ الحظِّ، فوجدَ لوحةَ تيرنر الرائعة كولونيا مُعَلَّقَةً بين لوحتين من لوحاته، فشكا بمرارةٍ لِمالكِ المعرضِ، فرَدَّ عليه رَدّاً قاسياً: بأنه في النهاية يجب تعليق لوحات شخص ما بجوار لوحات تيرنر.

عَرفَ تيرنر بشکوي لورنس، وقبل افتتاح المعرض خَفَّفَ لَوْنَ السماءِ الذهبية الرائعة في لوحتِه لتبدو باهتة كلوحتي لورنس، ورآها أحدُ أصدقائِه وسأله «ماذا فعلتَ بلوحتك؟»، فأجابه تيرنر: «لورنس المسكين كان حزيناً جداً، وما هي إلا طبقة من سخام المصابيح سأغسلها بعد انتهاء المعرض».

التعليق:

ينصب قلق الكثيرين من رجال الصفوة على وليّهم لأن معظم الخطر يصدر عنه، لكن من الخطأ أن تظنّ أن الوليّ وحده هو من يستطيع أن يضرّك، فأقرانك ومرؤوسوك لهم دور في ذلك أيضاً. في مجتمع الصّفوة يختمر الكثير من الأحقاد والمخاوف والمرارة وعليك أن تسترضى كل من يستطيع أن يضرّك يوماً ما، وأن تبعد عنك خطر حسدهم وشعورهم بالمرارة ليتجه إلى أحد غيرك.

كان تيرنر من رجال الصفوة البارزين وكان يعلم أن نجاحه وشهرته يعتمد على زملائه قدر اعتماده على أصحاب المعارض ورعاة الفنون. كثيرون من العظماء سقطوا بسبب کيد زملائهم لهم، فأفضل لك أن تَخفُتَ نبوغك مؤقتاً عن أن تتلقى الطعنات والسهام الحاسدة.

المشهد 11:

كان ونستون تشرشل رَسّاماً هاوِياً، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت لوحاتُه من معروضات الاقتناء، وكان الناشرُ الأمريكي هنري لويس مؤسس مجلتي تايم ولايف يحتفظُ بإحدى لوحات تشرشل الطبيعية معلقةً في مكتبه الخاص في نيويورك.

ذات مرةٍ كان تشرشل في جولةٍ بالولايات المتحدة، وزارَ لويس في مكتبه، وتَأَمَّلَ الرجلان اللوحةَ معاً وعَلَّقَ لويس «إنها لوحةٌ جيدةٌ ولكن ينقصُها شيءٌ ما، ربما بعض الخراف في المقدمة».

شَعَرَ لويس بالفزع حين اتصَلَتْ سكرتيرةُ تشرشل تطلبُ استرجاع اللوحةِ إلى بريطانيا. لَبّي لويس الطلبَ خائفاً من أن يكون قد أَهانَ رئيس وزراء بريطانيا السابق، إلا أنه بعد أيامٍ عادت إليه اللوحةُ لكن مع تغيير بسيط: في المُقدّمةِ كانت تقفُ غنمةٌ صغيرةٌ ترعى الأعشابَ وَحدها.

التعليق:

كان تشرشل يفوق لويس كثيراً من حيث المكانة والشهرة، لكن لويس كان أيضاً بالطبع رجلاً له سطوة، ولذلك كان هناك نوع من النَّديّة بينهما. لكن ما الذي قد يخشاه تشرشل من الناشر الأمريكي؟ ولماذا استجاب لنقده غير المحترف؟

مجتمع الصفوة؛ الذي يحوي في حالتنا هذه كل الدبلوماسيين ورجال الدولة من كل أنحاء العالم إضافة للصحفيين الذين يتقربون منهم؛ هو مجتمع يعتمد فيه كل شخص على الآخرين، وليس من الحكمة أن تهين أو تتجاهل ذوق أصحاب السطوة حتى وإن كانوا أقل منك أو مساوين لك. تَقَبَّلَ رجلٌ في حجم تشرشل للنقد من رجل مثل لويس يثبت أنه رجل صفوة لا مثيل له (كما أنه بتعديله للوحة كان يمارس نوعاً من التنازل والترفع، ولكنه فعل ذلك بلطف شديد جعل لويس لا يستشعر أي إهانة). من المفيد لك دائماً أن تلعب دور رجل الصفوة الودود حتى إن لم يكن لك وليّ تتبعه.

اللعبة المعقدة لتعاملات الصفوة: تحذير

كان تاليران مثالاً لِرَجُلِ الصَّفوةِ البارع خاصة أثناء فترة خدمته تحت إِمْرَةِ نابليون. في بدء تعارفهما قال نابليون لتاليران ذات مرة «يوماً ما سوف آتي إلى منزلك لنتناول الغداءَ معاً». كان المنزل يقع في "أوتويل" وهي إحدى ضواحي باريس.

أجابه تاليران «بالترحيب والسرور سيدي الجنرال، كما أن منزلي مجاورٌ لمنتزه "بوا دي بولوني"، وهكذا يُمكنك قضاءَ فترةِ العصر في ممارسة الرماية».

قالَ نابليون «أنا لا أُحبُّ الرمايةَ، بل أُفَضِّلُ الصَّيدَ. هل توجد خنازير برية في بوا دي بولوني؟». كان نابليون آتياً من كورسيکا، وهناك كان صيد الخنازير البرية من رياضاتهم المُترفة. وبسؤاله عن خنازير برية في منتزهٍ باريسي بَيَّنَ نابليون عن عقليةٍ ريفيةٍ خرقاء. لم يضحك تاليران لكنه أيضاً لم يقاوم رغبته في تدبير دَعابَةٍ تمثيليةٍ ضد الرجل الذي أصبح وليّه السياسيّ، حتى وإن لم يكن من نُبلِ المنشأ الذي لتاليران الذي كان سَليلَ أُسرةٍ مُترفة. أجاب ببساطة على سؤال نابليون «ليس هناك إلا القليل لكن كلي ثقة أنك ستعرف كيف تجدها سيدي الجنرال».

اتَّفَقَ الرجلان على أن يأتي نابليون إلى منزل تاليران في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، وأن يقضي صباحَه هناك، على أن يذهب لِصَيدِ "الخنازير" في فترة الأصيل. وأثناء الزيارة لم يتحدث نابليون عن أي شيء آخر غير الصَّيد، وفي السِّرِّ كان تاليران قد أَرسَلَ خَدَمَهُ إلى السّوقِ لشراء خنزيرين أسودين وأَمرهم أن يُقَيِّدُوهما في المَُنتزه.

بعد الظهر تَوَجَّهتْ جماعةُ الصيد إلى بوا دي بولوني، وأَشارَ تاليران سِرّاً إلى خَدَمِهِ ليطلقوا الخنزير الأول، فرآه نابليون وصَرَخَ فَرحاً «أرى خنزيراً» وانطلق بفرسه للّحاق به بينما تباطأ تاليران، وبعد نصفِ ساعةٍ من الرَّكضِ تَمَّ اصطيادُ الخنزير "البري". عَرَفَ أحدُ مساعدي نابليون أن هذا الخنزير ليس من النوع البريّ أبداً، ورأى أَنَّ القصةَ لو انتشرت ستجعلُ من سيّدِهِ مَثارَ سُخريةٍ، فأَسَرَّ له «سيدي أنت بالطبع تَعلَمُ أن هذا الخنزير داجنٌ وليس برياً».

استَشاطَ نابليون غضباً وركضَ بالفرس مُتجهاً إلى منزل تاليران، وكان يَتَخَيَّلُ طوالَ الطريق تَنَدُّرَ الناس من سذاجته، ورأى أن تفجيرَ غضبِهِ في وجه تاليران كان سيُظهره أَبلهاً ويُعَرِّضُهُ للمزيد من السُّخرية، وأن من الأفضل له أن يَكتُمَ غضبَه ويتظاهر بأنه يضحك من هذه الدعابة، لكن الحقيقة أنه كان يشعر باستياءٍ شديدٍ لم يُخْفِهِ تماماً.

حاولَ تاليران أن يُخَفِّفَ من شعور نابليون بالتجريح والإهانة، وقال له أن الوقت ما زال مُبَكِّراً على الرجوع إلى باريس، وطلبَ أن يعودا معاً إلى المنتزه وأن يصطادا الأرانب التي يعج بها المنتزه، وأخبره أن الملك لويس السادس عشر كان يستمتع كثيراً باصطيادها، بل حتى عَرَضَ عليه أن يستخدم نفس البنادق التي كان يستخدمها لويس نفسه. وأخيراً وبعد الكثير من المداهنة والتَّمَلُّقِ وافقَ نابليون على أن يعود للصيد.

تَوَجَّهَ الجَمْعُ مرةً أخرى إلى المنتزه. طوال الطريق كان نابليون يُكَرِّرُ «أَنا لستُ مثل لويس السادس عشر، وبالتأكيد لن اصطادَ حتى أرنباً واحداً»، لكنه للغرابة وَجَدَ المُنتزه يمتليء بالأرانبِ واصطاد ما يزيد عن الخمسين منهم، وتَغَيَّرَ مزاجُه من التَّعَكُّرِ إلى البهجة والسرور، لكن في نهاية موجة إطلاق الرصاص اقترب منه نفس المساعد وهَمَسَ له «أقولُ لك الحقيقة سيدي، هذه الأرانب ليست برِّيَّة ويبدو أن الوغد تاليران يَتَنَدَّرُ بنا مرة أخرى». وكان المساعدُ على حق، فقد أرسلَ تاليران خَدَمَهُ إلى السوق مرة أخرى واشتروا الأرانب وأطلقوها في بوادي بولوني.

امتطى نابليون صهوةَ حصانِه وانطلقَ مُبتعداً، ولكن هذه المرة تَوَجَّهَ مباشرةً نحو باريس، وفيما بعد هَدَّدَ تاليران أنه لو قال كلمةً واحدةً عمّا حدثَ وجَعَلَ منه سُخريةً لِباريس لَجَعَلَهُ يدفعُ ثمناً يُحَوِّلُ حياتَه جحيماً.

تَطَلَّبَ الأَمرُ شهوراً حتى يستعيد نابليون ثقته في تاليران، ولكنه لم ينسَ أَبداً أو يغفر هذه الإهانة.

التعليق:

رجل الصفوة يشبه الساحر: ذلك أن كلاً منهما يستخدم المظاهر في الخداع والتحايل ولا يجعل الآخرين يرون إلا ما يريدهم أن يروه، وحتى لا ينكشف هذا القدر المستخدم من الخداع والتلاعب على كل منهما أن يُشِتِّتَ أذهان الناس عن رؤية حِيَله أو أن يلمحوا براعة حركاته.

كان تاليران في العادة ساحراً عظيماً في تعاملات الصفوة، بل وكاد أن ينجح في هذا الموقف وأن ينال إرضاء سيده والتندر عليه في نفس الوقت. لكن تعاملات الصفوة من الفنون الدقيقة والمعقدة، ويمكن لأخطاء أو المفاجآت لم تأخذ في الحسبان أن تفسد حتى أكثر حيلك إتقاناً. لا تخاطر أبداً بأن تجعل أحداً يكتشف طرقك أو يلاحظ مناوراتك، لأن ذلك لن يفقدك فقط مظهرك كرجل صفوة نبيل بل سيجعلك تبدو في عيون الآخرين وغداً حقيراً. السطوة لعبة مرهفة وصعبة فابذل كل تركيزك لإخفاء حِيَلِكَ، ولا تجعل وَلِيّكَ يكتشفها أبداً.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN

إقرأ أيضاً:

طرق كي يقوم طفلك بواجباته من تلقاء نفسه

المشاركة في المصاريف تجعل الزواج أكثر سعادة

كيف تتصرفين مع مواقف طفلك من خروف العيد

أسباب رفض الطفل تناول لحم خروف العيد

كلمات إيجابية لها مفعول السحر على أطفالك

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق