صورة الجسد هي التمثيل العقلي الذي يخلقه الفرد عن جسمه، وكل الأفكار والمشاعر الناتجة عن هذا التمثيل التي قد تكون أو لا تكون لها علاقة بكيفية مظهر الشخص الفعلي. وهي تتأثر بعوامل كثيرة، منها البيولوجية والنفسية والبيئية.
كل هذا يجعلها شخصية ومعقدة للغاية أبعد بكثير من انعكاس الصورة التي نراها في المرآة، كما أنها ذات أهمية كبيرة، لا سيما بالنسبة لفئة الشباب والمراهقين الذين يمرون بفترة البلوغ عندما تتغير أجسامهم، وتزداد إفرازاتهم الهرمونية، فتختلط عليهم الأمور فيما يتعلق بصورتهم الجسدية.
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك ضغط الأقران، والتنمر المتعلق بمظهرهم، وكل ما يحيط بهم من معايير جمالية غير واقعية تعكسها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك يجعلهم أكثر عرضة لتطوير صورة جسدية مشوهة قد تؤثر عليهم على مدى حياتهم، من أدائهم الأكاديمي إلى حياتهم المهنية إلى رضاهم عن علاقاتهم العاطفية ونوعية حياتهم بشكل عام. لذلك يعد تعزيز الإحساس السليم بصورة الجسد طريقة مهمة لإعداد الأطفال للنجاح في الحياة، بحيث تظهر الأبحاث أن صورة الجسد الإيجابية ترتبط بازدياد احترام الذات وسلوكيات تؤدي إلى نمط حياة صحي بما في ذلك اتباع نهج متوازن في تناول الطعام والنشاط البدني. في حين يمكن أن يكون لصورة الجسم السيئة آثار سلبية على صحة الشخص الجسدية والنفسية والاجتماعية، ويمكن أن يشمل ذلك اضطراب الأكل، والتمارين القهرية أو الإفراط في ممارسة الرياضة، والاكتئاب، والقلق، وتدني احترام الذات.
تأثير الأهل
وفيما يتعلق بالأمور التي تؤثر في تكوين صورة الجسد، فغالبًا ما يتم التطرق إلى العلاقة مع الأقران والأصدقاء والصور المثالية التي تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي مع كل التقنيات الحديثة التي تتيح استعمال الفلاتر وخيارات تعديل الصور وتجميلها، ولكن هناك عاملًا آخر لا يقل أهمية وهو تأثير الأهل الذين يلعبون دورًا كبيرًا في تكوين معتقدات أطفالهم ومشاعرهم حول شكل وحجم ومقاييس أجسادهم.
لاستكشاف هذا الدور، وعندما نفكر في علاقتنا بأجسادنا، غالبًا ما يكون من الصعب أن نحدد بدقة مصدر رضانا أو عدم رضانا، ومع ذلك، إذا رجعنا بأذهاننا إلى طفولتنا، فقد نتذكر مجموعة من التعليقات أو الملاحظات المرتجلة التي قد لا تبدو مهمة في حد ذاتها، ولكن تأثيرها التراكمي يمكن أن يكون قويًا إلى حد بعيد. ومن هذا المنطلق يمكن لتأثير الأهل أن يأتي على مستويين، أولهما، الملاحظات التي يبديها الأهل عن مظهر أطفالهم، سواء كان ذلك على شكل مجاملات أو انتقادات، وفيما أنه من السهل أن نرى كيف يمكن للانتقادات أن تؤثر سلبًا على صورة الجسم لدى الأطفال، ولكن هناك ما يدعو للاستغراب عن التأثيرات السلبية للمجاملات أيضًا. في الواقع قد يكون للتعبير عن الثناء والإعجاب تأثير مماثل؛ لأنه يمكن أن يترك انطباعًا لدى الأطفال بأن الآخرين يتفحصون أجسامهم باستمرار، الأمر الذي يجعلهم أكثر وعيًا بذواتهم. تقول العديد من النساء اللاتي يعتبرن أنفسهن بأنهن يعانين من الوزن الزائد أن أمهاتهن كن يدلين بتعليقات عندما كن صغيرات عندما يفقدن أو يكتسبن الوزن - وهذه التعليقات لم تكن مفيدة على الإطلاق.
وثانيهما، أن مواقف الأهل تجاه أنفسهم تنتقل إلى أطفالهم، حتى لو كانوا حريصين على إسماع أطفالهم التعليقات الإيجابية فقط. نحن نعلم أن الأطفال يتعلمون من خلال الاستماع والمشاهدة أيضا، وأن التقليد المباشر هو من إحدى صفاتهم الأساسية، وفي هذا الإطار تقول إيمي سلاتر، مديرة مركز أبحاث المظهر بجامعة غرب إنجلترا في بريستول، أنه بالنسبة للأطفال لا يختلف الأمر فيما يتعلق بالرسائل المتعلقة بأجسادهم، بحيث أن: «الآباء يؤثرون في كيفية تفكير أطفالهم في أجسادهم بعدة طرق، وهذا يشمل المشاعر والمواقف والمحادثات التي يجريها الآباء حول أجسادهم ومظهرهم». وهكذا فإن انتقاد شكل أجسادنا أمام أطفالنا - أي الانخراط في «حديث جسدي سلبي» - قد يبدو غير ضار بحسب الظاهر؛ لأنه غير موجه إلى الطفل، لكن الأطفال غالبًا ما يترجمون ويستوعبون بعض الرسائل السلبية من هذا النوع من التعليقات بحيث يمكنهم أيضًا البدء في التفكير والتعبير عن أشياء سلبية مماثلة عن أنفسهم.
وقد وجدت دراسة أجرتها كلية الطب بجامعة هارفارد أن الأمهات اللاتي يبالغن في التأكيد على المخاوف بشأن وزنهن من المرجح أن ينقلن هذا السلوك إلى أطفالهن، وذلك لأن الأبناء يتعلمون كيف يكونون في العالم من والديهم، لذلك، بالنسبة للعديد من البالغين، فإن صراعهم مع صورة الجسد قد لا يكون له علاقة بالأحداث التي حدثت في حياتهم أو بواقع وزن أجسادهم، بل يتعلق أكثر بمشاعر عدم الأمان المتوارثة.
الخجل من الجسد أمر مكتسب وليس فطريًا
ومما يزيد من تفاقم مشكلة تأثير مواقف الأهل على تكوين صورة الجسم لدى أطفالهم هو أن الوعي بالمثل العليا للجسد تبدأ مع الأطفال بوقت مبكر جدًا. وعلى الرغم من أن هذه المثل العليا والمعايير الجمالية تختلف إلى حد بعيد عبر الزمن والثقافات المختلفة بحيث أنه بمجرد إلقاء نظرة سريعة على نماذج متعددة من الشعر العربي القديم تظهر أن البدانة كانت من أهم مقاييس الجمال، فنجد أن الشّاعر المتوكّل الّليثي يمدح امرأتهُ البدينةَ قائلًا:
إذا تَمْشي تأوَّدَ جَانِباها وكادَ الخَصْرُ يَنْخَزِلُ انْخِزالا
تَنُوءُ بِها رَوادِفُهَا إذا ما وِشَاحُها عَلى المَتْنِ جَالا
ويقول الأعشى في معلّقته:
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها مشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
ونجد في الثقافة الغربية التمثال البالغ عمره 29500 عام والمعروف باسم «فينوس ويلندورف»، وهو تمثال لامرأة بدينة يبلغ طوله 11 سنتيمترًا، صنع ما بين سنة 28,000 و25,000 قبل الميلاد، بحيث يمثل أحد آلهة الخصوبة، وقد عثر عليه عالم آثار في موقع يعود إلى زمن العصر الحجري بالقرب من قرية ولندورف في النمسا عام 1908، الذي يُظهر مدى حماسة البشر في احتضان الملامح الممتلئة. لكن اليوم، على الرغم من تنامي الحركة الإيجابية تجاه الجسم التي تحتفي بجميع الأشكال والأحجام، فإن فكرة مثالية الجسم النحيف تظل مهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وسائل الإعلام التقليدية، وكذلك على المستويات الاجتماعية كافة.
كل ذلك يؤثر في الوعي بالمعايير الجمالية للجسد لدى الأطفال الذي يبدأ في وقت مبكر، ويعكس تجربة الأطفال في العالم من حولهم. في إحدى الدراسات، التي نشرت نتائجها في مجلة ScienceDirect في سبتمبر 2012 طُلب من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث إلى خمس سنوات اختيار شخصية من مجموعة من مجسمات لأطفال تتراوح أحجامهم بين نحيفة إلى ممتلئة، لتمثيل طفل ذي خصائص إيجابية أو سلبية. لقد سُئلوا، على سبيل المثال، عن تصنيفهم للشخصيات اللئيمة والطيبة، ومن منهم ممكن أن يكون مزعجًا بالنسبة لهم، ومن منهم يمكن أن يدعوه إلى حفلة عيد ميلادهم، وكانت النتيجة أن معظم الأطفال أظهروا ميلاً لاختيار المجسمات الأضخم لتمثيل الخصائص السلبية. وقد لوحظ أن البيئات الاجتماعية للأطفال كانت مهمة في تطوير مواقف الوزن السلبية والإيجابية، وأن هذا التحيز تأثر بالآخرين لا سيما بمواقف ومعتقدات أمهاتهم حول أشكال الجسم بالإجمال. كما أظهر الأطفال الأكبر سنًا تحيزًا أقوى من الأطفال الأصغر سنًا، مما يشير إلى أن هذا التحيز مكتسب وليس فطريًا. وخلص الباحثون إلى أن النتائج تشير إلى أن معظم الأطفال يطورون مختلف تحيزاتهم في وقت مبكر جدًا، وهو ما يشكل مصدر قلق؛ لأنه من المحتمل أن تكون لديهم فرصة لاستيعاب التصور بأن كونهم أكبر حجمًا أمر غير مرغوب فيه، وأن كونهم أنحف، ليس فقط أمرًا مرغوبًا فيه، بل يرتبط بمختلف المكافآت الاجتماعية.
ما الذي يستطيع الأهل القيام به؟
وكل هذا يدعو للقلق، ويؤكد على دور الأهل الحاسم في تشكيل تصور أطفالهم لأجسادهم الذي يمتد معهم مدى الحياة، ولذلك السؤال الذي يبرز هنا: ما الذي يستطيع الآباء القيام به لمساعدة الأطفال على الشعور بالثقة بأنفسهم، وفي صورتهم الجسدية؟
أولاً، على الأهل معرفة أنهم هم القدوة الأهم في حياة أطفالهم لذلك عليهم تشجيعهم على الشعور بالرضا تجاه أنفسهم وأجسادهم من خلال توضيح كيفية القيام بذلك والقيادة بالقدوة. إلى جانب تشجيع أطفالهم على التحدث عما يفكرون فيه، ويشعرون به تجاه أجسادهم وتوفير مساحة آمنة لهم لمشاركة أفكارهم، على الأهل أن يكونوا على دراية بتأثير الحديث الجسدي السلبي أو الإيجابي، إن كان حول أجساد أطفالهم أو أجسادهم هم أو حتى أجساد الآخرين. كما يمكن للأهل انتقاد الرسائل والصور المجتمعية التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون والإعلانات التي تروج للمظهر المثالي، مثل النحافة أو بناء العضلات، وتشجيع الأطفال على أن يكونوا أكثر حرصا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يتساءلوا ويتحدوا المثل العليا الضيقة للمجتمع فيما يتعلق بالجمال والجاذبية.
في الخلاصة، تعتبر صورة الجسم موضوعًا مهمًا يجب الاهتمام به في تربية أطفالنا بحيث علينا أن نبدأ محادثات بسيطة بشأنه في وقت مبكر، ونواصلها في مختلف مراحل النمو. على طول الطريق، يجب أن نكون النموذج الأمثل لأطفالنا لكي يكوّنوا صورة سليمة لأجسادهم، كما علينا مساعدتهم على رؤية أجسادهم بطريقة متوازنة، والتركيز على النمو باتباع أساليب صحية، دون مقارنة أنفسهم بالآخرين أو ممارسة ضغوط غير ضرورية على أنفسهم.
إتقان مقابلات الإرشاد المدرسي: نصائح أساسية
طرق لتنمية مواهب طفلك واكتشاف شغفه
استراتيجيات لتقوية شخصية الطفل
كيفية التعامل مع عصبية الأطفال: الأسباب والحلول
نصائح وإرشادات لتوجيه وتربية الفتيات المراهقات
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق